مقالاتمقالات مختارة

الشيخ يوسف القرضاوي .. ابن تيمية العصر

بقلم إحسان الفقيه – ترك برس

“قِيل ما سأقول”

تلك العبارة التي تضمنتها إحدى قصائد الشاعر محمود درويش، قفزت إلى ذهني عندما هممت بالكتابة عن الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله، فماذا عساه أن يسطّر قلمي عن ذلك الحَبْر، الذي يُعدّ ظاهرة فقهية وأصولية معاصرة.

لستُ من أهل العلم حتى أتناول فقهه وبحار علمه، ولستُ من الأدباء والشعراء حتى أشير إلى بلاغته وأشعاره، ولكني هاهنا أكتب عن الشيخ الجليل بصفتي واحدة من أبناء الأمة الذين استفادوا من غزارة إنتاجه، فلا أحسب أنّ أحدا لم يستفد منه بشكل أو بآخر، ربما من برنامج على الفضائيات حلّ الشيخ عليه ضيفا، وربما من خلال خطبة مسجلة، أو من خلال مؤتمر إسلامي، أو من أحد كتبه العديدة التي تغزو الأسواق، أو ربما عبر فتوى تبلغ الآفاق تتعلق -كعادته- بحاجة الناس وواقعهم.

إنني إذ أكتب عن هذا الجهْبذ، فلا ريب أني لم ألتفت إلى كثرة ما كُتب عنه، وإنما أكتب بالنظر إلى رصيد تأثيره في نفسي وعقليتي، أكتب عنه اعتمادا على ما سمحت به نافذتي الصغيرة، التي أطلّ منها على ذلك الصرح العلمي والدعوي.

أبرز ما تبلور في حسّي عن الدكتور يوسف القرضاوي، أنني قد رأيته على درجة شديدة الشبه بشيخ الإسلام ابن تيمية.

فلئن كان شيخ الإسلام قد برع في سائر العلوم، فهو الفقيه الأصولي الناقد المفسر المجتهد، صاحب الذراع الطولى في العقيدة، والحديث وعلله، وفي علم الرجال، والفتيا، والعلم بأقوال المتكلمين، فإن الشيخ القرضاوي قد خرج من نفس المشكاة من شمولية العلم، فامتدت اهتماماته العلمية بالفقه والأصول، والقرآن والسنة النبوية، والدعوة والتربية، والفكر، والسياسة الشرعية، والاقتصاد، والحركات الإسلامية، واللغة والشعر والأدب.

وكما أن ابن تيمية قد سخّر قلمه في الردّ على الفِرَق الضالّة من الفلاسفة والمتكلمين، والجهمية والرافضة وغلاة المتصوفة وغيرهم، فإن القرضاوي له جهود بارزة في محاربة التيارات الغربية الوافدة، وحمل على عاتقه توعية الأمة بخطر العلمانية والليبرالية والاشتراكية والتغريب ، كما أنه ناجز البدع والخرافات ، وحارب مصادر التلقّي لدى الصوفية من كشف وإلهام ومنامات، وله في تلك القضايا كتاب ماتع بعنوان “موقف الإسلام من الإلهام والكشف والرؤى والتمائم والكهانة والرقى”.

وأحسب أن الرجلين قد دخلا تحت وصف النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث (يحمل هذا العلم من كل خلف عُدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين).

وورث القرضاوي عن شيخ الإسلام تلك الثورة الناضجة الواعية المنضبطة على الجمود الفقهي، وكلاهما قفز خارج قفص التمذهب إلى المذهب الحر في الفتيا، فالأول كان حنبليا لم يتقيد بالمذهب الحنبلي، والثاني حنفي شافعي، لكنه يدور مع الدليل، ويُفتي وفق أدوات الاجتهاد وشروطه.

كلاهما لم يكن جمهوريا يميل حيث مال جمهور العلماء، بل كانت لكل منهما اجتهاداته التي خالف بها جمهور أهل السنة، مع الحفاظ على الثوابت التي تقضي بعدم تخطي نص قطعي الثبوت والدلالة، أو تجاوز إجماع الأمة.

ونظرا لذلك، تعرض العالمان الجليلان لكثير من موجات الهجوم الضاري، وصل إلى حد تكفير كل منهما، وربما اتُّهِما بذات التهمة في كثير من الأحيان، حيث رماهما الخصوم بالتكفير ومخالفة الإجماع.

وافق القرضاوي شيخ الإسلام في الاهتمام بالجهاد ومدافعة الأعداء، فهذا ابن تيمية قد سجل له التاريخ أدوارا بارزة في مقارعة التتار، عبر التحريض على الجهاد ضد العدو الصائل، وإضرام نار الحماسة في قلوب الجند، والحث على التبرع لجيش الإسلام، كان رحمه الله دائم التحرك بين معسكرات الجنود والثغور المرابطين عليها، يثبتهم ويقوي عزمهم، بل ويشارك في القتال بنفسه.

وأما شيخنا القرضاوي، فاهتمامه بالقضية الفلسطينية والمقاومة كان مجالا فاقَ فيه أقرانه من أهل العلم، وتعهدها بالفتاوى التي تدعو الحاجة إليها في ميدان المقاومة، ومنها الإفتاء بجواز العمليات الاستشهادية ضد المحتل الصهيوني طالما أحدثت فيه نكاية، ولم يُتوصل إليه إلا من خلالها.

ومن سعة فقهه ودرايته بأن الفتوى تتغير بتغير الأحوال، أفتى مؤخرا بعدم جواز هذه العمليات نظرا لأن النيل من العدو الصهيوني أصبح مُيسّرا عبر الصواريخ والأسلحة الحديثة.

كما عُرف عن القرضاوي إفتاؤه بتعيّن الجهاد في سوريا ضد النظام السوري العلوي المستبد، واهتمامه بالأقليات المسلمة المضطهدة في الشرق والغرب، إضافة إلى مواقفه الناصعة المؤيدة لثورات الربيع العربي على الأنظمة الديكتاتورية المستبدة.

وحتى سجْن شيخ الإسلام ابن تيمية على يد خصومه، كان للقرضاوي نصيب في مشابهته، حيث اعتُقل مرات في سبيل الدعوة، منذ أن كان طالبا في المرحلة الثانوية في العهد الملكي عام 1949م، ثم اعتقل في الحقبة الناصرية عام 1954م، ثم في نوفمبر من نفس العام، وآخرها في نفس الحقبة عام 1963م.

ولما خرج الشيخ مُودّعا وطنه إلى قطر التي أقام فيها نهضة في مجال التعليم الديني، مضى في طريق الدعوة التي يعلم يقينا أنه لا يحدّها أرض وجغرافيا، وكأنه يسير بذات الروح التي عبّر عنها شيخ الإسلام بقوله: “ما يصنع أعدائي بي؟ أنا سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة”.

كان شيخ الإسلام ابن تيمية من جهابذة العلماء الذي أسهموا في وضع المبادئ العامة للفقه المقاصدي، والذي يرتكز على فهم النصوص الشرعية الجزئية في ضوء المقاصد الكلية للشريعة، وله رحمه الله في ذلك الباب تطبيقات متعددة أبرزها المعاملات المالية، وذلك اعتمادا على ربط الأحكام بروح الشريعة الغراء وغاياتها، ومن ثم كان الإمام الجليل أكثر علماء عصره مسايرة للواقع ومستجداته، وأعمق فهما للنصوص.

وورث عنه تلميذه القيم ابن القيم ذلك الاهتمام، انطلاقا من إيمانه بأن الشريعة قامت على مصالح العباد، ومن ثم ترتبط النصوص الجزئية بمقاصد الشريعة الكلية، فتراه يقول: “الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها”.

وكأن الشيخ القرضاوي قد رفع لواء ذلك الميراث في عصرنا هذا، فما يُذكر فقه المقاصد إلا مقترنا به اسم الشيخ، الذي أولى ذلك العلم اهتماما بالغا فاق علماء عصره.

وعلى المستوى الشخصي، لم يكن لي معرفة تذكر بمعنى الفقه المقاصدي إلا بعد أن طالعت بعض مؤلفات الشيخ حفظه الله، فإذ بي أدرك مزيدا من جوانب العظمة في الشريعة من خلال ما كتب الرجل.

لقد كان فقه المقاصد لدى القرضاوي محل اهتمام واسع بين أبناء الصحوة الإسلامية وخاصة المهتمين بالجوانب السياسية، غير أنه تبنّى منهجا وسطا معتدلا، أساسه العضّ بالنواجذ على ثوابت الشريعة، والتحرّك بفقه عميق في منطقة المتغيرات معتمدا على مقاصد الشريعة وغاياتها، لا يخالف في ذلك إجماعا، وله في كل قول سلف، مُراعيا أوضاع الناس وأحوالهم، ومن ثم كان من أهل منهج التيسير في الفتوى، وكما قال ابن المبارك: “إنما العلم رخصة من ثقة”.

