مقالاتمقالات مختارة

الصكوك الإسلامية لتمويل المدارس الوقفية.. ماليزيا نموذجاً

الصكوك الإسلامية لتمويل المدارس الوقفية.. ماليزيا نموذجاً

بقلم د. أمل خيري أمين

كان للوقف دور مهم في نهضة المجتمع الإسلامي عبر تاريخه؛ فقد كان له الفضل في تقديم جميع أنواع الخدمات التعليمية سواء بإنشاء المدارس والمؤسسات التعليمية والجامعات العريقة أو المكتبات ومساكن الطلاب والخدمات الصحية لهم.

ويحفل التاريخ الإسلامي بالعديد من النماذج الوقفية التعليمية التي كان لها أثر مهم في تعزيز العلم والمعرفة وبناء الحضارة، فقد ارتبط التعليم بالأوقاف ارتباطاً وثيقاً على مدار التاريخ الإسلامي، بداية من المسجد، مروراً بالمدارس، وانتهاءً بالجامعات، ومثّلت الأوقاف المصدر الرئيس والوحيد لتمويل التعليم في الحضارة الإسلامية دون تدخل من جانب الدولة؛ ومما يدلل على ذلك عدم إنشاء ديوان حكومي للتعليم أسوة ببقية الدواوين التي عرفتها الدولة الإسلامية(1).

يتمثل الوقف التعليمي في مجموعة من الأصول التي تستثمرها مؤسسة تعليمية (مدرسة، كلية، جامعة) لدعم مهمتها التعليمية بشكل مستمر ودائم، ويسمح الوقف للمانحين بتحويل أموالهم وممتلكاتهم الخاصة إلى أغراض عامة تستمر في خدمة هذه الأغراض؛ حيث يقدم المانح التزامات في المستقبل البعيد باستمرار دعم وتمويل المؤسسة التعليمية من ريع الموارد التي تم تخصيصها(2).

وقد أصبحت التبرعات النقدية في الغرب أحد الموارد الأساسية لتمويل المؤسسات التعليمية والجامعات، وأنشئ العديد من الوقفيات؛ مثل وقفيات جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأمريكية، ومكَّنت الأوقاف التعليمية هذه المؤسسات التعليمية من ضمان تدفق الموارد المالية اللازمة لاستمرار عمل المؤسسة وتطوير الخدمات التعليمية بها.

أما في المنظومة الحضارية الإسلامية، فإن الوقف التعليمي يقصد به “تحبيس الأصول على منفعة الجوانب العلمية والتعليمية، كوقف المكتبات، ونسخ الكتب، ونسخ المصحف الشريف وتجليده، ووقف المدارس وحلقات العلم، والمتعلق بالمتعلمين والمعلمين ونفقاتهم، ووقف القراطيس والأحبار والأقلام ونحوها مما يحتاجه العلم والتعليم”(3).

وقد نشأت فكرة الأوقاف على التعليم في الدولة الإسلامية لتوفير نصيب من المال يتيح للمؤسسات التعليمية الحفاظ على استقلاليتها واستمراريتها بعيداً عن موارد الدولة، وكان للوقف التعليمي دور كبير في بناء وتطوير التعليم، وتوفير فرص للأفراد والمؤسسات في المشاركة المجتمعية، وتوجيه أوجه الإنفاق الشرعي لخدمة حاجات المجتمع(4).

الدور الحضاري

امتد الدور الحضاري للأوقاف التعليمية في تعميق روح المسؤولية المجتمعية نحو التعليم؛ لذا نجد مشاركة من الجميع في الوقف على التعليم سواء من الخلفاء والسلاطين، أو من التجار والعلماء والدعاة والقضاة والنساء وأفراد المجتمع، كما كان الوعي بأهمية جميع العلوم لدى الواقفين مما أدى إلى الوقف على المدارس التي تدرس القرآن الكريم والعلوم الشرعية والعلوم الطبية وعلوم الفلك والرياضيات وغيرها(5).

وفي ظل ما تعرضت له الدول الإسلامية من استعمار أجنبي وغزو فكري، وما اعتراها من تأخر في جميع النواحي، انحسر دور الأوقاف التعليمية، إلا أن الآونة الأخيرة شهدت عودة الاهتمام بالأوقاف التعليمية وإن كان دورها لا يزال ضعيفاً؛ لغياب الوعي المجتمعي، حيث ينظر الناس إلى التعليم على أنه مسؤولية الحكومات وحدها.

وقد تبنت عدة دول إسلامية ثقافة إحياء الوقف التعليمي وتعزيز دوره في تمويل التعليم، وظهر العديد من المنتجات الوقفية المبتكرة التي تسهم في تفعيل دور الوقف التعليمي؛ مثل الوقف النقدي، ووقف العقارات والأراضي والصناديق والصكوك الوقفية وغيرها.

تجربة المدارس الوقفية في ماليزيا:

تعد تجربة المدارس الوقفية في ماليزيا أحد النماذج الواعدة لتمويل التعليم وفق النهج الإسلامي، وبشراكة مميزة بين الحكومة والقطاع الخيري.

تم إنشاء سلسلة المدارس الوقفية في ماليزيا عام 2011م بالشراكة بين وزارة التعليم والقطاع غير الربحي؛ حيث تعاونت كل من مؤسسة “ياسان أمير” غير الربحية مع عدد من الرعاة الآخرين في إنشاء وإدارة هذه المدارس، وذلك تحت إشراف “خزانة ناشيونال”؛ بغرض تحسين نوعية التعليم في المدارس الحكومية الماليزية من خلال الشراكة مع وزارة التعليم الماليزية.

ويعد برنامج المدارس الوقفية عبارة عن برنامج تحويلي يهدف إلى توفير الوصول العادل إلى التعليم المتميز لجميع الأطفال الماليزيين، ويعزز التميز المدرسي، من خلال رفع مستوى ممارسات القيادة والتعلم والتدريس الحالية في المدارس، وكذلك تنفيذ مجموعة واسعة من المناهج والبرامج.

تهدف هذه المدارس إلى تعزيز أداء الطالب التعليمي، وتحسين الإدارة المدرسية، كما تركز على التفكير والإبداع والأخلاقيات المهنية وأخلاقيات العمل، ويعد برنامج المدارس الوقفية جزءاً من الخطة الوطنية للتعليم التي أصدرت عام 2013م لرفع امتثال المدارس في ماليزيا للمعايير الدولية خلال 15 عاماً.

ترتكز رؤية المدارس الوقفية على أربعة أهداف إستراتيجية للتحول الشامل للمدارس الحكومية الماليزية:

1- تطوير جودة القيادة والإدارة.

2- تحسين جودة التعليم والتعلم.

3- تعظيم تحصيل الطالب وإمكاناته.

4- تعزيز المشاركة المجتمعية من أجل تحقيق نتائج فعالة للطلاب.

تخضع المدارس الراغبة في الانضمام إلى البرنامج إلى تقييم شامل يضم 20 مؤشراً ضمن الأهداف الإستراتيجية الأربعة، ولا يسمح بانضمام المدرسة إلا بعد أن تستوفي المعايير المطلوبة، ويتم اختيار المدارس التي تدخل في برنامج المدارس الوقفية عبر مرحلتين، في المرحلة الأولى تشترك “ياسان أمير” مع وزارة التعليم لتحديد التوافق في الرؤية والاهتمام بالبرنامج، ثم في المرحلة الثانية تقوم المؤسسة بإجراء جلسات حوار عام مع بقية مجتمع المدرسة بمن في ذلك المعلمون وأولياء الأمور والطلاب لتقييم الاستجابة على أرض الواقع بشكل أفضل.

بدأ برنامج المدارس الوقفية عام 2011م مع مجموعة أولية من 10 مدارس، وبحلول عام 2015م أصبح عدد المدارس 62 مدرسة مشاركة، وبحلول يونيو 2017م كانت هناك 83 مدرسة تشارك في البرنامج، وتغطي شبكة المدارس الوقفية 10 ولايات ماليزية، وتخدم 65 ألف طالب، وتهدف الحكومة إلى إنشاء ما مجموعه 500 مدرسة وقفية في جميع أنحاء البلاد بحلول عام 2025م.

صكوك “إحسان”

وفي تجربة هي الأولى من نوعها، اتجهت “ياسان أمير” إلى تمويل المدارس الوقفية من خلال صكوك استثمارات ذات مسؤولية اجتماعية؛ فقد أصدرت شركة “خزانة ناشيونال الماليزية” صكوكاً أطلق عليها صكوك “إحسان”؛ بغرض تمويل “المدارس الوقفية” من خلال سوق رأس المال(6).

تم إصدار الشريحة الأولى من الصكوك في 18 يونيو 2015م بقيمة 100 مليون رينجيت ماليزي (26 مليون دولار)، وذلك ضمن برنامج شامل ستصل قيمته إلى مليار رينجيت (260 مليون دولار)، وقد جرى الاكتتاب بكامل قيمة الصكوك في يوم واحد، وتبلغ نسبة الربح عليها 4.3%، وشمل الاكتتاب شركات وصناديق استثمارية ومصارف وصناديق تقاعد ومؤسسات لإدارة الأصول، وقد حظيت الصكوك بموافقة هيئة الأوراق المالية(7).

في يوليو 2017م، تم إصدار الشريحة الثانية من صكوك “إحسان” بمبلغ 100 مليون رينجيت ماليزي لتمويل 20 مدرسة جديدة على مدى خمس سنوات.

تخصص عائدات الصكوك لتمويل مجموعة من المدارس ضمن صندوق للتعليم لا يهدف للربح المادي، بل هو مكرس لتحسين وصول الطلاب إلى التعليم المميز.

وتعتمد الصكوك على عقد “الوكالة بالاستثمار”، وستستفيد من القدرات الحكومية الماليزية التي تطمح إلى مواصلة قيادة الأسواق العالمية على صعيد إصدار الصكوك، وتتميز هذه الصكوك أيضاً بكونها تتيح لحامليها تحويل استثماراتهم في الصكوك إلى تبرع في أي وقت.

وقد أسهمت إصدارات الصكوك في امتداد برنامج “المدارس الوقفية” لتغطي عدداً أكبر من المدارس والطلاب، بل إن من الأهداف الإستراتيجية لهذا البرنامج هو إفادة أكبر عدد من أصحاب المدارس والمعلمين والطلاب وأولياء الأمور والمجتمع ككل.

تعد التجربة الماليزية ملهمة للدول الإسلامية في تطوير الوقف التعليمي ومبتكراته، وتوفير مصدر ثابت ومستدام لتمويل التعليم من خلال استثمار ريع الأوقاف في الصكوك الوقفية.

وتحقيقاً للاستفادة القصوى من الوقف على التعليم، يجب رفع الوعي بأهمية الوقف التعليمي، وحثّ رجال الأعمال والمحسنين والواقفين على توجيه جزء من أموالهم للوقف على التعليم، كما ينبغي رفع الوعي بأهمية تطوير مبتكرات الوقف التعليمي، وإصلاح نظم الوقف ورفع القيود التنظيمية عنه، لما له من دور في رفع العبء عن الحكومات في توفير الخدمة التعليمية، وتوفير التعليم للطبقات الفقيرة والمهمشة والأيتام وغير القادرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) إبراهيم البيومي غانم، الأوقاف والسياسة في مصر، دار الشروق، القاهرة، 1998م، ص 196.

(2) Understanding College and University Endowments, American Council on Education, Washington, DC, p2.

(3) أنور محمد الشلتوني، “التدابير الشرعية لإعادة الوقف العلمي إلى دوره الفاعل في النهضة العلمية للأمة”، بحث مقدم إلى مؤتمر أثر الوقف الإسلامي في النهضة العلمية، كلية الشريعة، جامعة الشارقة، 9-10/5/2011م.

(4) https://waqf-jo.com/ar/node/1

(5) عثمان جمعة ضميرية، “استثمار أموال الأوقاف على التعليم وأساليب إدارتها”، ورقة عمل مقدمة لمؤتمر أثر الوقف الإسلامي في النهضة التعليمية، جامعة الشارقة، 6 و7 جمادي الآخر 1432هـ/ 9 و10 مايو 2011م.

(6) بنك نيجارا، صكوك الاستثمارات المسؤولة اجتماعياً والصكوك البيئية: التحديات والآفاق، ماليزيا.

(7) Sukuk-Ihsan-Brochure, 13 July 2017.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى