مقالاتمقالات مختارة

« العقل العقدي» و « العقل الجبري » 1من 2

« العقل العقدي» و « العقل الجبري » 1من 2

بقلم د. أكرم حجازي

بدلا من أن تواجه قوى الأمة، خاصة العلماء والحركيين والمفكرين، « الحكم الجبري»، عبر تشخيصه أولا، ثم التعامل معه ثانيا، تعايشت معه حتى صارت تفكر بعقلية » الجبر«!! فلما وقعت في ﴿ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ﴾ طغى « العقل الجبري» على « العقل العقدي»، فاختلط الدين بالدنيا والسياسة الوضعية بالسياسة الشرعية والحلال بالحرام والحق بالباطل.

  سيكون لدينا في هذه الحلقة ثلاثة محاور للبحث هي:

  • أنماط الحكم في الإسلام 
  • الإسلام ولغة الأيديولوجيا
  • نماذج أيديولوجية لمفاهيم عقدية:
  • الخلافة
  • الشريعة
  • نظرية الإعداد

أولا: أنماط الحكم في الإسلام 

الشائع لدى القوى الإسلامية ورموزها القول بأن الإسلام لم يحدد نظام حكم خاص تخضع له الأمة!! وأن الأمر تُرِكَ للاجتهاد، وهذا « الاجتهاد» يتبنى « الدولة القومية» بكل مدخلاتها ومخرجاتها بما في ذلك مصطلحات « الاستقلال» و « السيادة» و « الحرية» و « الوحدة الوطنية» و « العدالة» و « المساواة» و « المدنية وحتى « الديمقراطية. وفي المحصلة سيتبنى أيضا مصطلحات « الشعب» أو « الأمة» مثلما سيضطر إلى تبني تاريخا محليا و حضارة محلية بحيث تغدو هوية كل شعب وانتمائه راجعا إلى « العرق» أو « القومية» الجديدة وليس إلى الإسلام الذي اجتمعت عليه الأمة بمختلف مكوناتها العرقية والقومية لنحو 1300 عام مضت!!! والسؤال: هل وردت مثل هذه المصطلحات أو أي منها أو مثلها في التاريخ الإسلامي؟ وهل سبق أن اجتمعت الأمة في مثل هذه الصيغة خلال العهد النبوي مثلا أو خلال عهدي الخلافة والملك العاض؟ أي صيغة الدول والشعوب والقوميات والأعراق والإثنيات؟ أم أن الصيغة الحالية لم تظهر إلا في العهد الجبري؟ وهل من الصحيح الاعتقاد حقا بأن الإسلام لم يحدد للأمة شكلا للحكم تجتمع عليه حتى يبدو الشكل الحالي وكأنه مشروعا إنْ لم يكن طبيعيا؟ أليس هذا اندراجا في « الحكم الجبري» وتشريعا له؟

  مما لا شك فيه أن أحاديث الخلافة تفند هذه الأطروحة تفنيدا تاما. وانطلاقا من حديث حذيفة عن الخلافة سنورد فيما يلي أبرز الأحاديث التي بينت أنماط الحكم في الإسلام وكذا المراحل التي ستمر بها الأمة إلى أن تقوم الساعة:

1) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلًا يَكُفُّ حَدِيثَهُ، فَجَاءَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، فَقَالَ: يَا بَشِيرُ بْنَ سَعْدٍ أَتَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْأُمَرَاءِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا أَحْفَظُ خُطْبَتَهُ، فَجَلَسَ أَبُو ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ ” ثُمَّ سَكَتَ قَالَ حَبِيبٌ: ” فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي صَحَابَتِهِ، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي عُمَرَ، بَعْدَ الْمُلْكِ الْعَاضِّ وَالْجَبْرِيَّةِ، فَأُدْخِلَ كِتَابِي عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَسُرَّ بِهِ وَأَعْجَبَهُ.

2) عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنْتُمْ فِي نُبُوَّةٍ وَرَحْمَةٍ، وَسَتَكُونُ خِلَافَةٌ وَرَحْمَةٌ، وتكون كذا وكذا، وتكون مُلْكًا عَضُوضًا فَيَشْرَبُونَ الْخُمُورَ وَيَلْبَسُونَ الْحَرِيرَ، وَمَعَ ذَلِكَ يُنْصَرُونَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.

3) الخلافة ثلاثون عاماً، ثم يكون بعد ذلك الملك.

4) عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  أول هذا الأمر نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة ثم يكون ملكا ورحمة ثم يكون إمارة ورحمة ثم يتكادمون عليه تكادم الحمر فعليكم بالجهاد وإن أفضل جهادكم الرباط وإن أفضل رباطكم عسقلان.

5) رواه إسحاق بن راهويه: أبنا جَرِيرٌ، ثنا لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن سَابِطٍ الْجُمَحِيِّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: “كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَتَنَاجَيَانِ بَيْنَهُمَا حَدِيثًا، فَقُلْتُ لَهُمَا: أَمَا حَفِظْتُمَا فِي وَصِيَّةَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: فَجَعَلَا يَتَذَاكَرَانِهِ فَقَالَا: إِنَّمَا بدء هذه الأمة نبوة ورحمة ثم كائن النبي – صلى الله عليه وسلم – خلافة ورحمة، ثم كَائِنٌ مُلْكًا عَضُوضًا، ثُمَّ كَائِنٌ عُتُوًّا وَجَبْرِيَّةً وَفَسَادًا فِي الْأُمَّةِ يَسْتَحِلُّونَ الْخُمُورَ وَالْفُرُوجَ وَفَسَادًا فِي الْأُمَّةِ، يُنصرون عَلَى ذَلِكَ ويُرزقون حَتَّى يَلْقَوُا اللَّه.

6) عن أنس، الذي له حكم المرفوع، قال: إنها نبوة ورحمة, ثم خلافة ورحمة, ثم ملك عضوض, ثم جبرية, ثم طواغيت.

7) عند أحمد قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ عَامًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُلْكُ” قَالَ سَفِينَةُ: أَمْسِكْ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَ سِنِينَ وَخِلَافَةَ عُثْمَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتَّ سِنِينَ). ولفظه عند أبي داود بسند صحيح عن سفينة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: “خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً… .

8) وعن سهل بن أبي خيثمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ألا وإن الخلفاء بعدي أربعة والخلافة بعدي ثلاثون سنة نبوة ورحمة ثم خلافة ثم ملك ثم جبرية وطواغيت ثم عدل وقسط، ألا إن خير هذه الأمة أولها وآخرها.

 إذن الأمة، وبموجب الأحاديث أعلاه، ستعرف أربعة أنماط حكم على التوالي هي: (1) النبوة، و (2) الخلافة، و (3) الملك العاض، و (4) « الحكم الجبري». لكنها ستقطع خمسة مراحل زمنية هي: (1) النبوة، و (2) الخلافة، و (3) الملك العاض، و (4) « الحكم الجبري»، وأخيرا (5) الخلافة.

 وضمن هذه الأنماط والمراحل يلزم الانتباه الشديد إلى أن كل نمط من الأنماط الأربعة هو بالضرورة نمط حياة له مرجعياته وفقهه ومصادر تلقيه:

  • المرحلة النبوية، ومرجعيتها الوحي الذي لا يكون إلا التصديق والإيمان.
  • مرحلة الخلافة، ومرجعيتها المنهج النبوي الذي يحث على الاقتداء.
  • الملك العاض، ومرجعيته القرآن والسنة، لكن مع التغلب.
  • مرحلة « الحكم الجبري»، ومرجعيته الشرائع الوضعية حيث الاستعباد.

     يلزم الفهم من « التنميط» و « التمرحل» القول بأنه إذا كانت النبوة لا تفرز إلا تصديقا وإيمانا أو تكذيبا وكفرا فكذلك الأمر بالنسبة للخلافة التي لا يمكن لها أن تفرز إلا نمط تفكير يقوم على الاقتداء بمنهج النبوة. وينطبق هذا على الملك العاض الذي أنتج نمطا من التفكير يشرع للحاكم المتغلب ويبرر له سيادته، وكذلك على « الحكم الجبري» الذي يحكم بسلطان الشرائع الوضعية. وتأسيسا على ذلك فمن شبه المستحيل أن نعاين مثلا في عصر النبوة أو الخلافة أو الملك العاض عبارات من نوع « فقه الاستضعاف» أو « طاعة ولي الأمر» أو « التوافق» أو « الوسطية» أو « استعادة الخلافة» أو « تطبيق الشريعة» أو « مساواة» أو « حرية» أو « عدالة» أو « ديمقراطية» أو « تسامح» أو …. وهذا يعني حُكما أن كل نمط وكل مرحلة لها مرجعياتها الشرعية ومخرجاتها الفقهية ومصطلحاتها التي تميزها عن الأخرى .. بل أن كل مصطلح هو نتاج مرجعيته. فلا يصح القول مثلا أن « التسامح» مصطلح ساد في عصر النبوة أو القول بأن « استعادة الخلافة» نتاج الملك العاض أو القول أن المسلمين في عصر الخلافة نادوا بـ « تطبيق الشريعة».

   ويلزم الإقرار أنه لا خيار للأمة إلا المرور في كل المراحل والخروج منها دون الاعتقاد بزمن محدد، وعليه فإن تعاقب المراحل هي عملية دينامية قد تكون لها مؤشراتها لكننا دون أن نمتلك يقينا في ذلك، إذ ليس لنا في الغيب أن نعلم وقت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، كي نعلم يقينا متى ستبدأ مرحلة الخلافة مثلا، كما أننا لا نعرف متى سندخل في عصر الملك العاض أو نخرج منه، وكذا الأمر فيما يتعلق ببقية الأنماط والمراحل.

   وفي ضوء حديث الأمة عن « تطبيق الشريعة» وهي تستبشر بها أو تعدّ للاحتكام إليها أو استعادة الخلافة يلزم أيضا الإقرار بأن الأمة (1) تعيش المرحلة الرابعة، أي مرحلة « الجبر»، وأنها (2) خبرت ثلاثة أنماط، وقطعت ثلاثة مراحل، لكنها، بالتأكيد، لم تقطع « الجبر» بعد ولم تَخْبره!!! فالأمة عاشت النبوة وخبرتها مثلما عاشت الخلافة والملك العاض وخبرتهما، لكنها لم تَخْبر « الحكم الجبري» رغم أنها تعيشه. وبخلاف الأنماط الثلاثة السابقة، التي وردتنا أخبارها عبر الكتاب والسنة والسيرة والتاريخ والتراث فلم نقع، بحدود علمنا وبحثنا، على نص ولو يتيم يوصف لنا « الجبر» وحال الأمة تحته، أو يخبرنا عن ماهية مدخلات « الجبر»؟ وماهية مخرجاته؟ وما هو الحكم الشرعي في كل نازلة، حتى تكون الأمة على بينة من أمرها وليس كما هو حالها اليوم لا تعرف آنَهَا من غدها .. هذه الوضعية البائسة هي التي أوقعتنا بلغة الأيديولوجيا في الوقت الذي نتحدث فيه عن الإسلام وحال الأمة. أما كيف؟ فلنتابع! ولنعاين نماذج من التفكير بين ما يفترض أن يكون عقلا عقديا وما يبدو فعليا عقلا جبريا.

ثانيا: الإسلام ولغة الأيديولوجيا

     « الأيديولوجيا» هي أفكار ينتجها البشر في زمان ما ومكان ما. ومن المفترض أنها انعكاس لواقع مهيمن في الزمان والمكان. ومن أعجب وأبلغ تعريفاتها على الإطلاق تلك الآية الكريمة التي وردت في كتاب الله عز وجل: ﴿ إِنْ هَـٰذَآ إِلَّا قَوْلُ ٱلْبَشَرِ﴾، ( المدثر: 25)! ولأنها كذلك في صميم الصميم فلا تلبث أن تنتهي أو تضمحل أو تنزوي بمجرد زوال الواقع الذي أنتجها. وهذا ينطبق على كافة الفلسفات والأطروحات الوضعية وكل ما أنتجته من أفكار ومفاهيم ومصطلحات وتصورات وبنى ذهنية ومعرفية، أو مادية وسياسية واقتصادية وثقافية وقانونية ومثلها.

    في زمن الخلافة الراشدة شهدنا بذرة الخوارج في العهد النبوي تغدو نبتة مثلما شهدنا بذرة التشيع وهو يغدو دينا آخر من ﴿ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ﴾، لا علاقة له بالإسلام إلا بالنسبة. وفي زمن الملك العاض شهدنا ظهور فرق الأيديولوجيا الدينية كالتشيع بفرقه المتعددة والصوفية بطرقها والمعتزلة والأشعرية والبهائية، رغم تخلي صاحبها عن معتقداته ….، مثلما شهدنا ظهور فرق الأديان الوضعية الاستعمارية  كالقاديانية عشية « الجبر»، فضلا عن عشرات الفرق الأخرى التي أحدثت في الدين ما ليس منه.

    أما في زمن « الجبر» ذاته فقد شهدنا ظهور الجماعات الإسلامية الحديثة كالإخوان المسلمين والتبليغ والدعوة وحزب التحرير وغيرهم. وبدت في لحظاتها الأولى عقدية النشأة قبل أن تجرفها اجتهاداتها إلى أعماق الأيديولوجيا لتستنزفها إلى الحد الذي لم يتبق لها من أطروحاتها إلا ما تحتاجه لتبرر به وجودها. هذا لأنها احتاجت إلى تفعيل جزء محدد في الدين يخدم ظروفا تاريخية معينة، لكنه بدا، مع الزمن، كما لو أنه الدين كله. وبدلا من أن تنتقل إلى طور عقدي يستجيب للظروف والمتغيرات، بحيث تبقى أطروحتها تدور في فلك العقيدة، لجأت إلى التفتيش في الدين عما يدعم الأطروحة الأولى ويعززها ويحافظ على استمراريتها حتى بعد عقود طويلة استدعت تفعيل المزيد من الجوانب العقدية!!! وهذا بالتأكيد فعل أيديولوجي من ﴿ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ﴾ وليس فعلا عقديا. إذ أن الإسلام لا يمكن أن يكون جامدا لا حياة فيه، مثلما أن التوحيد لا يمكن أن يقبل القسمة أو يتجزأ.

    مشكلة القوى الإسلامية ونخبها ورموزها أنهم لا يريدون أن يدركوا أن اختياراتهم الأيديولوجية ستفضي في النهاية إلى الجمود التام أو الدخول في مساومات عقدية تمس صميم عقيدة الولاء والبراء، وتوطئ للمزيد من الاستبداد والتبعية والهيمنة والاستنزاف العقدي والجهل والتضليل واستباحة أصول الدين وديار الإسلام وأهله وتشويه التاريخ الإسلامي، فضلا عن الانتقاص من حقوق المسلمين وتركهم لمصائر وحشية ودموية تحت رحمة قوى الظلم المحلية والعالمية.

   ثمة نصوص ومرئيات وسمعيات لا تحصى ولا تعد من الفتاوى والاجتهادات والتصريحات والمواقف العجيبة التي صدرت عن أفراد وجماعات ومشايخ وعلماء ودعاة وحركات وأحزاب. وكلها تحدثت في شأن العامة والدين والماضي والحاضر والمستقبل، لكنها لا تمت للدين بأية صلة تُذكر، ناهيك عن أن تكون متضاربة فيما بينها أو مناقضة لصحيح الدين إنْ لم تكن محاربة له في المحصلة والصميم. وإذا استشهدنا ببعض الأمثلة للتوضيح فسيكون لزاما علينا أن نتساءل، مبدئيا، عن المنزلة الشرعية التي يمكن بمقتضاها تنزيل تصريحات لعلماء شرعيين يعتقدون في تقديم الحرية على التوحيد أو الشريعة أو حتى الاستقلال أو الاثنين معا!؟ أو عن المنزلة الشرعية التي يمكن بمقتضاها تنزيل أقوال أخرى تعتقد بأن القضاء الدولي الوضعي عادل ومنصف!!؟ أو تلك التي تعتقد بصحة ولاية الكافر على المؤمن!؟ أو تلك التي تدعو أو تبرر القتل الوحشي لولي الأمر بدعوى الحفاظ على الأمن؟ أو تلك التي تستميت بالدفاع عن الاستبداد وسائر أنواع الظلم بدعوى الابتعاد عن الفتنة؟ أو تلك التي تتهكم على بعض الصحابة والعلماء وتسخر منهم دفاعا عن شرعية فرقة ما مهددة بالحظر نظرا لانحرافاتها العقدية؟ أو تلك التي تتنكر لأحكام شرعية وأصول عقدية وتسعى إلى حمْل الأمة على معتقداتها!!!؟ أو تلك التي تعترف بالجهاد في زمان ومكان ما ثم تنفيه في ذات المكان وفي زمان آخر، بل وتعتبره قتالا في سبيل الطاغوت!!!!!

   أيضا تباينت المواقف الشرعية والعقدية والمنهجية، تحت سقف « الحكم الجبري»، إلى حد العجب حول « الجهاد» و « الخلافة» و « تطبيق الشريعة» وحتى بعض الشريعة .. وأيضا حول نظم الثقافة والاختلاط ودور المرأة والمعاملات والميراث .. كما تباينت حول مشروعية « الدولة القومية» والنظم السياسية والثورات الشعبية .. وتغافلت عن العلاقات والسلوكيات والتحالفات مع القوى الدولية وقواعدها العسكرية وغزوها للدول الإسلامية .. وتملصت من قضايا الأمة الكبرى كبيت المقدس والتطبيع مع اليهود أو الصلح معهم .. وتجاهلت الأحوال الدامية للمسلمين في تركستان الشرقية وأثيوبيا وكينيا وميانمار ونيجيريا والهند والصين وروسيا وأفريقيا الوسطى وغيرها رغم حرقهم وتقتيلهم وتشريدهم وحتى إنكار وجودهم .. ومن المثير حقا أن نجد القسم الأعظم من الأمة يتحدث عن « الدولة القومية» وكأنها أول المطاف وآخره، حيث لا تاريخ قبلها ولا حضارة ولا دين ولا وجود إلا بها وإلا فالعدم!!!

   لذا فإن تنزيل الإسلام بمنزلة الأيديولوجيا أو ما يوازيها هو أخطر ما يمكن أن تتعرض له أية جماعة إسلامية. ففي هذه اللحظة بالذات ستفقد الجماعة أطروحتها بعد أن تكون قد وقعت فعلا، من حيث تدري أو لا تدري، في منزلة الإسلام الأيديولوجي. هؤلاء المشتغلون في الشأن الإسلامي وغيرهم وقعوا في هذه المنزلة لكونهم عجزوا عن التفاعل مع الإسلام وما يتطلبه من استحقاقات شرعية أو عقدية فاضطروا أو أُجبروا على استعماله كمرجعية، لا للتشريع بل، للحصول منه على ما يلزم من خدمات سياسية أو أمنية أو حركية أو حزبية.

  والأرجح أن كل الأمة وقعت ضحية نمط من التفكير الأيديولوجي في قراءة التاريخ والدين والعقيدة. والمشكلة العويصة أنه إذا ما استوطنت الأيديولوجيا في العقل، كما هي الآن، فلن يكون سهلا على الأمة أن تدرك نمط « الحكم الجبري» إلا بما تتيحه لغة الشرائع الوضعية المهيمنة، أي لغة الأحزاب والجماعات والحركات والفلسفات والمذاهب الوضعية ومناهجها وبراغماتياتها.

     لذا فإن كل عالم أو شيخ أو داعية أو مؤرخ أو باحث أو مناصر أو حركة إسلامية أو جماعة جهادية أو حزب إسلامي عليه أن يكون على بينة من أمره، أنه حين يتحدث عن مسائل عقدية كـ « الخلافة» أو « تطبيق الشريعة» أو « الدولة الإسلامية» كما لو أنها مشاريع أو برامج سياسية قابلة للتنفيذ، إنما يتحدث قطعا بلغة « الجبر»، أي بلغة الأيديولوجيا وليس بلغة الشرع. ولأن الأيديولوجيا مجرد أفكار أو مشاريع أفكار من ﴿ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ﴾، وليست عقيدة أو شريعة، فهي معرضة، بطبيعة الحال، للاستهلاك والزوال. فإما أن يغيبها موت أصحابها وإما أن يطويها الزمن، حيث لا فائدة منها إلا إضاعة الوقت والجهد، أو الوقوع فريسة الصراعات والانقسامات التي تفرزها. كما  عليه أن يكون على بينة من أمره أنه لم ينج أحدا، إلا من رحم الله، من هذه الطامة الكبرى التي بلورت، مع الوقت، ما يمكن تسميته بـ « العقل الجبري».

   ولعله من الملفت للانتباه ملاحظة أن حال السنة في سعيهم إلى » الخلافة« مثلا صار كحال الشيعة في سعيهم إلى عودة « الإمام الغائب»!!! بل وحال كل ملة أو مجموعة أيديولوجية تنتظر الخلاص على يد مهديها المنتظر، حتى صرنا نعاين جماعات صار لها كربلائيتها أو مظلوميتها أو هلوكوستها أو محنتها التاريخية!! لكن من يستطيع مثلا أن يقطع في القول أننا نحتاج إلى وقت معين لإنجاز المهمة؟ أو أن هذا الحزب يمتلك المشروع الكامل لـ « استعادة الخلافة»؟ أو أن هذه الدولة هي « نواة الخلافة»!؟ أو أن هذه الجماعة ستسلم الراية للمهدي؟ فهل مثل هذه الأطروحات من قول الله أم من ﴿ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ﴾؟

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى