الصهيونية إذ تفشل في الإقناع بلبوسها الديني.. قراءة في كتاب
قراءة عبد القادر ياسين
الكتاب: “الأكاذيب الصهيونية من بداية الاستيطان حتى انتفاضة الأقصى”، ط3
المؤلف: د. عبد الوهاب المسيري
الناشر: دار المعارف، سلسلة “اقرأ” (662)، القاهرة- حزيران (يونيو) 2021.
تمخضت هزيمة العرب، العام 1967، ضمن ما تمخضت، عن عودة الوعي، ومحاولات جادة لمعرفة العدو الإسرائيلي، الذي كنا صدقنا، قبلها، أن الأسرة الإسرائيلية توزع بيضة واحدة على كل أفراد الأسرة، كما شاعت نكتة، مؤداها توصية لآخِر من سيغادر إسرائيل ألا ينسى إطفاء النور!
باختصار، لم نكن نعرف “إسرائيل”، لذا أشهر بعضنا شعار “اعرف عدوك”، ربما أخذ بما سبق أن شدَّد عليه المفكر الاستراتيجي الصيني الشهير، صن تزو، قبل نحو خمسة قرون، حيث نصح: “من يعرف عدوه، ويعرف نفسه، ففي مئة معركة، سينتصر مئة مرة”.
نأتي إلى المؤلف، د. عبد الوهاب المسيري، الذي وهب عمره للتعريف بالصهيونية، وما ترتب عنها، غداة الهزيمة المومأ إليها، عبر مركز “مركز الدراسات الفلسطينية”، المتفرِّع عن مؤسسة “الأهرام” الصحفية، والذي استُحدِث بعد الهزيمة إياها، وأسندت إدارته إلى زوج ابنة عبد الناصر، حاتم صادق، قبل أن يشطب السادات المركز، ويُحوَّل إلى “مركز الدراسات الاستراتيجية والسياسية” في “الأهرام”!
لقد أغنى المسيري المكتبة العربية، بكتاباته في ذاك الصدد، ولعل آخرها كانت الطبعة الأولى من هذا الكتاب (2013).
مصطلحات بحاجة لإعادة تعريف
أشار المسيري في مقدمته للكتاب إلى أن ثمة مصطلحات، ومفاهيم كثيرة، اخترقت خطابنا السياسي، مثل “الشعب اليهودي”، و”الخصوصية اليهودية”، و”المنفى”، و”ارتباط اليهود الأزلي بأرض الميعاد”؛ بحيث التبست بعض الظواهر علينا، وزالت الحدود بين الصهيونية، واليهودية، والمسيحية، فلم يعد كثيرون يُصدِّقون أن الصهيونية في أزمة، وأن الانسحاب الصهيوني من جنوب لبنان (أيار/ مايو 2000)، ثم “انتفاضة الأقصى” قد تركا جرحًا غائرًا، في الوجدان الصهيوني الإسرائيلي..
ما دفع المؤلف إلى محاولة تفكيك، وإعادة تركيب بعض هذه المفاهيم، أو المصطلحات، لنفهم الكيان الإسرائيلي، بمواطن قوته، وضعفه، وتحسين مقدرتنا على التنبؤ بسلوكه، والتصدي له.
شدَّد المسيري على ضرورة أن يسبق الاجتهاد الجهاد، والأول عملية مفتوحة، لا نهاية لها. ومن اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم يُصب، فله أجر واحد. وحرص المسيري على أن يُذيِّل مقدمته بمسقط رأسه (دمنهور)، و مكان إقامته (القاهرة).
تساءل الفصل الأول، في عنوانه: “يهود أم جماعات يهودية؟”، ولا يرى المؤلف في كلمة “يهودي” مدلولًا واضحًا، ومحددًا؛ له قدرة تفسيرية، وتصنيفية، تفوق، بمراحل، العناصر غير المشتركة بينهم (تعدُّد اللهجات، والألوان المحلية، والطبقات)؛ وكأنهم كتلة واحدة، متماسكة، وكأن ليهود ينتمون إلى تشكيل حضارة واحدة، وأن لهم تاريخًا واحدًا، ومصيرًا واحدًا، ومستقبلًا واحدًا، وربما عرقًأ واحدًا، وانتماءً ثقافيًا واحدًا، وأن مصالحهم، وتطلعاتهم واحدة، وأن العناصر المشتركة بين يهود العالم أكثر أهمية من العناصر غير المشتركة.
أما مفهوم “التاريخ اليهودي”، فيفترض أن لهذا التاريخ مراحله، ومعدل تطوُّره الخاص، وقوانينه الخاصة، وأن هذا البناء يضم جماعة من الناس لا وجود لها خارجه. بينما الثابت، تاريخيًا، أن الجماعات اليهودية المنتشرة في العالم، اتسمت بعدم التجانس، وعدم الترابط، وبأن أعضاءها كانوا يوجدون في مجتمعات مختلفة، تسودها أنماط إنتاجية، وأبنية حضارية اختلفت، باختلاف الزمان، والمكان. فما هي أحداث هذا التاريخ؟ يتساءل المؤلف.
لقد أحدثت الثورة الصناعية تحوُّلًا ضخمًا في التاريخ الغربي، ولم يُستثن اليهود هناك؛ باعتبارهم أقلية داخل التشكيل الحضاري الغربي، بينما ظل يهود الوطن العربي في منأى عن هذه الثورة، وكذلك يهود أثيوبيا.
ما يجعل، أيضا، من الصعب الحديث عن “الهوية اليهودية”، أو “الشخصية اليهودية”؛ فثمة اللادينو (رطانة أسبانية، تحدث بها السيفارديم)، واليديشية (خليط من الألمانية، مع مفردات عبرية، وسلافيه، وتحدث بها يهود شرق أوروبا)؛ الأولى انقرضت، والثانية اقتصر التحدث بها على المسنين. ودأب المؤلفون اليهود على وضع مؤلفاتهم بلغة أوطانهم، بما في ذلك المؤلفات الدينية، ولم يعد يكتب بالعبري سوى المؤلفين الإسرائيليين.
حتى لو كان ثمة خاصية ما، تفصل اليهود عن محيطهم الحضاري، فإنها تظل مقصورة على أقلية يهودية، ومرتبطة بملابسات تاريخية، وأوضاع اجتماعية، زمنية محددة.
الفكر الصهيوني اختزالي، يتغافل عن معطيات الواقع، لذا، فالصهيونية أيديولوجية فاشية، تخلع القداسة على الأرض (أرض الميعاد)، والشعب (شعب الله المختار)، الذي ينكر الآخر. وتسبب التحديات التي تواجه الأيديولوجية الصهيونية، شرخًا عميقًا في المجتمع الإسرائيلي. ما فاقم هذه الأزمة، مع نزولها إلى الواقع؛ فانفرط العقد الاجتماعي الصهيوني، وأخذ المجتمع في التآكل.
إن هناك أساسًا عقائديًا (التهوُّد، والإيمان باليهودية)، وأساسًا عرقيًا (الأم يهودية). فيمكن تصنيف أعضاء الجماعات اليهودية على أساس عرقي، أو إثني، إلى مجموعات كبرى ثلاث:
1 ـ السيفارديم كانوا يتحدثون اللادينو، وعاشوا في شبه جزيرة إيبريا، ومنها اتجهوا إلى الدولة العثمانية، واليونان، وشمال إفريقيا، والتحقت بهم قطاعات من يهود المارانو، وأشهرت يهوديتها. وكوَّن السيفارد شبكة تجارية دولية؛ فقاموا بدور أساسي في تطور الرأسمالية الغربية. على أن ثمة عداء متأصِّلا، بين السيفارد، والأشكيناز.
2 ـ يهود الشرق والعالم الإسلامي، ونُخطئ حين ننسبهم إلى السيفارد، بل هم عدة أقسام، أهمها يهود البلاد العربية، الذين استوعبوا التراث العربي، وأصبحوا جزءًا لا يتجزَّأ منه. على أن هناك جماعات صغيرة أخرى، تتحدث لغة المجتمع الذي يعيش فيه، ولهجته، وتتعامل مع العالم، من خلال أنساق هذا المجتمع، الثقافية، والرمزية.
3 ـ الأشكيناز: هم يهود شرق أوروبا، ويتحدثون اليديشية، وقد عُرفوا بعزوفهم عن الاندماج، وبطريقتهم الخاصة في العبادة، وفي صفوفهم ظهرت جميع الحركات الفكرية اليهودية الحديثة.
إلى إصلاحيين، ومحافظين، وأرثوذكس، وطوائف، وعبادات أخرى. وقد اختفى المركز في اليهودية، منذ أمد طويل؛ ما سمح بتطور الأطراف على نحو مستقل، تمامًا. لذا، فضَّل المؤلف استخدام مصطلح “جماعات يهودية”، بدلًا من “يهودي” لافتقاد اليهود التجانس.
عن الهوية الدينية والوطنية
عن “الخصوصية اليهودية” كان الفصل الثاني، وقد افترض هذا المصطلح أن لتلك الجماعات حضارة مستقلة، وثقافة مستقلة، وتراثا مستقلا عن المجتمعات التي تقيم فيها.
خصَّص المسيري الفصل الثالث لـ “إشكالية الإحصاءات”، التي تجلت في تعداد اليهود، فيما يخص تحديد “من هو اليهودي”؟!
لاحظ المؤلف تناقص أعضاء الجماعات اليهودية في العالم؛ بسبب تناقص المواليد، وتزايد الوفيات، وارتفاع معدلات الاندماج؛ بسبب تفشي قيم المنفعة، والزواج المتأخر، واتساع دائرة الشاذين جنسيًا، وانسحاب كثير من النساء من عملية الإنجاب، وتفسُّخ الأسرة اليهودية، وتزايد نسبة الطلاق، وتركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في المدن. ويتردد بأن نصف يهود العالم، سيكونون في إسرائيل، بحلول منتصف هذا القرن.
ثمة عوامل أدت إلى التقلص المطَّرد في أعداد هذه الجماعات، كتجنيدهم، وتنصُّر أعداد كبيرة منهم، وتنكر أعداد غير قليلة منه لهويتهم. وقد تضاعفت هذه العناصر، بتأثير الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، ناهيك عمن حصدتهم الأوبئة، وطرق الإبادة البطيئة.
تحت عنوان “الهجرة والاستيطان” كان الفصل الرابع، وقد توزَّع إلى عناوين جانبية: الجماعة الوظيفية، والهجرة الاستيطانية، والاستيطان المعاصر، والدياسبورا الدائمة، والانعزالية اليهودية، وانجلترا والمسألة الصهيونية.
تبعه الفصل الخامس، بعنوان “علاقة الصهيونية بالمسيحية”، وفيه حذَّر المؤلف من الأخذ بهذا المصطلح، تمامًا، مثل مصطلح “الحروب الصليبية”، بينما الصليب بريء منها، وهي حروب استعمارية، المسيحية بريئة منها، والصحيح أنها “حروب الفرنجة”، التي لم تحابِ مسيحيي بلادنا. أما “الصهيونية المسيحية”، فيُفهم منها أن ثمة علاقة عضوية بين المسيحية، والصهيونية، بينما نحن إزاء مصطلحين “أيْديولوجييْن” متحيزين للإمبريالية، والصهيونية.
والشيء نفسه يمتد إلى ما يدعونه “التراث اليهودي المسيحي”. أما “الصهيونية المسيحية” فيضفي على الصهيونية، صبغة عالمية، تربطها بالمسيحية. في حين أن في مقدمة الصفوف المعادية للصهيونية، بين عرب فلسطين، كانوا من العرب المسيحيين. كما أن الكنيستين، الكاثوليك والأرثودكسية، تعارضان الصهيونية، على أساس عقائدي، ديني مسيحي.
عالج الفصل السادس “معاداة اليهود تفكيك وتركيب ثلاث حالات”، حيث تناول المؤلف ثلاث وقائع، حاول الصهاينة إلباس هذه الوقائع الوشاح الصهيوني، قبل أن يقوم المسيري بعملية تركيبية، ووقائع أخرى، استبعدها الصهاينة. أولى الوقائع “تهمة الدم”، باتهام اليهود بقتل صبي مسيحي، في كل عيد فصح، ليستعملوا دمه في طقوسهم الدينية، وأعيادهم.
أما الواقعة الثانية ، فهي حادثة دريفوس الشهيرة، وبطلها ألفريد دريفوس (1856 ـ 1935)، وكان الضابط اليهودي الوحيد في هيئة أركان الجيش الفرنسي، وقد اتُّهم، العام 1894، بأنه سلَّم الملحق العسكري الألماني، في باريس، وثائق سرية، وقضت المحكمة بسجنه مدى الحياة، بعد أن جردته من رتبته، ونفيه إلى (جزيرة الشيطان)، ديفلز أيلاند.
نأتي إلى الواقعة الثالثة، وهي حادثة ليوفرانك، اليهودي الأمريكي، الذي اتُهم بقتل فتاة بيضاء، عمرها 13 سنة، بعد محاولته اغتصابها، وحُكم عليه بالإعدام، لكنه خُفّف إلى السجن مدى الحياة.
لقد تأكد كذب هذا الادعاء، فبينما اكتشف جورج بيكار، رئيس مخابرات الجيش الفرنسي، أدلة تؤكد براءة دريفوس، فإن هذه البراءة تأجلت إلى العام 1903، في الوقت الذي بقيت واقعة ليوفرانك، الذي أُختطف من السجن، وتم شنقه.
أزمة الصهيونية
على أن الزمن استحدث “أزمة الصهيونية”، عنوان الفصل السابع. وفيه اكتشف الصهاينة، أواسط السبعينيات، أن الحل الدارويني السحري هو الحل الإمبريالي، وحرص الصهاينة على جعل دولتهم قاعدة للإمبريالية الغربية، بينما اتشحت الصهيونية بالدين اليهودي.
لقد تمثلت بذور الأزمة في استناد الصهيونية إلى أكذوبة “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”، والفكر الصهيوني اختزالي، يتغافل عن معطيات الواقع، لذا، فالصهيونية أيديولوجية فاشية، تخلع القداسة على الأرض (أرض الميعاد)، والشعب (شعب الله المختار)، الذي ينكر الآخر. وتسبب التحديات التي تواجه الأيديولوجية الصهيونية، شرخًا عميقًا في المجتمع الإسرائيلي. ما فاقم هذه الأزمة، مع نزولها إلى الواقع؛ فانفرط العقد الاجتماعي الصهيوني، وأخذ المجتمع في التآكل.
بينما تجلت هوية المستوطنين، الذين اكتشفوا توافر العناصر غير المشتركة بينهم، فانقسمت الدولة على أساس عرقي، وعلى أساس ديني، وانقسم الدينيون إلى أرثودكس، وإصلاحيين، وفشلت الدولة في تعريف اليهودي. ولايزال الإسرائيليون يعانون أمراض الدياسبورا (المنفى). وتسود إسرائيل عقلية استهلاكية.
يطرح أعضاء الجماعات اليهودية جملة من الأسئلة، بشأن هوية الدولة اليهودية، ومدى انتمائها لليهود، من المنظورين، التوطيني والاستيطاني؛ ما هزَّ مقولة “الوضع الراهن”، فتكاثرت المصطلحات الصهيونية.
أجبر “حزب الله” الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من الجنوب اللبناني، من طرف واحد، وبدون مفاوضات ثنائية (أيار/ مايو 2000). وعن دلالات هذا الانتصار، جاء الفصل الثامن. وبعد نحو أربعة أشهر اندلعت في فلسطين “انتفاضة الأقصى”، وتولى أمرهما الفصل التاسع.
نحن أمام كتاب موسوعي، حُشِر في كبسولة، من شدة تكثيفه (184 صفحة من القطع الصغير)، وأهميته، لكل من يريد الإلمام بموضوع الصهيونية، وكيانها، لباحث، ومفكر، وهب حياته لهذا الشكل الكفاحي، والمُحزن أن أحدًا لم يخلفه في هذا الموقع.
(المصدر: عربي21)