العدالة الاجتماعية حين تكون من أعلى الهرم
بقلم د. علي الصلابي
رسمت خطبة الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه معالم الدولة الإسلامية الأولى ودستورها الرشيد بعد وفاة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم). فقد خشي جموع الصحابة ورجالات الأمة الكبار والمسلمين على مسيرة الدعوة وتماسك المجتمع الإسلامي، لكن الجواب أتى من خليفة رسول الله الصديق (رضي الله عنه). فقد بدت في خطبته سمات ومعالم طريق دولة الخلافة في عباراته: «الضعيف فيكم قوي عندي حتى أُرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله»1.
فإن من أهداف دولة الصّدِّيق الحرص على إقامة مقاصد القرآن الكريم التي تساهم في إقامة المجتمع الإسلامي وتوطيد دعائم الحكم الإسلامي، فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل. وإن إقامة العدل بين الناس أفرادًا وجماعات ودولًا، ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو الأمير وهواه، بل إن إقامة العدل بين الناس في الدين الإسلامي تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد أجمعت الأمة على وجوب العدل 2. يقول الفخر الرازي: أجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل3، وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة.
إن من أهداف دولة الإسلام إقامة المجتمع الإسلامي الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته بجميع أشكاله وأنواعه كافة، وعليها أن تفسح المجال وتيسر السُبل أمام كل إنسان يطلب حقه، أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها دون أن يكلفه ذلك جهدًا أو مالًا، وعليها أن تمنع أية وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق عن الوصول إلى حقه. لقد أوجب الإسلام على الحكام، أن يقيموا العدل بين الناس، دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الاجتماعية، فهو يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق، ولا يهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء، أو أعداء، أو أغنياء أو فقراء عمالاً أو أصحاب عمل4. يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة، آية: 8).
كان الصديق رضي الله عنه ينفق من بيت مال المسلمين فيُعطي كل ما فيه سواسية بين الناس، فقد كان توزيع العطاء في عهده على التسوية بين الناس |
لقد كان الصّدِّيق رضي الله عنه قدوة في عدله يأسر القلوب، ويبهر الألباب، لأن العدل في نظره دعوة عملية للإسلام والسلام، فيه تفتح قلوب الناس للإيمان. لقد عدل بين الناس في العطاء، وطلب منهم أن يكونوا عوناً له في هذا العدل، وعرض القصاص من نفسه في واقعة تدل على العدل والخوف من الله سبحانه وتعالى5. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن أبا بكر الصّدِّيق رضي الله عنه قام يوم جمعة فقال: إذا كنا بالغداة، فأحضروا صدقات الإبل نقسمها، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن، فقالت امرأة لزوجها: خذ هذا الخطام لعل الله يرزقنا جملاً، فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما، فالتفت أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه الخطام فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسم الإبل دعا الرجل، فأعطاه الخطام وقال: استقد ….. فقال عمر: والله لا يستقد ولا تجعلها سنة، قال أبو بكر: فمن لي من الله يوم القيامة؟ قال عمر: أرضه، فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلته ورحلها وقطيفة وخمسة دنانير فأرضاه بها6.
أما مبدأ المساواة الذي أقره الصّدِّيق في بيانه الذي ألقاه على الأمة، فيُعدُّ أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام، وهي من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحاضر. وممّا ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات، آية: 13). وإن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، والرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس، أو اللون أو النسب، أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء7.
كما جاءت ممارسة الصّدِّيق لهذا المبدأ خير شاهد على ذلك، وكان رضي الله عنه ينفق من بيت مال المسلمين فيُعطي كل ما فيه سواسية بين الناس، فقد كان توزيع العطاء في عهده على التسوية بين الناس وقد ناظر الفاروق عمر رضي الله عنه أبا بكر في ذلك فقال: أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين، وبين من أسلم عام الفتح؟، فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ للراكب. ورغم أن عمر رضي الله عنه غيّر في طريقة التوزيع، فجعل التفضيل بالسابقة إلى الإسلام والجهاد إلا أنه في نهاية خلافته قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لرجعت إلى طريقة أبي بكر فسويت بين الناس 8.
بعهد الصديق رفع العدل لواءه بين الناس، فالضعيف آمن على حقه، وكله يقين أن ضعفه يزول حينما يحكم العدل، فهو به قوي لا يمنع حقه ولا يضيع
وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح فيحمل في سبيل الله، واشترى عاماً قطائف (القطيفة كساء مخمل) أتى بها من البادية، ففرّقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء، وقد بلغ المال الذي ورد على أبي بكر في عهده مائتي ألف وزعت في أبواب الخير9، لقد اتبع أبو بكر رضي الله عنه المنهج الرباني في إقرار العدل، وتحقيق المساواة بين الناس وراعى حقوق الضعفاء، فرأى أن يضع نفسه في كفة هؤلاء الواهنة أصواتهم، فيتبعهم بسمع مرهف وبصر حاد وإرادة واعية، لا تستذلها عوامل القوة الأرضية فتملي كلمتها… إنه الإسلام في فقه رجل دولته النابه، الذي قام يضع القهر تحت أقدام قومه، ويرفع بالعدل رؤوسهم فيُؤمِّن به كيان دولته ويحفظ لها دورها في حراسة الملة والأمة10.
لقد قام الصّدِّيق رضي الله عنه، منذ أول لحظة بتطبيق هذه المبادئ السامية، فقد كان يدرك أن العدل عز للحاكم والمحكوم، ولهذا وضع الصّدِّيق رضي الله عنه سياسته تلك موضع التنفيذ وهو يردِّد قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل، آية: 90). وكان أبو بكر يريد أن يطمئن المسلمون إلى دينهم، وحرية الدعوة إليه، وإنما تتم الطمأنينة للمسلمين ما قام الحاكم فيها على أساس من العدل المجرد عن الهوى. والحُكم على هذا الأساس يقتضي من الحاكم أن يسمو فوق كل اعتبار شخصي، وأن يكون العدل والرحمة مجتمعين في حكمه، وقد كانت نظرية أبي بكر في تولي أمور الدولة قائمة على إنكار الذات والتجرد لله تجردًا مطلقًا جعله يشعر بضعف الضعيف وحاجة المجتمع ويسمو بعدله على كل هوى، وينسى في سبيل ذلك نفسه وأبناءه، وأهله، ثم يتتبع أمور الدولة جليلها ودقيقها، بكل ما أتاه الله من يقظة وحذر11.
وبناء على ما سبق رفع العدل لواءه بين الناس، فالضعيف آمن على حقه، وكله يقين أن ضعفه يزول حينما يحكم العدل، فهو به قوي لا يمنع حقه ولا يضيع، والقوي حين يظلم يردعه الحق، وينتصف منه للمظلوم، فلا يحتمي بجاه أو سلطان أو قرابة ذي سطوة أو مكانة. وذلك هو العز الشامخ، والتمكين الكامل في الأرض 12. ومن أجمل ما قاله ابن تيمية رحمه الله: إن الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة، ولو كانت مسلمة.. بالعدل تستصلح الرجال، وتستغزر الأموال13. فكيف إن كانت دولة مسلمة وعادلة بآن معًا؟ هنا تتحقق عزة وقوة ورخاء ساكنيها جميعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- البداية والنهاية (6/ 305).
2- فقه التمكين في القرآن الكريم، ص: 455.
3- تفسير الرازي (10/ 141).
4- فقه التمكين في القرآن الكريم، ص: 459.
5- أبو بكر الصّدِّيق للصَّلاَّبي، ص: 128.
6- المصدر نفسه، ص: 128.
7- فقه التمكين في القرآن الكريم، ص: 461.
8- الأحكام السلطانية للماوردي، ص: 201.
9- الأحكام السلطانية للماوردي، ص: 201.
10- أبو بكر رجل الدولة، ص: 48.
11- أبو بكر الصّدِّيق للصَّلاَّبي، ص: 130.
12- المصدر نفسه، ص: 130.
13- المصدر نفسه، ص: 130.
(المصدر: مدونات الجزيرة)