القرضاوي في فقه المقاصد ينتمي إلى أهل الوسط الذين يردون الجزئيات إلى الكليات، والفروع إلى الأصول، والمتغيرات إلى الثوابت، والمتشابهات إلى المحكمات، ويعتصمون بقطعيات الشريعة.

ولذا كان الشيخ ولا يزال، يواجه المنحرفين عن ذلك المنهج، فهاجم مدرستين في هذا المضمار:

مدرسة عطلت النصوص الشرعية بدعوى أن الدين جوهر لا شكل، واتخذوا المقاصد دينا في ذاتها، فحيث كانت المصلحة فثمّ الدين، ففرغوا الدين من محتواه، وقاموا بالالتفاف على النصوص وليِّ أعناقها وتطويعها لخدمة مآربهم، وسماهم الشيخ بالمعطلة الجدد.

ومدرسة أخرى وقفوا على ظاهر النص ، وتمسكوا بحرْفية النصوص الشرعية الجزئية، دون الالتفات إلى روح الشريعة ومقاصدها الكلية، فضيّقوا على العباد، وحجروا واسعا، وهم الذين أطلق عليهم “الظاهرية الجدد”.

وتفرع عن اهتمامه بذلك الفقه، اهتمام لا يقل عنه بما تشعب عن هذا الفقه، من فقه الأقليات، وفقه الأولويات، وفقه المآلات، وفقه السنن، وفقه الاختلاف، مما اعتبره شُعبا لفقه المقاصد، وذلك في دراسة له بعنوان “فقه مقاصد الشريعة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية”.

لم يكن ابن تيمية من علماء المحاريب والزوايا المتقوقعين في المساجد، ولم يكن من النائين عن واقع الناس، فقد كان عالما ربانيا منفتحا مواكبا لعصره وظروفه القاسية، كان صاحب نضال ضد الغزاة والمحتلين، وضد غزاة الداخل من أصحاب الانحرافات الفكرية، وذا رصيد هائل من الفتاوى التي تتعلق بأحداث ووقائع عصره، يصول ويجول في ميدان العبادة والجهاد والسياسة وأحوال الدولة، وعلاقة الراعي بالرعية، باختصار: كان ابن عصره.

وكذلك القرضاوي ابن عصره، لم يكن مجرد فقيه يعلم الناس أمور دينهم، بل رجل أمة، يهتمُّ ببناء الدول والجماعات، يُغربل مصطلحات العصر، تشغله قضايا حقوق الإنسان، وعلاقة المسلمين بغيرهم، يؤصّل لفقه الأقليات المسلمة في الدول الغربية، يتناول التعددية الحزبية وعلاقة الشورى بالديموقراطية وما يتفق منها ويختلف مع الفكرة الإسلامية، يساند الثورات التحررية.

ويوم أن عاد إلى بلاده إبّان ثورة يناير، كان في الميدان يجمع الشتات، ويكرس لعلاقة سوية بين رفقاء الثورة.

وفوق ذلك تجده يستحق لقب عالِم المؤسسات، أنشأ مع إخوانه من العلماء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، والعديد من الهيئات والمؤسسات التي تهتم بالقضية الفلسطينية ومواجهة التنصير، والجامعات والمعاهد العلمية، وله اهتمام بالغ بالمؤسسات الاقتصادية.

ورث القرضاوي عن شيخه ابن تيمية الجرأة المنضبطة الواعية في الفتاوى، فابن تيمية الثائر صاحب المذهب الحر، كان يدور مع الدليل وإن خالف جماهير الأمة.

وكذلك الشيخ القرضاوي، تجده جريئا في فتاواه طالما كانت مستندة إلى أدلة، لا يخالف في ذلك إجماعا، ولا يعارض نصا قطعي الثبوت والدلالة، حتى وإن خالفت جماهير الأمة، ومنها إباحة المعازف على غرار ما ذهب إليه الإمام ابن حزم، وكان من القائلين بجواز التصوير الفوتوغرافي مخالفا عامة علماء السلفية، علما بأن معظمهم تراجع عن الإفتاء بحرمتها مؤخرا، وصار القول بالحرمة في أضيق الدوائر العلمية.

كثيرا ما تعرض بسبب هذه المخالفة للنقد والهجوم لكنه كان لا يكترث، فمن ذلك ميله لقول ابن تيمية وابن القيم بفناء النار، وبغض النظر عن صحة هذا القول، فله أدلته، وله سنده من القائلين به من علماء السلف، وحسبه.

لكن أكثر ما جلب النقد والهجوم للشيخ القرضاوي، كانت فتاواه المتعلقة ببناء الدول وأنظمة الحكم، كما هو الحال في موقفه من آليات الديموقراطية كالانتخابات النيابية ومبدأ حكم الشعب، وقوله أن جوهر الديموقراطية يتفق مع صميم الإسلام، وتفنيد شبهات المعارضين، ومنها تأكيده أن حكم الشعب الذي تقول به الديموقراطية مضاد لحكم الفرد المستبد، ولا يلزم منها رفض تحكيم الشريعة.

أوجه الشبه بين القرضاوي والشيخ ابن تيمية كثيرة يطول فيه البسط والبيان، لكنني أختم بسِمة الرجوع إلى الحق دون استكبار.

ابن تيمية رحمه الله رغم قوّته العلمية وبروزه في مجال النقد، إلا أنه كان يرجع عن قوله إذا تبين أن الحق بخلافه، فعلى سبيل المثال كان يأخذ برواية ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل عن الفأرة تقع في السمن فقال: (إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه)، فلما تبين له عدم صحتها طرح الإفتاء بها، فيقول في مجموع الفتاوى:

” هذه الزيادة وقعت خطأ في الحديث ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا هو الذي تبين لنا ولغيرنا، ونحن جازمون بأن هذه الزيادة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها بعد أن كنا نُفتي بها أولا، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل”.

وها هو العلامة القرضاوي مع سعة علمه، واستقلاله الفقهي وجُرأته العلمية، لا يستنكف عن الاعتراف بخطئه، بل كان يُبدي استعداده لتصويب الخطأ إذا تبين له، ومن خلال قراءتي لدراسة أعدّها الشيخ راشد الغنوشي بعنوان “الوسطية السياسية في فكر القرضاوي”، رأيته يتحدث عن تواضعه ورجوعه إلى الحق، ونقل قوله من مقدمة أحد كتبه: “ولقد عرضته على إخواني في الندوة ليصوّبوني إذا أخطأت، ويردّوني إلى الجادة إذا شردت، فليس في العلم كبير، وفوق كل ذي علم عليم”.

كان الشيخ من أبرز الداعين إلى التقارب بين السنة والشيعة لاعتبارات لديه تتعلق برغبته في توحيد الصفوف لمواجهة العدو الأكبر، وظل مثابرا على تلك الدعوة عقودا، وضعته في خانة المتهمين بتمييع العقيدة والثوابت الإسلامية.

لكن الشيخ قد تبين له في السنوات الأخيرة استحالة ذلك التقريب، وأعرب غير مستكبر عن رجوعه عن تلك الدعوى، وأفصح عن ندمه على إطلاقها وتبنيها، لأن الخلاف مع الشيعة خلاف في الأصول، إلى جانب عدم تنازلهم عن أطماعهم في ابتلاع العالم الإسلامي السُنّي، واعتذر في أحد المؤتمرات عن دفاعه عن حسن نصر الله وحزب الله وعن دعوته للتقارب، وكيف أنه خُدع بوهم التقريب، وقال صراحة “المشايخ في السعودية كانوا أنضج مني وأبصر مني، لأنهم عرفوا هؤلاء على حقيقتهم”.

ومع ذلك فالشيخ حفظه الله شأنه كسائر علماء الأمة، يخطئ ويصيب، فلا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلٌ يُؤخذ من قوله ويُرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.

وبعد هذه الجولة القصيرة في التنقل بين حياة العالميْن الجليليْن، أجد نفسي –كعادتي عندما أتحدث عن الرموز- لم أكتب شيئا أو أوفي حقا، لكنه جهد المُقل والاعتراف بالجميل، والحرّ كما قال الشافعي “من راعى وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة” وكم استفدتّ كما استفادي غيري من ذلك الشيخ الجليل.

حاولت وأنا أكتب عن هذا الجهبذ أن أكتب بلغة أهل العلم والفكر والدعوة، واشرأب عنقي لأن أُحاكي طريقتهم، لكنني لا أخفي قصوري وقلة علمي، نظرا لأنني لست من أهل الصنعة، لكن حسبي أنني سجلت شهادتي تجاه الشيخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى