مقالاتمقالات مختارة

الطريق إلى وعي حضاري إسلامي

الطريق إلى وعي حضاري إسلامي

بقلم عزة مختار

لم يكتمل البناء الحضاري الإنساني في مجتمع بشري كما اكتمل في الدولة المدنية في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-، وامتد ذلك البناء حتى معركة صفين 37هـ، تلك المعركة التي أدخلت المكون البشري في عملية التلاعب بالكلمات على حساب الفكرة الأساسية والعقيدة الراسخة والعمل المشروع وانتهت بما يسمى بالتحكيم، ليرفع المصحف على سنان السيف ويطالب بتحكيمه، وكانت عملية الصراع الأولى في الجماعة المؤمنة والخلاف البيني حول قضية الحكم والبيعة.

وما أشبه اليوم بالبارحة؛ فالأمة المسلمة عادت لما قبل الدولة المدنية، فقد حوصر الدين في صدور الرجال وليس فقط في بلادهم، وتكالبت الأمم على المسلمين حتى صاروا مطاردين في كل أنحاء العالم، ووصم الأبرياء والمستضعفون بالإرهاب، وصارت أموالهم وأعراضهم وأرضهم منتهكة لكل أعداء الأمة، وقدر الله -عز وجل- أن طبيعة تلك الشعوب لا يقومها إلا الدين، ولا يسوسها ويهذبها ويقودها ويخرج منها عنفوانها وطيبها إلا عقيدة راسخة، وشريعة صحيحة، وقيادة ربانية نابغة، وهدف بالغ السمو، ووسيلة لا تقل سمواً عن الهدف المنشود.

فأين موقع الأمة اليوم؟ وما هي العوامل التي ساهمت في تشييد النموذج الحضاري الإسلامي في ثلاثة عشر عاماً (هي عمر الدعوة) بمدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكيف هو السبيل لتطبيق ذلك النموذج اليوم وتهيئة الأمة لإعادة روح الإسلام من جديد؟

أمة التوحيد والواقع المؤلم

لا يخفى على أحد واقع الأمة اليوم، ولن أطيل في تلك النقطة كثيراً، ولولا أن قاعدة الانطلاق تتطلب عرض الواقع ما تحدثنا فيه، ولانطلقنا مباشرة نحو المستقبل؛ لإيجاد حل لتلك الإشكالية يتناسب مع ما نحمله من منهج، ومع ما ندعو إليه من دين يحرص على تمكين مبدأ الحرية والعدالة والرحمة لتعريف الإنسانية بربها وتعبيدها له لضمان سعادتها وسلامتها.

والأمة المسلمة التي انطلقت من بطحاء مكة التي تعتز بها وتقدسها من وقت ما قبل ظهور الإسلام، استطاعت أن تتجاوز قضية الأرض والعروبة والنسب لتصير كل الأرض لله ، ويتآخى أبو بكر وبلال، ويهاجر المسلم تاركاً أهله وماله وبيته وبلاده، بدون الشعور بوحشة الهجرة؛ حفاظاً على دينه، وليس حفاظاً على نفسه، ويدفن أكثر من ثمانين ألف صحابي من أصل مائة وعشرين ألفاً خارج الجزيرة العربية، بينما ينطلقون بدين الله داعين له حاملين راية تحرير الإنسان من عبادة الإنسان لعبادة رب الإنسان.

تحولت أمة الخمر ووأد البنات وعبادة الأوثان لخير أمة أخرجت للناس، كيف؟ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، قدمت أسباب الخيرية فاستحقت أن تنالها، وتأكيد ذلك قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداًۗ} [البقرة: 143]، ولا يقصد وسطاً حسابياً بين القيم المعروفة لدى البشر، وإنما وسطٌ عقلي وقلبي وقيمي وواقعي، قابل للتطبيق، يصنع عملية التوازن المطلوب لاستقامة الحياة على الأرض بتحقيق مبادئ لم تُطَبّق واقعاً إلا في دولة المدينة، فيجوب عمر يتفقد رعيته ليلاً، ويقف نهاراً على منبره ليجد من رعيته من يهدده بتقويمه بالسيف إن لم يفسر كيف أن ثوبه أطول من أثوابهم؟ وكيف استحل لنفسه أن يأخذ نصيباً أكبر منهم، ليتبين السائل أن ابن عبد الله قد تنازل عن حقه لوالده!

يقترب جندي ليس يملك من متاع الدنيا إلا فرسه التي يجاهد عليها، وبضع كسرات من الخبز، عائداً من بلاد الفرس حاملاً أمتعة من الذهب إلى المدينة، وحين يصل يدخل المسجد، ويلقي بحمله على الأرض أمام أمير المؤمنين، لم تحدثه نفسه بمد يده فيه، أو الاطلاع على ما به.

دين صنع الإنسان في دار الأرقم، أخرج نماذج كل منها بأمة، انطلقت في الأرض تحمل الراية فصنعت بدورها رجالاً فتحوا الدنيا على مصراعيها بدون أن تأخذ من دينهم أو تنال منهم، واليوم ابتعدت الأمة عن سر قوتها وأعرضت، زهدت في مكمن عزتها فزلت، وذلت، وصارت لقمة سائغة للأمم تتبادلها فيما بينها كيتيم على موائد اللئام، واستسلمت الأمة لذلك الواقع، فتحول السكون والهوان لتناحر داخلي، وجعل الله بأسها بينها شديداً؛ لإمعانها في الإعراض، فأصبح واجباً على أهل العلم فيها أن يأخذوا بأيديها لتعود، ويضيئوا تلك المصابيح المطفأة فيها.

والدين ما يزال كما هو يحمل بين طياته عوامل التجديد الذاتي، والقادر على صناعة سلام عالمي يتيح للإنسان -على كافة مشاربه- أن يعيش هانئاً هادئاً حراً في ظل شريعة سماوية لم تطلها يد التحريف البشري، بل هي الشريعة الربانية الوحيدة التي لم تطلها يد التحريف والتخريب، وهذا يفوق مجرد صناعة حضارة إنسانية عالمية وحسب.

ما يزال الدين كما هو يحمل بين طياته عوامل التجديد الذاتي، والقادر على صناعة سلام عالمي يتيح للإنسان -على كافة مشاربه- أن يعيش هانئاً هادئاً حراً في ظل شريعة سماوية لم تطلها يد التحريف البشري

أساس البناء الحضاري الإسلامي في المجتمع المدني

من المعروف بداهة أن كل عملية تغيير تسير على محورين أساسيين:

المحور الأول/ هو عملية التخلية من كافة المفاهيم المغلوطة والعقائد المترسخة داخل النفس الإنسانية مما يتنافى مع الفكرة الجديدة، أو الفكرة المراد إعادتها وتنقيتها.

المحور الثاني/ هو عملية التحلية وإمداد الإنسان بمجموعة القيم الجديدة وتربيته عليها، حتى تصير سلوكاً يتحرك بها، وقناعة يذود عنها بكل ما يملك، بما فيه نفسه التي بين جنبيه.

وبناءً على ذلك فإن أساس البناء الإسلامي هو الإنسان، وهدفه الأول هو الإنسان، وغايته إسعاد ذلك الإنسان وضمان نجاته في الدارين ، ومن علو شأن هذا الإنسان فقد أهلّه الله تعالى -وهو خالقه والأعلم به- ليكون قادراً على الاختيار، وقادراً على التغيير بذاته، بل فوضه في أمر ذاته تكريماً له، ليكون قرار التغيير هو قراره الخالص، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْۗ} [الرعد:11].

فالإنسان هو محور أية عملية تغيير، خاصة إن كانت عملية تغيير عقيدي، أو محوري.

ولأهمية ذلك العنصر فقد استمرت الدعوة بمكة المكرمة ثلاث سنوات سراً يلتقي فيها المسلمون في دار الأرقم، ليس مفروضاً عليهم عبادة ما إلا مدارسة القرآن، والتفكر في خلق الله، واستيعاب عملية التحرر الجديد الذي آخى بين العبد وسيده، وحمّله بمهام تفوق أعظم أحلام الإنسانية، فمن مجرد الحفاظ على العيش، ومناولة السيد كؤوس الخمر، ورعي الأغنام في الجبال، تتحول المهمة لتحرير الإنسانية كلها.

والغريب أن فترة الثلاث سنوات تلك كان نتاجها أكثر من خمسين صحابياً -معظمهم قادة حملوا الإسلام على عواتقهم وتحركوا به في ربوع العالم المعروف وقتها- لم يخرج من بينهم من يعرف الفشل، ولم يخرج من بينهم من ارتد عن دينه، ولم يخرج من بينهم من فتنته الدنيا وأنسته رسالته، بل كانوا جميعاً –بدون استثناء- نماذج كل منها قادرٌ على أن يكون بمفرده نواة لأمة.

ثم استكمل بناء هؤلاء الأفراد تحت وهج شمس بطحاء مكة مدة عشر سنوات أخرى دفع المؤمنون فيها الثمن الباهظ؛ لترويض تلك النفس التي نشأت على تعدد الآلهة، واستمراء السجود لصنم، ثم تفجير طاقاتها الكامنة، لتتحمل سُميّة التعذيب، وتموت ثابتة على كلمة التوحيد، ويصمد زوجها ياسر ولا يملك لهم نبي الأمة -في خضم عملية التربية- إلا أن يعدهم بالجنة في مقابل الصبر المجرد؛ لتهيئة النفس التي توشك على الرحيل لدفع الثمن مقابل السلعة الغالية، وتهيئة نفوس المؤمنين المنتظرين لنصر الله، أن كل شيء عنده بمقدار، وأن النصر يحتاج لنفوس مهيأة ليس فقط لاستقباله، وإنما لصنعه، ثم استعماله وليس الخضوع له، فالنصر ليس غاية المؤمن، وإنما غايته الكبرى العمل وفق إرادة الله وإثبات أحقيته بالخلافة والخيرية والشهادة.

يجب أن ينتبه المفكرون، والمربون، والقائمون على فكرة التغيير الحضاري والمجتمعي أن بيئة العمل هي الإنسان عبر تخلية ما به من أفكار موروثة أو مكتسبة، ثم تحليته بأفكار عقيدية ثابتة لا تشوبها شائبة الهوى أو الجهل

لذلك كله كان الإنسان هو محور الاهتمام في الرسالة السماوية، وهو صاحب القرار في أي تغيير سوف يطرأ عليه، واستحق الأمر أن يستمر ثلاثة عشر عاماً في بطن مكة يتربى في رحمها القاسي، ولذلك أيضاً يجب أن ينتبه المفكرون، والمربون، والقائمون على فكرة التغيير الحضاري والمجتمعي أن بيئة العمل هي الإنسان عبر تخلية ما به من أفكار موروثة أو مكتسبة، ثم تحليته بأفكار عقيدية ثابتة لا تشوبها شائبة الهوى أو الجهل، وأنه هو الهدف وليس التراب أو الزمن، وليس التشييد والمعمار، وليس المال وزينة الحياة، الإنسان المسلم هو الأساس الأول لنهضة الأمة والذي يجب البدء به كخطوة أولى على طريق التغيير .

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى