بقلم د. محمد بن سليمان العبدة
رحم الله أبا حسان ، عندما غادر ( الشارقة ) أو أبعد عنها – والأسباب معروفة – ذكرته لإحدى الجمعيات الإسلامية لتستفيد من علمه وتجربته ، ولم أكن أعلم أن المرض قد نشب في جسمه ، وأنه رجع إلى الطائف التي عاش فيها أكثر حياته العلمية ليغادرنا ويدفن فيها ، ولم يعد إلى بلدته في سورية (رنكوس) هكذا قدر على كثير من علماء سورية ودعاتها الذين غادروها في الستينات من القرن الماضي ، قدر عليهم أن لايعودوا إليها خاصة في أواخر أعمارهم ليعيشوا بين أهليهم وأقاربهم وإخوانهم ، وربما يكون هذا شيء طبيعي في الظروف التي عاشها ويعيشها الشعب السوري الذي كتب عليه أن يبتلى بفرقة باطنية لاتعرف معنى الإنسانية فضلاً أن يكون فيها شيء من العروبة أو الإسلام .
العالم يستطيع أن يبث علمه في أي مكان يجد فيه الفرصة المناسبة ، هكذا كان بعض العلماء السابقين يرحلون من بلد ليس فيه استقرار إلى بلد آخر يجد فيه الأمن كما حدث للإمام الجويني عندما غادر نيسابور واستقر في مكة وبقي فيها أربع سنوات ولذلك لقب ب ( إمام الحرمين ) والذين غادروا سورية من العلماء والدعاة كان ذلك بعد أن تحكم العسكر والباطنيون بمقدرات البلد ، ولن تتاح الفرصة للعالم العامل المستقل أن ينشط للعلم والعمل عند هذا النظام ، وإن خروجهم من بلد يتحكم فيه أراذل الناس ليس تهرباً من القيام بالواجب وحمل المسؤولية ، فقد أفادوا في البلاد التي استقروا فيها وكان لهم الأثر المحمود في ذلك .بالأمس غادرنا الدكتور محمد أديب صالح والشيخ محمد لطفي الصباغ وغيرهم وأمثالهم تفرقوا في البلاد فكان لهم تلامذة نهلوا من علمهم وتأدبوا بآدابهم .
في عصور المحن والابتلاءات يتنقل العلماء حيث يكون لهم الأثر في تثبيت الناس واعتصامهم بدينهم ، ويلجأ الناس إليهم في الملمات كما وقع في الأندلس في بداية تسلط الاسبان على المدن الاسلامية وكما جاء في سيرة ابن رشد ( الجد ) وابن حبيش وأبي الربيع الكلاعي البلنسي صاحب كتاب ( الاكتفا في مغازي المصطفى والثلاثة الخلفا ) وقد شارك رحمه في الدفاع عن المدن الإسلامية واستشهد في معركة ( أنيشة ) عام 634 ه .
رحم الله أبا حسان كم كان متواضعاً ، فهو دائم الاعتذار بالتقصير وبقلة بضاعته ، ولكن تحقيقاته ومؤلفاته تدل على فقه وعلم وبصيرة . كنت أعلم منه ذلك فألححت عليه لتحقيق كتاب ( حجة الله البالغة ) للعلامة الهندي ولي الله الدهلوي ، وذلك لمعرفتي بأهمية الكتاب وأنه من المؤلفات النادرة في العصر الحديث التي تتحدث عن أسرار الشريعة ولمعرفتي بصلة الشيخ أبي حسان بالكتاب وبمدرسة الدهلوي ، وطلبت منه مع التحقيق التعليق خاصة أن الدهلوي رحمه الله له عبارات غامضة أحياناً هي بحاجة إلى توضيح وبيان ، استجاب رحمه الله وحقق الكتاب ولكن دور النشر لم تكن ايجابية معه ثم نشر الكتاب والحمد لله .وللشيخ مؤلفات كثيرة أشهرها رسالة التحضير لنيل الدكتوراه من الأزهر بعنوان ( أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني ) وإن إبراز فقه هذا الإمام هو بحد ذاته منقبة عظيمة ، فكيف إذا كان الموضوع هو العلاقات الدولية التي يعتبر هذا الإمام ابن بجدتها ومؤسسها ، وتقديراً لجهوده في هذا المجال احتفى به نفر من علماء الغرب وأسسوا جمعية تحمل اسمه ( جمعية الشيباني للحقوق الدولية ) وهذا الإمام هو من كبار تلامذة أبي حنيفة رحمه الله وقد التقى به الإمام الشافعي وأخذ عنه واستفاد منه .
ومن مؤلفات أبي حسان رحمه الله :
مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية
الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى
حقوق الإنسان في الإسلام خلال الحروب والمنازعات
تحقيق تفسير البغوي بالاشتراك مع الشيخ سليمان الحرش
أثر العقيدة الإسلامية في اختفاء الجريمة ، وغير ذلك من المؤلفات والتحقيقات والبحوث ، والحقيقة هناك خشية من أن يكون من طبيعتنا أن لانقدر الإنسان إلا بعد وفاته ، وكما يقول المثل الإنكليزي : لاتقاس الشجرة قياساً دقيقاً إلا بعد أن تقطع . رحم الله أبا حسان ورحم الله شهداء سورية وأبطالها .
(المصدر: رابطة علماء المسلمين)