العالِم الذي فقده العالَم ” في رحيل أعجوبة الزمان المرابط ولد فحفو”
بقلم عامر الخميسي
من أتحدث عنه أعجوبة فريدة جاد بها الزمان فهو أحد أعلم علماء موريتانيا ورجالها الشوامخ مضى إلى ربه في أسبوعنا المنصرم بعد أن عاش على هذه البسيطة قرنا وعقدا من الزمان إنه المرابط الحاج السالك ولد فحفو الذي يدعو فينزل المطر من السماء..
يعد ولد فحفو من مفاخر الشناقطة فهو أشهر من نار على علم بل من رجالهم المعدودين إن لم يكن هو الرقم الأول فيهم..
وقد صنفته الدراسات الغربية ضمن ٥٠٠ شخصية مؤثرة في العالم..
فهو آية في التفسير قوي الاستشهاد بلغة العرب حتى إنه ليحفظ بعض التفاسير عن ظهر قلب ويستشهد بما يشاء من لغة العرب فكأن الله جمع له لسان العرب بين عينيه يتخير منها ما شاء، وكان يدرس الفقه ويفتي على كل المذاهب كبحر متلاطم الأمواج ليس له قعر ولا ساحل فسبحان الذي آتاه هذا العلم الغزير، وأما النحو فهو فارسه وصاحبه وخدنه حتى لكأن من يراه يخطأ في التفريق بينه وبين الخليل وسيبويه والفراء وابن جني، وقد شرح ألفية ابن مالك في كتابه المسمى: تنوير الحوالك، وألف كثيرا من المؤلفات منها لباب النقول في متشابه القرآن وأحاديث الرسول، ودليل الطلاب وكتبا أخرى…
وقد بلغ المنتهى في الأدب والبلاغة وعلوم الآلة والأصول والقراءات وقد ترقى حتى أصبح مجتهدا يشار إليه بالبنان..
تميز بسعة علمه وغزارة معلوماته وقوة فكره وبصيرة قلبه ورجحان عقله وحسن سمته وصبر نفسه وورعه وزهده فدرب نفسه وجاهدها حتى سلكت فلله دره من سالك..
رابط على تعلم العلم وتعليمه والعيش مع طلبة العلم فلله دره من مرابط.
حج في شبابه إلى بيت الله الحرام ماشيا واستغرقت رحلته ثلاث سنوات وعاد إلى بلاده وما زالت ذكريات الحرم في مخيلته تتراءى أمام عينيه يقول من شعره:
هاجَت هموميَّ ذكرى البيت والحَجَرِ * والحِجْرِ والركن بالغَدَاةِ والسَّحَرِ
وبئر زمـزمَ فـي قلبي لها ذِكَرُ * لله ما في الحشا من حَرْقَةِ الذِّكَرِ
وما صفا العيش بعدما الصفا بعُدَتْ * كلا ولا غاب شكلُها عن البصَر
وأختها مَرْوَةُ في القلب لوعتُها * كأنما يَصْطَلي شوقا على الجَمَرِ
وطيبةً كلما نفسي تذكرها * أذرِ الدموعَ ويرمي القلبُ بالشرر
من أتحدث عنه فريد دهره، وعلامة عصره، وزاهد زمانه،
صاحب قلب منيب ودعوة مستجابة ونفس زكية وروح مطمئنة..
يقول د.محمد الأمسمي:
حضرنا مع المرابط الحاج رحمه الله لصلاة الجمعة في جامع كرو الوحيد آنذاك عام ١٩٧٣م وتخلف الخطيب فاقترب المؤذن من المرابط الحاج وهمس له بأن الإمام غائب وأن الانتظار لحضوره قد طال – فهمت هذا من نبرة المرابط عندما رفع صوته كالرافض- إلا أنه استجاب وصعد المنبر، وما هي إلا كلمات مباركة قليلة وذكر آية أو حديث وترتفع الأصوات بالبُكاء والنَّشِيج الذي سيطَر على المصلين ؛ وكان الوقت آخر الصيف واشتداد الحر فدعا المرابط بأحاديث مأثورة في الاستسقاء؛ فوالله الذي لا إله إلا هو إن المطر نزل بقوة وهو على المنبر؛ وزاحمنا المُصلون في براحة المَسجد وحوشه حتى وقفنا من شدة الزحام؛ فنزل وصلى بنا ثم خرجنا والماء يملأ الشوارع؛ ولم يبلغنا عن سرعة استجابة الله لأحد من أوليائه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك المشهد….ا.ه.
العلامة ولد فحفو كان فريدا في علمه وورعه وزهده وأخلاقه وعزوفه عن هذه الدنيا..
يروي لنا طلابه أنه خرج في بداية السبعينات إلى الصحراء وأسس محظرة علمية فتوافد إليها الطلاب من كل مكان وبقي يسكن عريشا حتى توفاه الله رافضا القصور التي عرضها عليه الأثرياء.
ولد فحفو عطية السماء وهو من القلائل الذين تفتخر بهم الأرض وفي يوم موته أظلمت الدنيا واغبر وجه البسيطةليكتب من ماء العينين رثاء حارا في وفاته:
ﺑﺄﻱ ﺍﻟﺒﺮﻭﺩ ﺍﻟﺴﻮﺩ ﻳﺘّﺸﺢ ﺍﻟﺤﺮﻑُ ﻭﻓﻲ ﺃﻱ ﻟﻴﻞٍ ﻣﻦ ﻟﻴﺎﻟﻲ ﺍﻷﺳﻰ ﻳﻐﻔﻮ
ﻛﺴﺘﻪ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﺍﻟﺴﻮﺩ ﺛﻮﺏ ﺣﺪﺍﺩﻫﺎ ﻓﺨﺮّ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻟﻔﺎﻅ ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻪ ﺍﻟﺴّﻘﻒُ
ﺗﺮﺟﻞ ﻋﻦ ﻣﺤﺮﺍﺑﻪ ﺍﻟﺤﺎﺝ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﻔﺎﺭﻕ ﺇﻟﻔﺎ ﺑﻌﺪ ﺻﺤﺒﺘﻪ ﺇﻟﻒ
ﻭﻏﺎﺩﺭ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﺎﻧﻔﺠﺮﺕ ﻟﻪ ﺣﻨﻴﻨﺎ ﺑﻨﻮ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻟﻴﺲ ﺑﻨﻮ ﻓﺤﻒ
ﻭﻏﺎﺿﺖ ﻣﻴﺎﻩ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻋﻨﻬﻢ ﻓﻠﻢ ﻳﻌﺪ ﻳﺮﻭﻕ ﻟﻬﻢ ﻣﻨﻬﺎ ﺍﻟﺸﺮﺍﺏ ﻭﻻﻳﺼﻔﻮ
ﻓﻤﻦ ﻳﻤﺴﺢ ﺍﻟﺪﻣﻊ ﺍﻟﺤﺰﻳﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﺟﺮﻯ ﻭﺃﻣﻄﺮﺕ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﻏﻤﺎﺋﻤﻪ ﺍﻟﻮﻃﻒ
ﻭﺃﺟﺮﺗﻪ ﺃﺣﺰﺍﻧﺎ ﻣﺤﺎﻣﺪ ﺃﻳﻨﻌﺖ ﻭﻃﺎﺏ ﻟﻤﺮﺗﺎﺩ ﺍﻟﻤﻌﺎﻟﻲ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﻘﻄﻒ
ﻫﻮ ﺍﻟﺤﺎﺝ ﻓﺎﺫﺭﻑ ﺩﻣﻌﻚ ﺍﻟﺜﺮ ﻭﺍﻧﺘﺤﺐ ﻛﻤﺎ ﺍﻧﺘﺤﺐ ﺍﻟﺘﻔﺴﻴﺮ ﻳﺎ ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﺼﺮﻑ
ﻓﻼ ﻧﺤﻮ ﻳﻌﻄﻲ ﺍﻟﻤﻔﺮﺩﺍﺕ ﺍﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﻭﻗﺪ ﺧﻔﺾ ﺍﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﻭﺍﻟﺤﺎﻝ ﻭﺍﻟﻈﺮﻑ
ﻓﻤﻦ ﻟﻠﻔﺘﺎﻭﻱ ﺣﻴﻦ ﻳﺮﺑﺪ ﻟﻴﻠﻬﺎ ﻭﺗﺨﻔﻰ ﺻﺤﻴﺤﺎﺕ ﺍﻟﻨﻘﻮﻝ ﻭﻻ ﺗﺨﻔﻮ
ﺃﺗﺘﻪ ﺍﻟﻤﻨﺎﻳﺎ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻛﺎﻥ ﻗﺮﺑﻪ ﻧﺴﻴﻤﺎ ﺭﺧﺎﺀ ﻛﺎﻟﺤﻴﺎﺓ ﻟﻬﺎ ﺗﻬﻔﻮ
ﻓﺠﺎﺀﺗﻪ ﺗﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﺗﻔﻮﺯ ﺑﻘﺮﺑﻪ ﻛﻤﺎ ﻓﺎﺯﺕ ﺍﻷﻟﻮﺍﺡ ﻭﺍﻟﻜﺘﺐ ﻭﺍﻟﺼﺤﻒ
ﻓﻴﺎ ﻟﻴﺘﻬﺎ ﺃﺑﻘﺖ ﻟﻨﺎ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﺬﻯ ﻳﻔﻮﺡ ﻟﻪ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻋﺮﻑ
ﻭﺭﻗﺖ ﻟﺤﺎﻝ ﺍﻷﺑﺠﺪﻳﺔ ﺑﻌﺪﻩ ﻓﻔﻲ ﻧﻬﺮﻫﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﺪﻩ ﻇﻬﺮ ﺍﻟﻀﻌﻒ
ﻓﻼ ﻣﺎﺀ ﻳﺠﺮﻱ ﻣﻦ ﺭﻭﺍﻓﺪ ﻧﺒﻌﻬﺎ ﻭﻻ ﻣﻮﺝ ﻓﻲ ﺷﻄﺂﻥ ﻟﺠﺘﻬﺎ ﻳﻄﻔﻮ
ﺗﺨﻠﺖ ﻣﺰﺍﻣﻴﺮ ﺍﻟﻤﺠﺎﺯ ﻋﻦ ﺍﻟﻐﻨﺎ ﻓﻼ ﻭﺗﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻳﺴﺘﻄﺎﺏ ﺑﻪ ﺍﻟﻌﺰﻑ
في سنوات قليلة ماضية فقدت موريتانيا ثلاثة من علماء الأمة لا أظن أن أحدا في الدنيا سيسد الفراغ الذي ملأوه وهم الشيخ محمد سالم ولد عدود، والعلامة بداه ابن البصيري، والمرابط السالك الحاج ولد فحفو.
وقد عاش ولد فحفو حياة مترعة بالعلم فكان كالغطمطم التيار، والنهر الزخار، وكان كبحر لا تكدره الدلاء وكنخلة باسقة آتت أكلها يخال للناظر أن لا أحد يشبهه..
“فسر الشيخ الددو ذات مرة مناما لأحد الإخوة يقول السائل للشيخ الددو بينما أنا في المنام إذا بشخص عزيز علي يطوف بالبيت الحرام وهو عريان ولم يذكر اسم الشخص الذي شاهده في المنام ،
فأجابه الشيخ لا أعلم أحدا يحمل هذه المواصفات سوى العلامة المرابط الحاج ، فقال الأخ نعم والله إنه هو ولكن……. فقاطعه الشيخ قائلا يطوف بالبيت عريانا من الذنوب…”
أما قلت لكم ولد فحفو هدية السماء..
عذرا أيها العلم لقد فكرت في الكتابة عنك منذ سنة مضت ولم يسعفني الوقت لأكتب عنك إلا يوم سمعت بوفاتك..
لم نوفك حقك…وما وفاك أحد حقك ولكن أكرم الأكرمين عنده الفضل والسعة والجود والكرم وهو أهل التقوى وأهل المغفرة..
كان الشيخ من أهل الإلهامات الربانية والإلماحات القدسية والإشراقات النورانية والتجليات الروحانية فقد كان يلهمه الله فيتحدث بتلك الإلهامات فيعجب الناس منه…
” دعا بملابس جديدة ولبسها في صبيحة كان يجلس فيها بين تلامذته ثم قال “هذه الدراعة أهداها لي فلان بن فلان ويبدو أنه توفي اليوم” كان ذلك سنة 83م من القرن المنصرم ولم يكن هنالك أي نوع من الهواتف في المنطقة، سجل أحد الحاضرين الوقت وعند نزوله إلى العاصمة بحث في الأمر فوجد أن وقت لبس الشيخ للدراعة وحديثه عن المرحوم هو وقت رحيله….”.
لقد كان صحابيا متأخرا ففي سمته ترى الصديق والفارق
وفي زهده ترى أبا ذر وسلمان عرضت عليه الدنيا فرفضها وأبى العيش في ملذاتها ولم ينغمس فيها البته وقد سلك طريقا وعره قاطعا الصحراء والجبل وأسس له محظرة علمية أمها طلاب من القارات الخمس وارتحل إليها آلاف الأفذاذ من بقاع العالم فنهلوا من علمه وغرفوا من بحره..والتقطوا من درره.
ما دخل المدينة العاصمة _نواكشوط_ إلا للعلاج، عرض عليه بيت أشبه بقصر في نواكشوط فآثر الخلوة بعيدا عن صخب المدنية وضوضاء الحضارة..
ظل الشيخ في قريته الجبلية الوعرة بعيدا عن الأضواء التي كانت تلاحقه رافضا هدايا السلاطين والحكام جنّته محرابه وسعادته تدريسه فعاش حياة فريدة من نوعها حتى قضى نحبه…
كان الكثير ممن يؤم محظرة الشيخ من أصقاع العالم وأطراف الأرض يرحلون إليه ليروا شخصا من بقية الصحابة وأنموذجا لسفيان الثوري الأوزاعي وأحمد بن حنبل …
يجلسون أمامه ويحدقون النظر فيه ليروا مواصفات رجل من الزمن الجميل…
كان ولد فحفو عجيبا في عبادته وتعلقه بربه وقربه منه وصلته به
يحكي الكاتب الملهم محمد غلام ولد الحاج الشيخ – عن زيارته للمرابط ذات مرة يقول: ..فنزلنا الحي المتواضع الذي تأرز إليه قلوب المتعلقين بالشيخ محبة ومهابة أدركناهم وهم يستعدون لصلاة العصر فنزلنا بترحاب وكرم في مكان الضيافة وتوجهنا للصلاة في المسجد العريش وكانت المفاجئة ! إذ جيء بالشيخ، كما في الحديث يهادى بين الرجلين فأقيم للصلاة وهو إمام فصلى بأناس صلاة مكتملة وبعدها ابتدره الطلاب المعاونون فأسندوه، فهو حسب ما رأينا إذا دخل الصلاة دبت فيه روح ترفرف به في الأعالي متجاوزة ثقلتي اللحم والدم، فإذا خرج منها عاد إلى الإحساس بالجسم الذاوي ، تقدمنا للسلام عليه ثم حمل على الأعناق رجوعا إلى مكان سكنه المتواضع….”
وحكى مثلها الشيخ محمد بن الحسن الددو ..
إنها الطاقة الربانية التي يزود الله بها من يشاء من خلقه حين يأتي للصلاة يهادى بين رجلين لا يقوى على الحراك فإذا اعتدل في محرابه قوي جسمه واشتد عوده وغاب عن الدنيا وارتحل من عالم الأرض..
إذا كان حب الهائمين من الورى..بليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي
سرى قلبه شوقا إلى العالم الأعلى
قبل صلاة الفجر بساعتين يستيقظ الطلاب ويشبون النار ويذاكرون المتون بينما يكون قد سبقهم لمحرابه الرملي يناجي مولاه..في الثلث الأول مع العلم وينام الثلث الثاني ويقوم مصليا الليل الثلث الأخير ولا ينام في النهار إلا قليلا…
كان يعيش مع الناس بجسده وروحه ترفرف حول العرش..
يحدث الناس ويعلمهم فإذا أخذوا في حديث الدنيا تمتم بذكر الله ثم غابت روحه في حظيرة القدس وارتقت روحه في معارج الأنس..
*تتبع الحب روحي في مسالكه حتى جرى الحب مجرى الروح في الجسدِ*
استيقظ ذات ليلة قبيل السحر، فسمعه بعض زائريه وهو يردد هذا البيت تَردادا شجيا كأنه يُعاتب نفسه:
صبوتَ إلى الدينا وذو اللبّ لا يصبو *وغركَ منها السلمُ، باطنُها حربُ!
مكث وقتا طويلا يكرر البيت تكرارا شجيا، ممسكا لحيته بيديه، وكأنه يعاتب نفسه على موبقات.
وعندما خرج زواره من منزله سأل أحدهم صاحبه عن خبر الشيخ، فتبسم قائلا:
“وماذا يفعل المرابط حتى ينظر إلى نفسه على أنها انجرفت إلى الدنيا؟ لعله وقف من عريشه وتمشى قليلا فهبّ نسيم عليل، فعلى مثل هذا يعاتبها كل هذا العتاب وكأنه أخلد إلى الأرض!”
لقد كان حاله:
سأبكي على ما فات مني صلابة وأندب أيام السرور الذواهبِ وأمنع عيني أن تلذ بغيركم وإني وإن جانبت غير مجانبِ
كان رقيق القلب دائم التذكر مرهف المشاعر عميق الصلة بالله تعالى هو بقية السلف وخاتمة الزهاد.
حدثني كثير من طلابه عن صفاته وأخلاقه فعرتني الدهشة وعلاني الوجوم وأدركت أني أمام أحد عباقرة التاريخ وأساطين العلم..
كادت تختلط سيرته بسيرة الثوري وابن الجوزي..
أرسل لي كثير من طلابه بحكاياتهم مع الشيخ فوجدتها ألين من الحرير وأعذب من ماء السماء وأحلى من الشهد، وجلسةٌ أمام هذا الملهم تغنيك عن قراءة المدارج وصفة الصفوة والحلية ومئات كتب السلوك.. أدركت أن مثله نادر كما قال ولد عدود بل هو تماما كما قال الذهبي في السير عن النبلاء أنهم في كتاب أو تحت التراب.
*وأجهشتُ للتوباد حين رأيته وهلّل للرحمن حين رآني
وأذريت دمع العين لما رأيته ونادى بأعلى صوته ودعاني فقلت له أين الذي عهدتهم حواليك في خصب وطيب زمان فقال مضوا واستودعوني بلادهم ومن ذا الذي يبقى مع الحدثانِ*
لقد كاد القلم أن ينكسر والبيان أن يتعثر وما عدت أنبس ببنت شفه..إنها العظمة وصناعة مجد قبل الرحيل..
ولقد أدركت كم نحن أمة ماضوية كما يقول نزار أي: لا نهتم بعظمائنا وندرك أثرهم إلا بعد مضيهم ومغادرتهم هذا الكوكب..
اخترق هذا الشيخ الحجب والستور وأصبح مؤثرا عالميا رغم أنه ما ظهر في قناة فضائية، ولا بحث عن الأضواء، ولا طلب المناصب، ولا وفد على الملوك بل كان يهرب من كل شيئ يدنيه من الشهرة وما ضره أن يجهل في الأرض ويشتهر في السماء..
ليالي كاملة عشتها مع الشيخ أقلب أدبياته وأقرأ أخباره وأكشف شيئا من الحجب عن سيرته حالي:
*رعاة الليل ما فعل الصباحُ
وما فعلت أوائله الملاحُ
وما بال الذين سبوا فؤادي
أقاموا أم أجدّ بهم رواحُ*
لقد رحل المرابط ولد فحفو وترك لنا أجمل الآثار..وأبلغ الدروس في الرقي للكمال..
أخبرنا بفعاله عن الهمة العالية التي لا تنكسر والطموح الذي لا يتعثر والإنتاج الذي لا يتوقف، والقوة التي لا تلين..
*ما ضر قومٌ وطأت اليوم أرضهمُ ألا يروا ضوء شمسٍ آخر الأبد*
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)