مقالاتمقالات مختارة

الطريق إلى القدس

بقلم د. أحمد موفق زيدان

منذ سقوط القدس علنياً عام 1948، وإن كان الأمر بدأ واقعياً بدخول قوات اللنبي عليها عام 1917، ولا يزال الحديث جارياً عن استرجاعها واستعادتها لمكانتها الدينية، كونها أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ولأنها أرض محتلة، ولكن ما رأيناه طوال العقود الماضية أن الأنظمة الاستبدادية الشمولية الديكتاتورية اتخذتها ركيزة لبقائها في السلطة، بحجة الحرص على استعادتها، ونجحت بشكل خطير طوال عقود في تنميط ثقافة الأمة والمجتمعات على نظرية استعادة القدس مجردة كل التجريد من الأدوات الحقيقية والطريق إلى هذه الاستعادة، وبالتالي غدا مجرد النقاش في غيرها من القضايا تهمة خطيرة قد تودي بصاحبها إلى الخيانة والتفريط، وانحدرت إلى هذا المستوى النخب، حتى المحسوبة على الخط الإسلامي من حيث أدركت أو جهلت.

فاكتفت هذه الأنظمة الشمولية بالاجتماعات واللقاءات والندوات والمهرجانات واستنسخها في ذلك النخب، دون البحث عن آليات وأدوات للوصول إلى هذه الاستعادة، ولذلك فقد رأينا حين انتفض المارد العربي مطالباً بحريته في ربيعه العربي سعت هذه الأنظمة إلى هذه الأسطوانة المشروخة عندها بالحديث عن القدس، وكأن خيولها قد أُسرجت، وسيوفها قد أُستلت من أغمادها، وسكاكينها قد شُحذت من أجل اليوم الموعود، وتبعها في ذلك البعض للأسف ممن أدمنوا الخديعة، ونسوا أو تناسوا أن الحرية هي الخطوة الأولى للتحرير، فلا يمكن لمن يهاجم مخيم اليرموك الفلسطيني، وبعضهم مقدسيون، أن يكون أميناً على القدس واستعادتها.

حين يأتي الحديث عن فلسطين والقدس لا بد من الحديث عن الآليات والطريق الحقيقي إلى تحريرها، وبداية هذا الطريق استعادة الأمة حريتها وقرارها المستقل، بعيداً عن أنظمة شمولية ديكتاتورية مستبدة رفعت شعار فلسطين والقدس من أجل أن تجثم على قلوب المتشوقين لتحريرها، وما زلت أتذكر قول ياسر عرفات لصدام حسين حين هدد بحرق نصف إسرائيل: «إن قضية فلسطين مؤجلة، وقضية العراق معجّلة، ففلسطين لا يمكن حلها سريعاً، ولذا لا بد من الحفاظ على العراق الآن»، ونفس الأمر ينطبق الآن، فإن قضية الربيع العربي وثوراته وانتزاع حرية الشعوب هو المعجل اليوم، لنضع بذلك حداً لخديعة أنظمة ونخب ضحكت علينا لعقود من تشدقها بتحرير القدس، لكن في الحقيقة والواقع ترسّخ استبداداً أكبر، أهدافه بقاؤها في السلطة، ولو كان على ركام القدس وفلسطين.

ما جرى أخيراً من نقل السفارة الأميركية إلى القدس، لم يغير من الواقع شيئاً، تماماً كما لم يغير من فلسطين المحتلة وقدسنا، فهي محتلة، تم نقل السفارة الأميركية إليها أم لم يتم.

علّمنا التاريخ منذ التحرير الأول لفلسطين أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن تحريرها مرهون بتحرير الشام ومصر، وما لم يتحرر الجناحان، فإن تحرير فلسطين والقدس عبث، وأولى خطوات تحرير الشام ومصر هو التخلص من الاحتلال الداخلي والخارجي لهما، ثم الانطلاق إلى تحرير القدس، ولذا فقد فُرضت فلسطين كحاجز بينهما لمنع تواصلهما وانطلاقتهما سوية، وإلا فحالنا كمن يضع العربة قبل الحصان، ويحرث البحر، ويلهث وراء السراب.

طريق تحرير القدس يبدأ إذن من التخلّص من الاستبداد العربي الجاثم على صدور الشعوب العربية، والذي يمنعها من نصرة القدس عملياً، وليس شعاراتياً، إذ يخدم أكثر ما يخدم الأنظمة نفسها، ويخدم معها من جلبته من احتلال غربي وشرقي لتثبيت أركانها ضد شعوب تتطلع لحرية ذاتها وحرية القدس، ولذا فمن العبث الحديث عن تحرير القدس على أيدي أنظمة وقوى إقليمية ودولية تقتل وتهجّر وتدمر أخوات القدس، فالشعوب العربية في غالبيتها تعيش حالة أقرب ما تكون إلى العبودية لأنظمة مستبدة، ولا يحرر القدس إلا الحر، كما قال عنترة من قبل «إن العبد لا يحسن الكر»، وهنا مسؤولية كبيرة على النخب في أن تضع الأصبع على الجرح، وألّا تختفي وراء أصبعها وتطبطب على أنظمة أو قوى استعمارية محتلة مدمرة، ويشفع لها يوماً أعلنته باسم القدس، أو شهراً قاتلت فيه باسم فلسطين، أو ممارسات إجرامية… جلبت دماراً لشقيقات القدس وأخواتها، وأخيراً فمن أهلك الحرث والنسل في أهالي القدس وفلسطين بمخيم اليرموك لن يكون أميناً على القدس وأهلها.

(المصدر: مجلة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى