مقالاتمقالات مختارة

العدل الإلهي.. قواعد في البناء الإيماني

العدل الإلهي.. قواعد في البناء الإيماني

بقلم رشيد الذاكر

الإيمان اعتقاد صادق يقيني، ومحله من االنفس القوة العاقلة في الإنسان، والكفر اعتقاد كاذب غير يقيني ومحله من النفس قوة الخيال، ولهذا كان البناء الإيماني في سائر قواعده يخاطب العقول {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 242] كل هذا من أجل إقامة بناء محكم قادر على المواجه وتجاوز التحديات التي قد تعصف بِمُكَون الإيمان الذي لا يُقام أساس متين.
وإن من القواعد الكبرى في الذروع الإيمانية السابغة: قضية العدل الرباني المتجلية في مثل قوله تعالى {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] فالإيمان بالله تعالى، تتجلى قوته في النفوس، وترسخ قواعده في العقول عندما نحقق: قضية العدل الرباني، وإن هذه الورقة التي بين يديك: تهدف إلى البناء دون الإيجابة عن الاشكالات المثارة حاليا في الجدل العقدي بين المؤمنين والكافرين، لكني لا أخفيك سرا أنك في حاجة إلى قواعد البناء دون الرد على الشبهات والإشكالات، وذلك أن إحكام البناء يبدد كل شبهة ويزيلها وإن تخيلها عقلك كبيرة، غير أني أشترط عليك إتمام قراءة المقال مع التأني وترك العجلة، ولتكن كلمتنا بتقديم القاعدة مع المثال قبل الاستنتاج -في الغالب- وكل قاعدة هي أساس لما بعدها حتى يكتمل البناء بإذن الله تعالى:
القاعدة الأولى: الملك المطلق يوجب مُطلق التصرف:
خذ بيدك قلما وأنت تقرأ هذه السطور: وقل لي: لو كُنْتَ أنت صاحب القلم وصانعه، فقمت بالكتابة به أو رميه أو كسره، فهل أنت ظالم له؟ الجواب: لا، لأن هذا ملكك وأنت حر في التصرف فيه، بناء على قاعدة الملك يعطي حق التصرف، ولهذا نجد البشرية كلها عندما تُمنع التصرفَ في ممتلكاتها: تتمسك بمدأ الحرية في التصرف: وبناء عليه: فالكون كله ملك لله تعالى يتصرف فيه كيف يشاء ولن يكون فيه ظلم لأحد ولا حتى مسماه {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} [الأنعام:73].
القاعدة الثانية: الصنعة لا تسأل الصانع:
وأعود بك إلى لعبة القلم، وأنت تريد كسره، فهل يمكنه أن يسألك ويستهجن فعلك؟ طبعا: لا، لأن الصناعة لا تعترض على الصانع، فهو الذي صنعها وأوجدها، وإن شاء دمرها من جديد، وعليه فالله جل جلاله هو صانع هذا العالم بكل ما فيه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] ولذلك لا يحق للمصنوع -والذي منه الإنسان- الاعتراض على تصرف الخالق جل وعلا لأنه الصانع {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء: 23].
القاعدة الثالثة: خفاء الحكمة لا يعني عدم وجودها:
وأنت تسير بجانب البحر شاهدت صاحب هذا المقال جالسا هناك يحرق أورقا نقدية، فحكمت عليه بالجنون، لأنه يحرق المال وأنت وغيرك في حاجة إليه، ولكن دفعك حب الفضول – التعلق بالمال: دافع نفسي – إلى استفساره، فكان جوابه: أن هذه نقود مزيفة ومزورة، فوجب إذن: العودة على نفسك باللوم والعتاب، عندها تكتشف أن خفاء الحكمة لا يعني عدم وجودها، وبناء عليه تأمل في تصرفات الله تعالى فإن اتضحت لك الحكمة، فذاك الذي نُريد، وإلإ فَسَل الباري جل جلاله عنها من خلال استنطاق القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، واستفسر أهل الاختصاص في ذلك: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] القاعدة الرابعة: لا مجال للعبثية في تصرفات رب البرية سبحانه وتعالى:
إن من يقرأ صفحة الكون علويه وسفليه ويقف فيه على الدقة المتناهية والإتقان المبهر الذي يستحيل اختزاله في الصدفة والعشوائية، تكشف له عن صنعة حكيم مبدع على حد قول الفيلسوف اليوناني: أفلاطون ” إن العالم آية في الجمال والنظام، ولا يمكن أن يكون هذا نتيجة علل اتفاقية، بل هو صنع (عاقل)، توخى الخير، ورتب كل شيء عن قصد وحكمة ” لذلك يستحيل أن تجد في مخلوقات الله وأفعاله وأوامره شيء عاري عن الحكمة أبداً (راجع إن شئت رسالة أبي حامد الغزالي: الحكمة في مخلوقات الله عزوجل) {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
القاعدة الخامسة: الله خَلَقَ الخَلّقَ للإبتلاء والاختبار:
وهذه القاعدة مرتبة على الذي سبق قَبْلُ، وهي تضعك أمام ركن كبير جدا من أسس البناء الإيماني في قضية العدل الرباني، وهي أن الله تعالى أوجدك هنا لأجل الامتحان، فيكون هَمُكَ وهدفك النجاح فيه، وإن من طبيعة الامتحان اجتهادك وعملك وتعبك من أجل تجاوزه، وإن من رحمه الله يسر هذا الاختبار والذي يمكن اختصاره في: (الإيمان والطاعة) فالفشل فيه دليل على انعدام العقل وتغيبه {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] ولذلك فكل من يرفض الإيمان والطاعة وهو ابتداء مخلوق لله تعالى ومنعم عليه بالهداية والارشاد، يستحق العقاب بمقتضى العدل الرباني.
القاعدة السادسة: وجود الاختبار يستلزم وجود الجزاء (الجنة والنار):
وهذه القاعدة في منتهى الجلاء والوضوح، ولهذا كانت الجنة دارا لمن تجاوز الاختبار ونجح فيه، والنار جزاء لمن تهاون قصدا ورفض تعنتا، وإدراك هذا المعطى يجعلك في قمة الإيمان: أن الله تعالى لم يظلم أحدا ولا ينبغي له الظلم: ليس لأنه لا يقدر عليه، ولكن لأن الله تعالى حكيم في تصرفه، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26] القاعدة السابعة: علم الله كاشف لا مجير:
وهذه القاعدة عزيزي القارئ هي نهاية المطاف في هذا البناء المتكامل الذي سوف لن تزحزحه رياح الشبهات والمغالطات وإثارة الشكوك عن العدل الرباني للملك الحكيم جل جلاله، ولذلك فالله لم يجبر أحدا على الكفر، كما لم يجبر أحدا على الإسلام بل أعطى لكل واحد حرية الاختيار بين الحق والباطل والهدى والضلال {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] وعِلْمُ الله تعالى بما سوف يقع لا تأثير له في اختيار الكفر والإيمان، بل أنت الذي تختار وأنت الذي تقرر وهذه مسألة لا تحتاج منك كثير تفكر بل البداهة تدل عليها وترشد إليها.
ولتعلم أن هذه المحطات السبع التي شغلنا وقتك بها معنا قد جمعها المولى جل وعلا تصريحا وتلميحا في الآيات الأربع الأولى من سورة الملك فقال سبحانه {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:1-4] فقد بدأت بالتنزيه عن كل نقيصة يمكن أن تخطر ببالك، والتي منها: وجود الظم لأن الملك ملكه ووهو صاحب القدرة المطلقة، الذي أوجب الاختبار، ورتب عليه العقاب بالجنة والنار (العزيز- الغفور) ثم أعلمك عن حكمته المتجلية في دقة الكون: لتصل إلى نتيجة عبر عنها الحديث الصحيح «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا» وإن شئت مزيدا من التفصيل فعليك بكتاب الدكتور: سامي عامري: (مشكلة الشر ووجود الله تعالى) وهو كتاب يستحق منك المدارسة.

(المصدر: هوية بريس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى