مقالاتمقالات المنتدى

العلامة طه جابر العلواني في ذكرى وفاته

العلامة طه جابر العلواني في ذكرى وفاته

 

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)

 

مرت بالأمس ذكرى وفاة علامة الأمة والفقيه القرآني والعالم الرباني الدكتور طه جابر العلواني الذي توفي إلى رحمة ربه ورضوانه ليلة السبت الموافق 4 مارس 2016 الموافق 24 جمادى الأولى 1437ه عن عمر يناهز الثمانين عاما قضاها في خدمة الإسلام و المسلمين طالباً ومعلماً في العراق والقاهرة والسعودية وأمريكا حتى عودته النهائية إلى القاهرة حيث توفاه الله.

عاش علامتنا الراحل عمره ساعياً من أجل بناء منهجية معرفية قرآنية يتجدد بها الفكر الإسلامي حتى يمكن للأمة بناء مشروعها العمراني الحضاري, والذي يؤهلها لاستئناف حالة خيريتها التي هي عنوان اصطفاءها, ويردها إلى موقع الشهادة على الناس والشهود عليهم.

العلواني والقرآن المجيد

لازم الدكتور طه القرآن المجيد من طفولته، فقد حفظه صغيراً، حيث امتن الله عليه بشيخه الأول في المدرسة الدينية؛ الذي رسخ في عقله وقلبه ووجدانه أن كل العلوم والمعارف التي يدرسها عليه، إنما يدرسها كلها لخدمة القرآن، وأن هدفها الرئيس هو مساعدته في فهم معانيه؛ وبذلك ترسخت في عالمنا-منذ الصغر- القناعات بهذا الكتاب الكريم، وأنه هو كتاب الاستخلاف وكتاب الهداية ومنبع كل حكمة وخير. ومنذ ذلك الوقت بدأ علامتنا الراحل غفر الله له طرح التساؤلات على نفسه: لماذا إذن، حال المسلمين بعيد عن هذا الكتاب؟ فالمزايا التي يجري الحديث عنها في كتاب الله، لا نراها في حال المسلمين، ولا نراها في سلوكياتهم، فكيف حدث هذا الفصام؟ ولم حدث؟.

وقد خرج من تساؤلاته تلك بأن السبب الرئيس هو الهجر الممنهج له ولقواعده، والذي نتج عنه تفكك العلاقة بين الأمة وبين كتابها، وأن أهم أسباب أزمتنا الحضارية الراهنة هو غياب “المنهاج القرآني” والعجز عن صياغة سؤال أزمتنا الراهنة بشكل صحيح حتى يعطينا القرآن عبر “منهاجه الكوني” الجواب الشافي. وهو الأمر هذا الذي جعله-رحمه الله- بعد رحلة طويلة مع علوم القرآن وتدريس الفقه وتأسيس المعاهد والمراكز الفكرية والقراءة لعلماء الأمة ينصرف إلى الكتاب الكريم، ليرى الصوارف التي صرفت الأمة عنه قديمًا وحديثًا، ويعرف لما هجره الناس؟

معالم في المنهج القرآني:

طرح الدكتور العلواني في كتاباته قضية المنهاج القرآني عبر التدبر في الآية الكريمة “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا” والتي أسماها آية “الشرعة و المنهاج” وتوصل إلى الحقيقة الناصعة, وهي أن القرآن الكريم المجيد المكنون كما اشتمل على الشريعة بتفاصيلها فقد اشتمل على المنهج بمحدداته-كلها-وأن الله-تبارك وتعالى- كما أكمل لنا الدين, وأتم علينا النعمة, فصل لنا الشريعة, فقد أودع كتابه “المنهاج” القادر على التصديق على سائر ما وصلت البشرية إليه من مناهج و الهيمنة عليها”.

ومن خلال صبره وتدبره لآيات القرآن الكريم، وصل إلى أن التوحيد دعامة أساسية، وبعد التوحيد تأتي التزكية، فإذا كان التوحيد حق الله على الإنسان، فمن حق الإنسان وواجبه أن يتزكى بمقتضى التوحيد؛ ليكون علاقة مع الغير، ثم يأتي بعد ذلك العمران؛ وهو حق الكون علينا، وهذه المقاصد الثلاثة تكشف لنا عن جدلية وتفاعل تقوم بين الله والإنسان والكون المسخر، فالله هو الخالق المُستخلِف، والإنسان هو المخلوق المُستخلَف، والكون هو المُسخر، وهو ميدان الفعل.

وقد أكد في دراساته الأخيرة أن المسلمين يمكنهم عبر فهم واع للقرآن ورسالته الكونية وهيمنته المعرفية, وتبنيه للمعادلة التي يقدمها, والتي “تبني تصوراً شاملاً ومترابطاً للفرد والمجتمع والأمة والدولة… تلك المعادلة التي تنبع من الوحي المقروء في جدل مستمر مع الكون المنظور يحققها الإنسان المستخلف المتمكن من منهجه السماوي”, وأدواته المعرفية القادرة على تحقيق التوحيد والعمران والتزكية التي هي ثلاثية منظومة القيم في الإسلام, وعبر منهجية التجدد الحضاري والمنظور الحضاري القادر على الإجابة على أسئلة الواقع, يستطيعون فهم وتحليل عوامل الاستمرار, وآليات التغيير في الواقع العالمي المعاصر, ويتخلصوا من آثار “المفاهيم المعرفية الغربية المتمحورة حول ذاتها, وتحقق الأمة شهودها الحضاري الذي طال تأخره.

خلاصة مشروع العلواني:

1-العمل على بناء وتأسيس وعي قرآنيّ جديد، يعيد بناء وتشكيل العقل المسلم بناءً معرفيًّا ومنهجيًّا، موظفًا سائر قوى الوعي الإنسانيّ في ذلك.

2-صياغة «خطاب إسلاميّ جديد» انطلاقًا من قراءة شاملة تجمع بين الوحي والكون، ومنه الواقع المعاش.

3-مراجعة «التراث الإسلاميّ» مراجعة نقديَّة تبدأ بمحاكمة ذلك التراث وعرضه على كليَّات القرآن المجيد ومقاصده العليا الحاكمة «التوحيد والتزكية والعمران»، لاستبعاد مَا يتعارض وقيم القرآن المجيد، ويؤدي إلى الغلوّ والتطرُّف والتعصب ورفض الآخرين.

4-تقديم السنَّة التشريعيَّة باعتبارها تطبيقًا واتِّباعًا للقرآن المجيد لا تستقل بالتشريع؛ بل يجب أن تكون دائرة حول القرآن المجيد خاضعة لهيمنته وتصديقه.

من العمران المادي إلى العمران القرآني

عاش العلواني، لحظة أزمة إسلامية عالمية مركبة شاملة، تتطلب التفكير العميق في التحول الحاصل من جرائها. وحاول البحث عن أسباب هذه الأزمة ومنهج الخروج منها، فابتدأ من أصول الفقه، مروراً بالعلوم الاجتماعية الغربية وأسلمتها، لينتهي إلى ضرورة، بل حتمية، عودة المسلمين والناس جميعاً إلى قرآنهم بعد هجرانه. ومؤكداً، أن القرآن المجيد، يمتلك منهجية معرفية، لا تختص بحقل معرفي ديني أو إنساني محدد، لكنه منهج معرفي، يهيئ الإنسان لحالة عقلية ونفسية تطلق طاقاته كلها، للقيام بركن القراءة في الكون، لتحقيق غاية الحق من الخلق: في “العمران” ولتتحقق “التزكية” الفردية والجماعية لأبناء آدم.

وأن شرط التحول والانتقال، من العمران المادي السائد اليوم إلى العمران الحضاري القرآني، إنما هو في اكتشاف واتباع المنهجية المعرفية القرآنية القائمة على المقاصد القرآنية العليا المتمثلة في: التوحيد والتزكية والعمران، والتي تبني أمة الدعوة الحاملة لمشروع العمران المحقق للحياة الطيبة لأبناء آدم، فالعمران الحضاري، عند العلواني، مفهوم قرآني، يرتبط لزوماً برؤية ونمط حياة المجموعة البشرية ونمط حركتها على الأرض.

أهمية المساهمة العلوانية القرآنية

وتستمد المساهمة العلوانية، قيمتها البالغة اليوم، من واقع قدرتها على المساهمة في تحليل أزمة أمتنا المسلمة من جهة، والأزمة العالمية المعاصرة، التي تتمثل أكثر ما تتمثل في طغيان وسيادة عالم الأشياء، وارتباط خلاص الإنسان بمفهوم الرفاه المادي من جهة أخرى، بالإضافة لرؤيته الدقيقة لهما، وتمييزه المحدد للعلاقة الحساسة بين العمران والحضارة .

لقد حاول العلواني أن يقدم تصوراً قرآنياً معرفياً للعمران الحضاري، يسمح بإمكانية بإعادة بناء الأمة من جديد في هذا العصر، مؤكداً أن الإسلام كدين يشدد على الحياة والعمران والتزكية المنطلقة من التوحيد، وأن فهم أزمة حضارتنا، يعني تجديد الأدوات والمصطلحات والتعابير، والمنهجية الفكرية الشائعة في تراثنا ولدى الحضارة المهيمنة على عالمنا، وأن نكسر قيود التقليد وتقديم عطائنا المبدع دون خوف، قياماً بأمانة الاستخلاف والعمران.

خاتمة

ما زال مشروع العلواني القرآني لإعادة بناء الأمة، يثير العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى دراسات مفصلة، لعل من أهمها: ما يتعلق بتفصيل رؤيته للتوحيد والتزكية والعمران-خاصة بعدي التزكية والعمران-، وكيفية تشغيل منظومة القيم القرآنية العليا من خلال المجتهد الفرد، أو عبر الاجتهاد الجماعي، وكيفية الجمع بين علماء الاجتماعيات والطبيعيات لبناء منهاجيتها المعرفية. وكذلك، توضيح مفهوم المنهجية المعرفية القرآنية ومحدداتها بشكل دقيق لا يحدث لبساً لدى مستقبليه ولا مستعمليه؟

وكيف يمكن إحداث التصديق والهيمنة لهذه المنهجية المعرفية على تراثنا كله، وبل وتراث الإنسانية وإعادة ربطه بالقرآن المجيد؟ وكيف يمكن أن نتغلب على الصدمات الناتجة عن هذا المشروع، وما يمكن أن تقدمه نتائجه على تراثنا-وعلوم القرآن والسنة خاصة-، من الجديد الصادم، لما ألفه المسلمون عبر أجيال عديدة وظنوا أنه من ثوابت الدين.

وكيف يمكن معالجة قضية السقف المعرفي واختلافه من عصر إلى عصر، وتأثيره على طبيعة وثبات هذه المنهجية. وما هي الضمانة، لعدم التضارب من عصر لآخر في النتائج الناتجة عن منهجية القرآن المعرفية، بسبب اختلاف السقف المعرفي وتطور مناهج الفكر الإنساني والعقلية الإنسانية ؟ وكيف نحقق الاتفاق على المراحل الزمنية للمراجعات المطلوبة لتاريخنا بين فصائل الأمة من سنة وشيعة وخلافه؟

وكيف يمكن أن نقنع المسلمين والعالمين ونحن في موقعنا المستهلك الحالي من العلم لا الشريك الفاعل، أننا نستطيع بالتوحيد والرؤية الكلية الإسلامية و(منهجية القرآن المعرفية) أن نعالج أزمة العلم، وأزمة المنهج، ونقوم بتنقية الفلسفة، وإعادة توظيف العلوم ضمن ناظم منهجي ومعرفي توحيدي ديني؟

إن مشروع العلواني، لبناء العمران القرآني الذي تحفزه، دوافع إيمانية، والقائم على استرداد العافية والثقة للإنسان المسلم في هويته القرآنية وقدرته على الفعل، لا التقليد والكسل المعرفي، والمبني على التعقل والإيمان والعمل المزكى العمراني، هو مشروع واعد لإعادة بناء الأمة، لا يزال يدرج في طفولته، ولم يتخط بعد دور التجريب، وهو يحتاج من الأمة وعلماؤها جهوداً كبيرة لجعله حقيقة تنبئ بعالمية جديدة، تحقق عمراناً مشوباً بالقيم يحقق الحياة الطيبة لأمتنا وللناس أجمعين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى