مقالاتمقالات مختارة

العالم والسلطان.. عالم السلطان وعالم الدولة ابن باز نموذجاً

بقلم عمرو بسيوني – مدونات الجزيرة

(1)

يرى الباحث السلفي إبراهيم السكران أنه منذ نهاية الخلافة الراشدة ونشوء أنظمة الجور في التاريخ الإسلام وُجد خطَّان سلفيان في التعامل مع الحكام، رغم اتفاقهم الأوسع في المسائل العقديَّة: خط المداراة، الذين لـم يفضلوا مصادمة الحكام، واختاروا محاولة الإصلاح الجزئي والتدريجي، ومن داخل النظام، كالإمام أبي يوسف الذي تقلد القضاء للعباسيين، وكان مقربًا من هارون الرشيد، ورغم جهوده الإصلاحية فيبقى أنه كان جزءًا من النظام، وخط الاستقلال، الذي كان يظهر الإنكار على الحكام، ويرفض أي تعاط معهم، فلا يقبل عطاياهم، ولا يتقلد لهم مناصب، الذي كان أبرز من يمثله سفيان الثوري.

ونحن قد قدمنا في الحلقات السابقة قراءة أكثر تاريخية وتفصيلًا لتدرج موقف العلماء عبر التاريخ من التعاون المباشر مع الحكومات غير العادلة، وكيف أنه تطوّر عبر الزمن، وكيف أن الزمن نفسه يعتبر عاملًا مؤثرًا في قراءتنا لتلك العلاقة، وهو ما أفرز موقفنا الإجمالي الذي طرحناه في الحلقة السابقة، والذي مفاده أن تغير الوضع السياسي الشرعي للسلطان عقب حقبة الاستعمار، وفساد كثير من التصورات الشرعية المتعلقة به، ووجود مجالات مباينة وبديلة وغير محايثة للسلطة؛ كل ذلك يجعل من المرجح الابتعاد عنها.

فعلى سبيل المثال، رغم أن السكران – فرج الله عنه – قد شكّل بصورة ما تركيبة من الخطين الذين فرز عليهما مواقفَ السلف من السلطة الظالمة؛ فإن هذا كان فوق طاقة النظام على التحمل، فزجّ به في السجن.

(2)

نستجلي الفوت التاريخي بين زمنين، وبين موقفين للعلماء مع الحكام الجورة.

الموقف الأول:

قال الشافعي: إن ابن عجلان أنكر على والي المدينة إسبال الإزار يوم الجمعة على رؤوس الناس، فأمر بحبسه، فدخل ابن أبي ذئب على الوالي، فشفع له وقال: «إن ابن عجلان أحمق!، يراك تأكل الحرام، وتلبس الحرام، وتفعل كذا = فلا ينكره عليك، ثم ينكر عليك إسبال الإزار!». فخلَّى سبيله!

نموذج (عالم السلطان) الذي هو مثال صارخ على الانحراف الذي نحذر منه ونعتبر من مساحة الخلاف غير السائغ، ونموذج (عالم الدولة) الذي يخوض مساحات متنوعة مما نعتبره سائغًا وغير سائغ.

الموقف الثاني:

قال تاج الدين السبكي (771ه): لقد كان شيخ الإسلام والمسلمين الوالد رحمه الله [تقي الدين السبكي (756ه)] يقوم في الحق ويفوه بين يدي الأمراء بما لا يقوم به غيره، فيذعنون لطاعته، ثم إذا خرج من عندهم = دخل إليهم من فقهاء السوء من يعكس ذلك الأمر، وينسب الشيخ الإمام إلى خلاف ما هو عليه، فلا يندفع شيء من المفاسد، بل يزداد الحال.

 ولقد قال مرة لبعض الأمراء -وقد رأى عليه طرزا من ذهب عريضا على قباء حرير-: «يا أمير؛ أليس في الثياب الصوف ما هو أحسن من هذا الحرير؟! أليس في السكندري ما هو أظرف من هذا الطرز؟! أي لذة لك في لبس الحرير والذهب؟! وعلى أي شيء يدخل المرء جهنم؟!» وعذله في ذلك، حتى قال له ذلك الأمير: اشهد عليَّ أنى لا ألبس بعدها حريرا ولا طرزا، وقد تركت ذلك لله على يديك.

 فلما فارقه: جاءه من أعرفه من الفقهاء، وقال له: أما الطرز؛ فقد جوّز أبو حنيفة ما دون أربعة أصابع، وأما الحرير؛ فقد أباحه فلان، وأما وأما، ورخص له، ثم قال له: «لم لا نهى عن المكوس؟! لم لا نهى عن كذا وكذا؟! وذكر ما لو نهى الشيخ الإمام أو غيره عنه= لما أفاد، وقال له: إنما قصد بهذا إهانتك، وأن يبين للناس أنك تعمل حراما» ، فلم يخرج من عنده حتى عاد إلى حاله الأول، وحنق على الشيخ الإمام، وظنه قصد تنقيصه عند الخلق! ولم يكن قصد هذا الفقيه إلا إيقاع الفتنة بين الشيخ الإمام والأمير، ولا عليه أن يفتى بمحرم في قضاء غرضه!!

وهذا المسكين لم يكن يخفى عليه: أن ترك النهى عما لا يفيد النهى عنه من المفاسد= لا يوجب الإمساك عن غيره، ولكن حمله هواه على الوقوع فى هذه العظائم، والأمير مسكين ليس له من العلم والعقل ما يميز به!

(3)

ثمة خمسة قرون تقريبًا بين هاتين الحادثتين. الحادثتان تعبران تمام التعبير عما ذكرناه من قراءتنا التاريخية السابقة عن التدرج التاريخي لموقف العلماء من السلطة المنحرفة. بين العقل الفقهي الذي كان يرى أنه لا فائدة من إنكار منكر جزئي في ظل نظام كامل من الفساد الشرعي، كما يتمثل موقف الفقيه المدني ابن أبي ذئب الذي حكاه الإمام الشافعي عن ابن عجلان الذي أنكر الإسبال على الخليفة الظالم، وبين العقل الفقهي الذي يرى تحصيل أي فائدة دينية من السلطة المنحرفة هو أمر مطلوب – ربما مكسب – في ظل نظام كامل من الفساد لا فائدة من الانشغال بمحاولة إصلاحه. المنطلق الأول يتبع التفكير الفقهي النابع من أن الحكم للغالب، ونظريات عدم الاعتبار الشرعي، والمنطلق الثاني يتبع التفكير الفقهي النابع من أن الميسور لا يسقط بالمعسور. وكلتاهما قواعد فقهية وعقلية مصلحية صحيحة، ولكن الذي يسلط الضوء على أوسع بقعة من أيٍّ منهما ويدخلها حيّز التشغيل هو السياق التاريخي، فينتج هذا تفعيل أيِّ من القاعدتين، اللتين هما ببساطة تعبير عن عقل تاريخي واجتماعي كامل.

 لكن بقي المتفق عليه بين الطريقتين، وهو ما ألححنا في الإشارة عليه في أكثر من حلقة سابقة: عدم قول الباطل، أو تسويغه، وعدم المداهنة، وتزيين الظلم والظالمين، وهذا فيما يتعلق بالعلماء الثقات الورعين المعروفين في الأمة. وهذا في الجملة كما تقدمت الإشارة في الحلقة قبل الماضية. وهذا ما دخله الفساد العريض في المرحلة الحالية من واقعنا الشرعي والسياسي، كما ذكرناه أكثر من مرة.

كان ابن باز محل ثقة من الحكومة، ومحل ثقة وإعزاز كبيرين مجتمعيًا، ممَّا كفل له وجاهة يقدر أن ينفذ بها أشياء كثيرة من المصالح الدينية والدنيوية. وساهم ابن باز في تنشيط حركة الدعوة والتعليم في البلاد الإسلاميَّة.

(4)

لقد ذكرنا في خاتمة المقالة السابقة التي لخصنا فيها موقفنا من تلك القضية: أن ثمة مساحات من الخلاف السائغ في تأصيلنا، وهي ما يتعلق بنفس موقف التعامل مع السلطة المنحرفة، وأن ثمة مساحات من الخلاف غير السائغ في تأصيلنا وهي ما يتعلق بالمداهنة أو قول الباطل، وكلتا المساحتين قد يدخلهما الإعذار – المساحة السائغة إجمالًا، وغير السائغة أحيانًا -.

وليس هناك ما هو أفضل من التمثيل الواقعي؛ ليشرح ذلك التفصيل. حيث نضرب مثالًا، فيه من المساحات السائغة، وغير السائغة، وفيه ما يدخله الإعذار بوضوح، وما يحتمله، ويحتمل عكسه، لكنه يبين لنا: كما أن هناك أمثلة صارخة على الضلال والانحراف، وأخرى ناصعة على الهدى والاستقامة، فإن هناك مساحات أخرى كثيرة وسيطة. الواقع أكثر تركيبًا بكثير مما نعتقد.

نتوخّى من هذا المثال أن نفرق بين نموذجين بينهما تداخل واشتباه: نموذج (عالم السلطان) الذي هو مثال صارخ على الانحراف الذي نحذر منه ونعتبر من مساحة الخلاف غير السائغ، ونموذج (عالم الدولة) الذي يخوض مساحات متنوعة مما نعتبره سائغًا وغير سائغ.

المثال هو شخصية الشيخ عبد العزيز بن باز المفتي الثاني للملكة العربية السعودية، وأحد أهم الرموز السلفية المعاصرة، التي تلقى اعترافًا وإجلالًا على مستوى واسع من مختلف التيارات السلفية – وكثير من غير السلفية -، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، باستثناء أغلب التيارات الجهادية.

(5)

كان ابن باز معترفًا بصحة وإسلاميَّة الحكومة، داعيًا للسمع والطاعة لها، محذرًا من الخروج عليها، واتخذ مواقف راديكالية ضد معارضيها، كأسامة بن لادن، الذي وصفه بالباغي وأنه على باطل، وكذلك في وصفه للمسعري والفقيه – معارضين سعوديين – بأنهما من دعاة الباطل ودعاة الشر، وأن الأول باع نفسه للشيطان.

كان ابن باز محل ثقة من الحكومة، ومحل ثقة وإعزاز كبيرين مجتمعيًا، ممَّا كفل له وجاهة يقدر أن ينفذ بها أشياء كثيرة من المصالح الدينية والدنيوية. وساهم ابن باز في تنشيط حركة الدعوة والتعليم في البلاد الإسلاميَّة المختلفة، وبخاصة بلاد شرق آسيا وأفريقيا، فضلًا عن التعليم في المملكة السعودية، والشفاعات، والنصائح التي كان يكثر توجيهها لجميع الأطراف. وفي الوقت ذاته كان ابن باز محل ثقة الدولة، وهو مفتيها الرسمي، ووقف ابن باز بجوار الدولة في العديد من المواقف الحاسمة، أهمها أحداث جهيمان، أواخر السبعينيات، وفتوى جواز الاستعانة بالجيوش الأمريكية والغربية لتحرير الكويت عقب غزو العراق أول التسعينيات. وتلك الفتوى الأخيرة تعتبر حدثًا تاريخيًا انشقت بعده السَّلفيَّة على نفسها، ولم تلتئم من بعدها.

عالـم السلطان هو من يحل ويحرم للسلطان، فالسلطان عنده مقدم على الشرع، ليس في اجتهاده لِحاظ ديني، إلا في دائرة ما يسمح السلطان. أما عالم الدولة؛ فهو يجتهد بحضور المعنى الديني، والمصلحة الدينية.

وعلى كلٍّ: ينبغي الاعتراف، وبتاريخية متواضعة أيضًا، أنه لا يمكن تقييم تجربة ابن باز في سياق العلاقة بين الفقيه والسلطان: دون الاعتراف بسياقها التاريخي، الذي كان مختلفًا في كثير من وجوهه عما هو الآن. كان ابن باز مرحلة، وليس رجلًا فحسب، فقد كان وجود رجل الدين الذي يحظى باعتراف واسع، وفي نفس الوقت بثقة الدولة والمجتمع، والقادر على موازنة أموره بين رغبات الإسلاميين المتحمسين، والحكومة ذات المصالح البرجماتية؛ هو أمرًا تتطلبه ضرورة الوقت. فسواء أكان خالد أو فيصل أو فهد، كملوك للسعودية؛ فليسوا جميعا كعبد العزيز مثلًا. لقد كانت المملكة في سبيلها للململة أوراقها القديمة، ومحاولة التقدم نحو [تحديث] الدولة. لكنَّها في الوقت نفسه لـم تكن تقدر على العدو سريعًا بقاطرة ثقيلة جدا كترسخ المتدينين في الدولة. مثَّل ابن باز القنطرة الوسيطة، التي لديها مقومات مقبولة علميًا، تعطيه الاعتراف من الموافق والمخالف، ولربما رسخت الدولة نفسها ذلك الاعتراف وتلك الشرعية، بالإضافة إلى العلاقة الجدية بالدولة، يستطيع من خلالها التحصّل على مكاسب من الدولة، وفي الوقت نفسه حفظ النظام العام للمجتمع، والحفاظ على كيان الدولة ومصالحها العُليا.

(6)

كان ابن باز، إذن، عالـم دولة – وليس عالم سلطان -. كالوزير العالـم ابن هُبيرة الحنبلي، الذي يصفه ابن تيمية بأنه ((كان من أمثل وزراء الإسلام. ولهذا كان له من العناية بالإسلام والحديث ما ليس لغيره))، فكانت ((أحيانًا تقوى دولة بني العباس بحسن تدبير وزرائهم – كما جرى في وزارة ابن هبيرة – بما يفعلونه من العدل واتباع الشريعة، وينهضون به من الجهاد)).

فابن باز كابن هبيرة، لـم يكن كلاهما وحيد عصره في العلم، بل يملك أدوات علمية معقولة، فقط، بحيث تدخله في زمرة الفقهاء، ولكن الجانب الأهم في تجربتهما هو الاشتغال السياسي بالحضور الديني، وتوظيف الأول للثاني، والثاني للأول، في عملية موازنة دقيقة: متى يوازن الموازنة الأولى، ومتى يوازن الموازنة الثانية، وما هو الذي لأجله تجوز الموازنة، وفي أي باب، مع حساب المصالح والمفاسد، الدينية، والدنيوية، والعامة، والخاصة، في كل حالة. وهذا موضع عسير لا يقوم بها إلا ندرة من العلماء، مع الاعتياز إلى توفيق إلهي خاص.

وهذا الفرق الدقيق بين عالـم الدولة وعالـم السلطان، لا يفرقه من يحكم بالظاهر دون تفطن للمنطلقات التي تنطلق منها بعض الأفعال المتشابهة في النتيجة. ولذلك يصرح كثير من الجهاديين أن ابن باز، ومن على طريقته كأغلب رموز السَّلفيَّة العلمية السعودية، من علماء السلاطين المنافقين.

وضابط ذلك أن عالـم السلطان هو من يحل ويحرم للسلطان، فالسلطان عنده مقدم على الشرع، ليس في اجتهاده لِحاظ ديني، إلا في دائرة ما يسمح السلطان. أما عالم الدولة؛ فهو يجتهد بحضور المعنى الديني، والمصلحة الدينية، فحتى إن أعطى السلطان شيئًا، فإنَّه يعطيه وعينه على المصلحة الدينية، التي قد تكون في وجوب استمرار تلك الدولة على ما فيها من خلل، فإن ذلك خير من الفوضى، أو قد تكون تمام السياسة التي فيها المصلحة لا تحصل إلا بشيء من الحرام، لاجتناب حرام أشد منه، أو تحصيل منفعة أعظم، أو قد تكون المصلحة في تمشية مصلحة دينية مقابل تلك المصلحة السياسيَّة، التي لا يقول فيها بالباطل في غالب الأمر، بل إما يداري أو يسكت، وفي السكوت من السعة ما ليس في الكلام، أو يتكلم من باب الضرورة، لا من باب الأصل والحلال الكامل، كما في فتوى حرب الخليج.

فلا يمكن أن نحكم حكمًا منصفًا وأمينًا على تجربة كتلك، دون النظر من هذا المنظار المزدوج، الذي يفرق بين (عالم السلطان)، و(عالم الدولة).

من الصحيح أن أهل السنة قد لاقوا دعمًا سلطويًّا بين القرنين الرابع وأول الخامس، لكنه لم يكن تحالفًا عضويًّا وجوديًّا البتة، أما ارتباط تلك الدعوة بالسلطة السياسية ارتباطًا وجوديًّا فهو ما يضفي على تلك العلاقة تعقّدا وتشابكًا هائلا.

وينبغي أن نقول هنا إن ذلك ليس حكمًا لصالح تجربة ابن باز، وما إذا كان قد نجح أم أخفق في محاولته، ولكنه تأطير لتلك التجربة، ووصف موضوعي لها.

مع الوضع في الحسبان أن هناك فرقًا مؤثرًا بالغ الأهمية – هو الفرق التاريخي البنيوي الذي بناءً عليه توصَّلنا لموقفنا في الحلقة الماضية – في طبيعة الخطين الذين صنّف داخلهما السكران طبيعة علاقة العلماء بالحكام قديمًا، وهو التطور الحادث في بنية الدولة، بما يغير من طبيعة تأثير العالِم على الحاكم في النظام القديم عن النظام الحديث، لصالح الأول بطبيعة الحال. فضلًا عن الفرق بين حكام الزمن القديم وحكام الدول الحديثة من حيث القرب والبعد عن الإسلام، ومدى المصلحة في مداراة الأخيرين وإمكان مقايستها على المصلحة في مداراة الأولين. وذلك بالإضافة للمواهب الشخصية والملكات التي يملكها هذا العالم، وتعظّم من فرص نجاحه من عدمها، وهذا أمر نسبي ومتغير من شخص لآخر. إذا وضعنا تلك المعايير كلها في كفة الميزان أثناء عملية التقويم فإن هذا يرشح خروج نتيجة أقرب إلى العدل والإنصاف.

(7)

وبالعود إلى فتوى الخليج المذكورة: فقد كانت من أبرز ما جسّد إشكالية (عالم الدولة)، ودخوله في موازنات هائلة، قد لا يملك أغلب معطياتها، وقد لا يملك المقومات العلمية ولا النفسية الكافية للقيام بها، وقد يكون وجوده في بنية الدولة عائقًا له عن الاجتهاد الحر فيها، على مستويات كثيرة، قد يكون بعضها نفسي داخلي، وليس بالضرورة خارجيًّا سلطويًّا مباشرًا.

وهذا ما جنح برمز آخر، أثقل من الناحية العلمية المفهومية للسلفية المعاصرة: المحدث الشهير ناصر الدين الألباني: إلى انتقاد هذه الفتوى، وعلماء السعودية الذين أفتوا بها، علنًا، بما مثّل شقًّا يلاحظ لأول مرة على هذا المستوى: في السلفية المعاصرة.

فباختصار: اعتقد الشيخ الألباني أن فتوى العلماء لم تكن حرة، وأنها تمت تحت ضغوط سياسية: «أنا أسألك الآن سؤال: خلينا نكون صريحين: تعتقد معنا إن كل هيئة علماء رسمية ممكن أن تخضع لضغوط معينة، أم لا؟ السائل: ممكن. الشيخ: طيب، إذا قال قائل ما: في هيئة ما، في أرض ما: إنه خضعت تحت ضغط معين؛ أيش في هذا؟»، « هذه الفتوى وقعت بعد أن وقعت الواقعة، لا تحسنوا ظنكم أنتم بالحكام؛ لأن الحكام لا يحكمون بما أنزل الله، وأنت شايف كيف الفسق والفجور ماشي رغم أنف كل المشايخ، فلو المشايخ بيقوموا قومة واحدة أمام الحكومة هذه؛ لأوقفوها عند حدها، لكن هي تفعل ما تريد رغم أنف المشايخ، ولذلك هذه الفتوى صدرت بعد أن وقعت الواقعة – [يعني بعد وصول قوى التحالف بقيادة أمريكا] – فهذا أو غيره ما جاء بجلسة أو هيئة العلماء، وقال لهم: ترى القضية كذا وكذا وكذا .. إلى آخره، أيش رأيكم؛ صدام هذا بعثي كافر ملحد إلى آخره؛ نخشى أن يسيطر على بلدنا بعد ما سيطر على الكويت إلى آخره، نستعين باليهود، نستعين بالأمريكان، نستعين بالبريطان اللي جابوا اليهود إلى فلسطين، إلى آخره. سوف لن ترى عالماً يقول له: يجوز».

«من يستطيع أن يقول إن أهل العلم أُخذ رأيهم قبل أن يستجلب هؤلاء الكفار إلى بلاد الاسلام. ما أظن هذا!، ولكن بعد أن وقعت الواقعة، وبدأ العالم الاسلامي يثور على هذه المصيبة؛ صدرت الأوامر لأهل العلم بأن تصدر فتاواهم بتأييد هذا الأمر الواقع. تلكأ بعضهم في بداية الأمر، فيما يبدو لنا و الله أعلم، ثم وجدوا أنفسهم مضطرين إلى إصدار الفتاوي تحت عنوان الضرورات تبيح المحظورات، أنا أقول: هذا قلب للحقائق الشرعية».

مع الأفول المتسارع للسلفية المعاصرة، وموت الصحوة رسميًّا في ظل الظروف غير المواتية التي لا قبل لها بها حاليًّا، فإنه من الضروري على السلفية خصوصًا، أن تنفك بدورها من هذا العبء إلى آفاق أكثر رحابة وسعة.

(8)

وما نختم به هذه السلسلة:

إنه ينبغي حين نرصد تجربة معينة سياق علاقة السلطة بالفقيه عموما: أن نلاحظ فيها خصوصية السياق الزمني والمكاني.

فعلى سبيل المثال، وكي لا نبعد عن المثال الذي ضربناه هاهنا: تجربة ابن باز، لا يمكن رصدها رصدًا موضوعيا في سياق علاقة الفقيه بالسلطة دون ملاحظة سياقها الزمني والمكاني، وهو هنا الارتباط الوهابي العضوي بالسلطة. فلولا الاتفاق التاريخي بين الإمام والأمير لما نشأت الدولة ولا سادت الدعوة. ولربما كان هذا التحالف العضوي هو الأول من نوعه في سياق أهل السنة، الذي تنشأ فيه دولة سنية بهذه الطريقة، فمن الصحيح أن أهل السنة قد لاقوا دعمًا سلطويًّا بين القرنين الرابع وأول الخامس، لكنه لم يكن تحالفًا عضويًّا وجوديًّا البتة، أما ارتباط تلك الدعوة بالسلطة السياسية ارتباطًا وجوديًّا فهو ما يضفي على تلك العلاقة تعقّدا وتشابكًا هائلا، واقعيا، ونفسيا عند الفقهاء: بين ما هو ديني وما هو سياسي، والتباس المصلحة الدينية بالسياسية فيه. ثمة شعور، وقد يدخل في اللاشعور أيضًا، بل يمكننا أن نزعم وجود (لاوعي جمعي) إذا استعرنا مفهوم شتراوس؛ عند فقهاء ومؤسسات سلفية سعودية كثيرة: أن أي خطر، ولو في مستويات معقولة، على النظام، هو خطر على السلفية نفسها، وبما أن السلفية هي الدين نفسه، فالخطر على الدين نفسه، والدين يتمثل في شخوصه وعلمائه ورموزه، فالدفاع عن الدين ساعتها يتحد مع الدفاع عن الشخص نفسه الذي يدافع، فلولا هذا الدين فليس لذلك الشخص وجود قيمي ولا مرجعي ولا اجتماعي، فلك أن تتصور هذا الحلول الفكري المعقد الذي ينتاب أمثال هذه القطاعات حين تعالج هذه القضية.

 ارتباط الوهابية بالسيف السلطاني من أول نشأتها: أخذ منها كثيرًا، وكذلك ارتباط السلفية المعاصرة بالدولة عضويًّا، الذي هو امتداد للارتباط السابق؛ أخذ منها الكثير، وهو الآن الذي يجهز عليها فعليًّا.

هذا الارتباط العضوي مفقود في حالات أخرى، أبرزها حالة الدين الرسمي (الأزهر) في مصر، و(الزيتونة) في تونس، مع الدولة الحديثة، حيث العلاقة بينهما برجماتية خالصة، ليست عضوية، فالأزهر – لأنه المثال الأكبر – قبل الدولة، وبعدها، وجذوره الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية عميقة، ولكن عوامل أخرى كثيرة تدفع الأزهر إلى الاصطفاف اللاعقلاني مع السلطة مهما كانت، بعضها يتعلق ببنية الأزهر الحداثية نفسها بعد الدولة الوطنية الجديدة بعد الاستعمار، وبعضها يتعلق بصراع المرجعيات الدينية الذي يحتمي فيه الأزهر بالسلطة كمرجح لاستمرار سلطته الدينية بالمقابل. وسيكون لنا المزيد حول ذلك في مقالات قادمة عن نموذج الأزهر وإشكالياته البنيوية والدينية.

ولكن المقصود من ذلك كله أن الوعي بحالة السلفية وعلاقتها بالسلطة في دولتها الأم – وهو ما ذكرته في مقال سابق أن هناك سواغًا وحيدًا في علاقة الفقيه بالسلطة العربية ما بعد الكولونيالية هو ما يتعلق بتلك الدولة بسبب طبيعة نشأتها -، وبين علاقة الفقيه عمومًا بالسلطان، سواء أكان سلفيا خارج تلك الدولة، وهو ما عالجناه في مقالة سابقة تتعلق بفساد الفكر المدخلي حول هذه المسألة، أم كان غير سلفي في النماذج الأشعرية الصوفية مثلًا.

وأما الآن، مع الأفول المتسارع للسلفية المعاصرة، وموت الصحوة رسميًّا في ظل الظروف غير المواتية التي لا قبل لها بها حاليًّا، فإنه من الضروري على السلفية خصوصًا، أن تنفك بدورها من هذا العبء إلى آفاق أكثر رحابة وسعة، مع عموم الإسلاميين، والمسلمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى