مقالاتمقالات مختارة

العقل القَبَلي بين إرث الدين وطبيعة الدولة

العقل القَبَلي بين إرث الدين وطبيعة الدولة

بقلم د. مسفر القحطاني

تحليل العلاقة بين الكيانات المجتمعية داخل أي نطاق، يعتبر من القضايا المهمة والعويصة أيضاً، وغالباً ما تظل هذه العلاقة محكومة بالمعالجات السطحية والرسمية، بينما ملاحظتها ومتابعة تأثيراتها الآنية والمستقبلية، عملية شاقة من الناحية العلمية لأنها تستلزم أدوات تحليل وبيانات متنوعة ومسحاً ميدانياً لمتابعة أي ظاهرة تطرأ لدى أحد تلك الكيانات المجتمعية، وهذا الميدان على أهميته السياسية والاجتماعية، لم يلق اهتماماً معرفياً إلا من القليل جداً، خصوصاً في أوساطنا العربية، ومن يحاول الغوص في دراسة تلك العلاقات هي المؤسسات الغربية السياسية والأكاديمية؛ وفي شكل لافت جداً.

ونظراً إلى ضعف العناية ومحدوديتها بهذا المنحى، أحاول في السطور التالية بيان شيء من هذه الأهمية بإشعال شمعة في هذا السبيل المعرفي. ومن أهم هذه العلاقات التي تستحق التجلية والتوضيح ورصد المتغيرات بين الكيانات المجتمعية؛ ما يتعلق بعلاقة القبيلة بالدولة والعكس.

وهنا، في العنوان استُخدم مصطلح (العقل القبلي) وهو مقصود، لأنه يشمل من حيث التداول؛ الخطاب القبلي ونمط التفكير المستخدم وأدبيات التعبير عن هذا العقل، بينما الدولة، تم استعمال (طبيعة) وأظن هذا اللفظ ينسحب نحو الشكل والمضمون المتعارف عليهما في أي دولة، حيث إن السمت العام للدولة يظهر من خلال ملامح محددة متعلقة بصورة السلطة والدستور والتشريعات التابعة لها، وهو اقتباس من استعمال ابن خلدون هذا المصطلح في مقدمته المعروفة عندما عقد أكثر من فصل في طبيعة الدولة أو الملك، بذكر أشكال عدة وصور لهذه الطبيعة التي ترسخت وتراكمت تجاربها مع الزمن في أكثر من مكان. (انظر على سبيل المثل: ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: خليل شحادة، طبعة دار الفكر 1988، ص 25). ولا ننسى أن من بين تلك المكونات الراسخة للمجتمعات البشرية ما يتعلق بالدين وموروثاته التي هيمنت على المجتمع بصفة منحته القدسية والاحترام. أمام هذه المعطيات جميعاً، (القبيلة والدين والدولة) أحاول تفكيك بعض هذه التداخلات وإظهار بعض الإشكاليات في تلك العلاقة، من خلال المسائل الآتية:

أولاً: هل هناك علاقة انسجام أم تضاد بين القبيلة والدولة القومية الحديثة؟ الجواب حول طبيعة هذه العلاقة وشكلها، يمكن أن تحدده القبيلة في الدرجة الأولى وليس الدولة، فالدولة المعاصرة المستقرة بسبب هيمنتها على السلطات كافة وقوتها المؤسساتية، أصبحت ذات كيان سياسي مختلف عن القبيلة ذات الكيان الاجتماعي، ولن تقدر القبيلة على منافسة الدولة في هذه الحالة، ولكن الإشكال؛ إذا أصبحت القبيلة كياناً سياسياً واجتماعياً، أفراده منسجمون بعلاقة نَسَبية تجتمع وفق العِرق والدم، وتشكل (عصبية) تولّد عقد حماية اجتماعياً مخفياً بين أفراد تلك القبيلة، يظهر في الأفراح والأتراح وعند المنازعات مع قبائل أخرى، هذا النوع من القبيلة يتضاد كلياً مع طبيعة الدولة، حتى لو بقيا في سلم مدني واعتراف ضمني تذعن له القبيلة للدولة، ومن هنا تثور أسئلة أخرى، عن الخطر الممكن والكامن في هذا النوع من القبيلة على المجتمع الذي يضم مكونات أخرى (قبائل وعوائل قروية وحضرية ووافدون) وأيضاً على طبيعة الدولة من جهة أخرى، يظهر هذا الخطر الواقع أو المتوقع عند الأزمات، فالقبيلة في الأصل؛ نشأت قبل الدولة منذ أقدم العصور وكان أسسها الإنساني عند القيام والتشكّل؛ هو الشعور بالخوف عند الأفراد؛ ما يجعلهم يعودون نحو العِرق الذي كوّنهم ويلتجئون إلى حبلهم السريّ من جديد ليظفروا بالأمن والغذاء، وهكذا أصبحت القبيلة مكمن الأمن عند الخوف، وهذه الحاجة الطبيعية ليست سبباً في تهديد الدولة والمجتمع، ولكنها قد تتحول إلى عامل توتر وقلق، عندما تصبح القبيلة كياناً سياسياً يتضافر مع أمشاج النسب والعِرق الذي يلاحم بين أفرادها ولو كانوا متناقضين في الثقافة والمال والدين. هنا، تصبح القبيلة كياناً مستعداً للقيام بدور الدولة، خصوصاً في مراحل ضعفها أو انهيارها، كما هو ملاحظ في اليمن وليبيا وأفغانستان وحتى في العراق كمهد لأعرق الحضارات البشرية، ومن ثمّ يتحول الخطر ويتداعى أيضاً على مكونات المجتمع الأخرى، فالقبيلة التي تحاول السيطرة تريد أيضاً النفوذ الجغرافي والتوسع حسب قدراتها العددية والمالية، ومن ثمَّ يتحول طموح القبيلة ليس فقط في احتلال مكان الدولة؛ بل في تصفية كل المنافسين وفق عقلية جاهلية متوارثة عمادها قول دريد بن الصمة: «وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت… غويت وإن ترشد غزيّة أرشد». (انظر: جمهرة أشعار العرب، لأبي زيد القرشي، تحقيق البجادي، نشر نهضة مصر للطباعة، ص 468). هذا الواقع القبلي أثمر حروباً أهلية مستعرة في الصومال وليبيا ورواندا وأفغانستان، وبالكاد ترضخ القبيلة لضرورة العودة إلى منطق الدولة وطبيعتها، إلا بعد مرور فترة طويلة من المواجهات الحربية الشاملة.

ثانياً: ما هو الموقع الذي يجب أن تبقى القبيلة في حدوده مع الدولة؟ وهذا السؤال يحدد العلاقة التي يجب أن تُرسم للقبيلة لتبقى في حدود المقبول بدلاً من أن تتحول إلى مهدد سياسي واجتماعي، وأعتقد أن رسم حدود هذه العلاقة يمكن اعتباره من سياسة النبي (صلى الله عليه وسلم) مع القبيلة، فالنبي لما هاجر إلى المدينة كانت بداية نشأة الدولة الأولى للمسلمين وغيرهم في الجزيرة العربية، ولم تكن هناك سابقة في هذه المنطقة لتقبّل مفهوم الدولة، فالجغرافيا للدولة أصبحت متوفرة في يثرب وما حولها، ثم أصبح الرسول (عليه الصلاة والسلام) هو صاحب السلطة، ونظّم العلاقات بين الأفراد وفق قانون التشريع (الوحي) وعلى شكل وثائق دستورية مثل وثيقة المدينة التي نظمت العلاقة بين المسلمين واليهود والوثنيين من أهل يثرب، بمعنى أن طبيعة الدولة توفرت في عهد النبي (إقليم وسلطة وقانون)، وأما بالنسبة إلى القبيلة المكوّن الأقوى والجذر الأعمق في نفس العربي، فقد أبدلها بالأخوة الدينية وفق معايير أخلاقية رفيعة، ثم قام بتأطير وجودها في الدائرة الاجتماعية التي تقتضي الصلة والوفاء بحقوق القرابة، والتناصر عند الغزوات؛ كضرورة عسكرية تزيد من الحمية عند القتال، أما ما سوى ذلك فكان يدخل في المنع والتحذير، فإذا طغت القبيلة نحو التناصر في السلم ورفع رايتها فوق الإسلام؛ ففي هذه الحالة كان يتعامل معها النبي بجدية وصرامة، كما جاء الحديث عندما تنازع مهاجري وأنصاري على السقي في أحد الغزوات فسمِع ذاك رسولُ اللهِ، فقال: «ما بالُ دَعوى جاهليةٍ». قالوا: يا رسولَ اللهِ، كسَع (ضرب) رجلٌ من المهاجرينَ رجلاً من الأنصارِ، فقال: «دَعوها فإنها مُنتِنَةٌ» (رواه البخاري في صحيحه رقمه: 4905) ومثلها حوادث كثيرة كانت تقع بين القبائل في المدينة فيطفئ حرّها قبل أن تلتهب. وأما تجفيفه ولاء القبيلة وإبداله بولاء دولة الإسلام الجديدة؛ فجاء من خلال نهيه الصريح عن العودة إلى البادية بعد الهجرة، وهذا يعني عدم العودة إلى أحوال لا تليق بالدور الجديد للمسلم، فقال عليه الصلاة والسلان: «اجْتَنِبُوا الكبائرَ السَّبْعَ – وذكر منها – والتَّعَرُّبُ بعدَ الهِجْرَةِ» (انظر: السلسلة الصحيحة للألباني، رقمه: 2244)، أي العودة إلى حياة الأعراب والقبيلة، والخلفاء بعده ساروا على الطريقة نفسها، ومن أهم التدابير لتخفيف غلواء القبيلة ومزجها بالتدرج بطبيعة الدولة، ما فعله عمر بن الخطاب لما مصّر الأمصار وبنى المدن، فكان يختطها ويوزع الأحياء السكنية ومن يسكنها من القبائل بنفسه، وهذا لم يتحقق قبله إلا في المدينة بعد الهجرة، ولم يكن أمراً سهلاً على من اعتادوا حياة القبيلة أن يتفرقوا مباشرة في السكن داخل المدن الجديدة، بل تدرج بهم من خلال جمعهم في أحياء خاصة بهم داخل سور المدينة، وساهم هذا الإجراء مع الأيام بدمج بعضهم ببعض من خلال الاجتماع اليومي في المسجد والسوق والطرقات، وزاد بعد ذلك التلاحم المدني بالمصاهرة والشراكة في الفلاحة والتجارة. (انظر على سبيل المثل بناء البصرة: البلاذري: فتوح البلدان، نشر دار ومكتبة الهلال 1988، 1/ 346 – 347).

ثالثاً: كيف تفكر القبيلة المعاصرة؟ وهل وجود القبيلة وتفرقها في مؤسسات الدولة والتصاهر والتلاحم مع بقية مكونات المجتمع منحها طريقة مختلفة في التفكير عما كانت عليه قبل ذلك؟ وهذا السؤال يقتضي محاولة فهم العقل القبلي المعاصر، وطريقة تعامل الدولة الحديثة معه، فمن خلال تلك العلاقة يظهر الفرق، فالدولة التي تقوم على صهر كل المكونات في وعاء الهوية الوطنية، ثم تمنح الجميع حقوقاً متساوية مقابل واجباتهم تجاه الدولة، يجعل الدولة هي الكيان الوحيد والقوي وما سواه يدخل في مؤسسات المجتمع المدني التي تتكامل في أدوارها مع واجبات الدولة، وهذا النجاح هو أعظم ما توصلت إليه المجتمعات الغربية بعد عصر الإمبراطوريات والإقطاع وهيمنة الثيوقراطية السياسية، فالعقد الاجتماعي والديموقراطية السياسية لم تتبلور في شكل واقعي إلا بعد أكثر من قرنين من الجهود الفكرية والتطويرية لأدوات المشاركة وتشريع الحقوق، على رغم وجود اختلاف الدين واللغة والعنصر القومي والتاريخ الدموي في أوروبا. أما القبيلة العربية اليوم فهي تنسجم مع العدالة والمساواة إذا ما تحققت، ولكن حمايتها واستمرار بقائها وفق ولاء محسوب للدولة، قد ينذر ببعض الأخطار، وهنا نحتاج إلى معرفة كيفية عمل العقل القبلي، أجملها في الآتي: أحدها، أن العقل القبلي غالبه نسق ماضوي، بمعنى تاريخه ومآثره هي في الماضي أكثر منها في الحاضر؛ فتقوم على قصص وأساطير البطولات التي حققها الأجداد في صراعهم مع القبائل الأخرى، وأشعارهم وأناشيدهم كثير منها ينمي عنصر الولاء للقبيلة القوية المتفردة عن غيرها، وهذه المشاعر ما لم تضبط بقيم الدين والولاء للدولة بمؤسساتها وقيمها الوطنية فإنها ستؤجج العصبية والكراهية للقبائل والحواضر الأخرى، والإشكال الآخر أنها قد تتنامى في مجالات تقبع في الظل وتتجذّر في العمق الوجداني لدى الفرد، وتظهر أحياناً على صور، مثل: مسابقات شاعر القبيلة، والتحاكم عند الاختلاف لشيخ القبيلة، والتلاحم مع بعضهم في الفرص الوظيفية والسمع والطاعة حتى في المكره لأمر القبيلة. هذه الحالات إن وجدت في العقل القبلي المعاصر فالظاهر أن ولاءها للدولة شكلي وعند المناسبات، والأخطر عندما يكون موقفهم في الأزمات؛ سلبياً متفاعلاً وغير فاعل، ثانياً، من طرائق تفكير العقل القبلي: أنه يفكر في الشكل ولا يتجرأ على تغيير المضمون، فالعادات التي توارثتها القبيلة قد تكون في الحاضر ضرراً بالغاً ومفاسد اجتماعية ولكن يصعب أن يتجرأ أحد على تغيير تلك الأنماط بسهولة، كما في عادات الزواج والاحتفالات والمغارم وغيرها، أما التغيير الشكلي في التحول من الخيام إلى القصور أو الحصول على الشهادات العليا، فهو كثير، ولكن يبقى شكلياً ما لم يصل إلى تغيير حقيقة المضامين، ثالثاً؛ من أنماط تفكير العقل القبلي: التبجيل الهائل للرموز والاحتفاء الكبير للأشخاص، أكثر من الأفكار، وهذا ما يجعل العقل القبلي عقلاً جمعياً يسيطر عليه البارز في شخصيته أو شعره أو مكانته الاجتماعية.

وربما تساءلنا عن دور المعطيات التقنية وثورة التواصل والاتصال في تغيير بنية العقل القبلي؟ والملاحظ في شكل انطباعي، أنها ساهمت في تأجيج السياق الماضوي والعقل الجمعي للقبيلة أكثر من الدفع الإيجابي بها نحو الانتماء إلى الدولة الحديثة.

رابعاً: في علم الاجتماع الديني يظهر تمازج كبير بين الأصول العرقية لفئة معينة؛ مثل القبائل في حالتنا العربية، والتراث الرمزي الذي تستبطنه كل جماعة بشرية باعتداد كبير؛ لتعرض نفسها كوحدة مختلفة متفردة، مقارنة بغيرها من الجماعات البشرية الأخرى، ومن هنا ندرك ربط الصلات الوثيق بينها وبين الدين. (انظر: علم الاجتماع الديني. الإشكالات والسياقات، للباحثين: أكوافيفا، وباتشي، ترجمة عز الدين عناية، نشر هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2011، ص 182) فالعلاقة بين الدين والقبيلة علاقة متداخلة في ناحيتين: الأولى: أن الدين يرفض العنصرية ويدعو إلى المساواة مع الآخر، ولكن تم سحب صورة تدينية من الدين لتتوافق مع إضفاء التميز على القبيلة في إطار الدين، الناحية الأخرى: أن القبيلة تظهر ولاءها الأكبر للدين، ولكن وفق رموز القبيلة واختياراتها وطبيعتها التدينية، بحيث لا يتعارض الدين مع اختياراتها الخاصة في التفوق العرقي. فاليهود كعرق مختلف حاول من خلال الدين أن يُظهر عنصريته في كل تصرفاته الدنيوية والسلطوية وعلاقته بالآخرين من خلال قداسة التوراة التي ينطلقون منها زوراً وبهتاناً، ومن الشواهد أيضاً على هذا التداخل؛ ما حصل في يوغسلافيا في الفترة من 1992 – 1995 من حرب شرسة بدأت من خلال الصراع المسلح المرتبط بالتنوع العرقي لينتهي إلى حرب أشرس أساسها ديني، فأصبح نمط القتال يتوزع على أساس: أرثوذكسي وكاثوليكي ومسلمين. (المرجع السابق 183)، كما أن هناك ملاحظة تشهد لهذا الترابط بين الديني والقبلي؛ عندما تركز الجماعات الإرهابية على استقطابها الشباب من خلال دوافع قبلية كانت مؤثرة في استجابتهم للتطرف.

وختاماً: أريد في نهاية هذا المقال؛ أن أفتح المزيد من الأسئلة البحثية بين علاقة الدولة والقبيلة والدين، لتبقى مجالاً للبحث العلمي والاجتماعي العميق، الغاية منه نزع فتيل الفتن في البلاد العربية والإسلامية، ومحاولة تمدين القبيلة في مضامينها الداخلية، وتطوير طبيعة الدولة لمزيد من المواطنة الحقيقية، وأعتقد جازماً أن بذور الشقاق والتقسيم لوطننا العربي التي استغلت الطائفية في تبديد وحدتنا واستقرارنا، أخشى أن تستغل القبائلية في إكمال مشروعها التدميري لمجتمعاتنا الباقية.

 

 

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى