بقلم عبد المجيد مناصرة
وقف الشيخ يوسف القرضاوي بوضوح مع ثورات الشعوب في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، داعما وداعيا، موجِّها ومفتيا، مشجعا ومناصرا، كما خصص ظهوره الأسبوعي على قناة “الجزيرة” في برنامج “الشريعة والحياة” من أجل تأييد هذه الثورات وتوجيهها إلى درجة أن البعض من محبيه أطلق عليه لقب “الفقيه الثائر” و”الإمام الثائر”.
لكن البعض الآخر احتار في تصنيف الشيخ القرضاوي، فهل يضعونه في خانة فَقِيه الثورة وإمامها والناطق باسمها؟ أم يضعونه في خانة الداعية الإصلاحي الذي جمع بين الفقه والدعوة برؤية سياسية واقعية إصلاحية أخذها عن أستاذه الشيخ حسن البنا الذي يعتبره مجدد الأمة في القرن العشرين ومن بعده الشيخ محمد الغزالي الذي وصفه في كتابه “الشيخ محمد الغزالي كما عرفته” بأنه “مصلح على مستوى الأمة كلها”؟
القرضاوي بريء من نيران الفتنة
الحقيقة، أن الشيخ القرضاوي بعيد كل البُعد عن إشعال الفتنة بين المسلمين والدعوة إلى الاقتتال بين أبناء الشعب الواحد والوطن الواحد، بل هو صاحب دعوة تنتصر لحقوق الشعوب في الحرية والعدالة والعيش الكريم وترفض الفساد والاستبداد، ولكن قد تُحمل أحيانا بعض آرائه أو مواقفه أو توجيهاته أو فتاواه محمل التثوير والتحريض ضد الأنظمة عموما.. ولكن المتتبع لمسار الشيخ، يلاحظ بوضوح أنه لم يكن إلا منحازا إلى الشعوب التي ثارت ضد ظلم حكامها وفسادهم وانحرافهم بعدما صبرت عليهم عقوداً طويلة.
لذلك، لم نسمعه يحرِّض على ثورة الشعوب الراضية بحكامها أو تلك الصابرة على حكامها التي تملك هوامشَ نسبية من الحرية والعدل والصلاح تجعلها تعايش الواقع وتحرص على أن يتغير بعيدا عن نهج الثورة والتثوير.. وقد عُرف عنه تصدِّيه لجماعات العنف المسلح شرعيا ودعويا وسياسيا ورفضه لكل نهج فيه تطرف أو غلو أو تشدد وانتصر لكل نهج فيه اعتدال ووسطية وتسامح وحكمة وصبر ومصابرة.
وفي معرض مناقشته فكرة تغيير الأنظمة الحاكمة بالقوة في كتابه “الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد” وفي كتابه “فقه الجهاد”، يطرح رأيه الفقهي بكل وضوح وجرأة فيقول: “من أراد تغيير منكر الأنظمة والحكومات، فعليه أن يملك القوة التي تصنع التغيير وهي في عصرنا إحدى ثلاث: القوات المسلحة، المجلس النيابي، وقوة الجماهير الشعبية العارمة التي تشبه الإجماع، التي إذا تحركت لا يستطيع أحد أن يواجهها أو يصدَّ مسيرتها، لأنها كموج البحر الهادئ أو السيل العرم لا يقف أمامه شيء.
ويقول أيضا في كتابه “فقه الجهاد” عن الخروج عن الحكام: “وهذا يوجب علينا: أن نعمل على إصلاحها) يقصد الأنظمة( ما استطعنا بالنصح والدعوة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: بالرفق والحكمة والجدال بالتي هي أحسن وتقديم البدائل الشرعية للتطبيق المعاصر بدل المحرَّمات القائمة وتوعية الشعوب وتربيتها، وتجميعها لتسُوق الحكام إلى التغيير السلمي بدلا من الفتن والمصادمات المسلحة”.
الفرق بين القرضاوي والخميني
وعندما حاول البعض بسوء نية أن يقارن بين دور الشيخ القرضاوي في الثورة المصرية ودور الإمام الخميني في الثورة الإيرانية بعد خطبة الشيخ المشهورة في ميدان التحرير بعد تنحي الرئيس السابق حسني مبارك، علق وقال: “أما أنا، فكنت مؤيدا للثورة فقط”.
لقد ارتبط الشيخ القرضاوي بالحالة المصرية موطنه، وما تمثله بالنسبة إليه من خصوصية دقيقة، خاصة إزاحة الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي، وإجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة.. وما فعله أنصار الثورة المضادة من السياسيين المدنيين وفلول نظام مبارك، بالثورة والثوار والأزمة الحادة التي أدخلوا فيها مصر.. فظهرت خطبه وكتاباته بتوجه ثائر ضد النظام المصري، ولكن كل هذا يجب ألا يُؤخذ على أنه فتاوى عامة، أو قواعد عمل تصلح لجميع الأمكنة والأزمنة والحالات.. فإذا ثار المصري لا يجب أن يثور الخليجي والمغربي والإندونيسي، أو إذا ثار السوري أن يثور الأردني واللبناني والسوداني.. إنما السياسة اجتهاد وتقدير وليست تعميما وتقريرا، فضلا عن كون الفتوى تُقدَّر زمانا ومكانا وشخصا.
لم يكن ثوريا طيلة حياته
لم يكن الشيخ يوسف ثوريا بالمفهوم الذي يستعمله البعض هذه الأيام، لا في شبابه ولا في كهولته ولا في شيخوخته، والذي يقرأ فكره ومذكراته أو يتابع سيرته ومسيرته، فإنه لا يخفى عليه هذا الخيط الرفيع والفهم الدقيق والوعي العميق، الذي يفرِّق بين احتلال غاشم تجب مقاومته، ونظام مستبد تجب معارضته، وشعب ثائر تجب مساندته، فلم يكن الشيخ إلا كغيره من قادة الإخوان وشبابهم مظلوما من النظام الناصري ومسجونا في سجونه منفيا اختياريا أو اضطراريا في عهد الرؤساء الذين ورثوا عبد الناصر في الحكم بغير إرادة الشعب ورضاه.. ولم يدفعه كل هذا إلى إرسال دعوة تثويرية إلى الشعب المصري، بل كان يدعو باستمرار إلى العمل الدعوي العميق والعمل السياسي المنظم والصبر على طول الطريق وتأخر النتائج.
ولكن عند توفر حالة ثورية في بلد معين، لا يسع الفقيه ولا الداعية ولا السياسي ولا الجماعة ولا الحزب، إلا أن يكونوا منحازين إلى الشعب، واقفين معه لأجل حقوقه المشروعة، ولكن لا يمكن أن يكونوا وراء تفجير الثورة أو التنظيم والإعداد لها، لأن الثورة لا تأتي بخير ولا تحمد مآلاتها، إلا إذا كانت ثورة شعب بأكمله، فالشعب هو السيد.. وهو من يُبطِل العمل بالدستور والقانون وهو من يُسقِط نظاما ليقيم نظاماً آخر.
والمقصود بالحالة الثورية، أن تجتمع كل الشروط وتنضج لتدفع الشعب، وليس جهة أو فئة أو مجموعة أو تنظيم، إلى الخروج عن القانون والدستور لإسقاط النظام والعمل على إنجاز البديل المحقق للأهداف الثورية.. والبعض يغفل هذا، ويظن أنه يمكن أن تتحرك مجموعة بديلا عن الشعب، وتسمي عملها بالثورة الشعبية، وتنال بذلك شرعية لأعمالها التي غالبا ما تؤدي إلى سفك الدماء والتضييق على الناس في حياتهم أكثر مما كانت عليه.
نعم إن منهج الشيخ القرضاوي في التغيير لم يكن ثوريا حتى وإن كان الشيخ ثائرا على الظلم والاستبداد بالرفض والإنكار والصدع بالحق.. بل كان منهجه إصلاحيا دعا إليه ودافع عنه وثبت عليه.
القرضاوي المفترى عليه
لقد ظُلم الشيخ القرضاوي قديما وحديثا من طرف خصومه وأصدقائه؛ فالخصوم من أنظمة استبدادية وتيارات علمانية وجهات غربية وإسلاميين سلفيين وشيعة، فهو عندهم إما “محرِّض على الفتنة” أو “معاد للسامية” أو “طائفي متزمت” أو “إخواني متعصب” أو “مهادن لأنظمة الخليج ساكت عن استبدادها وفسادها وراضٍ باستضافتها القواعد العسكرية الأمريكية على أراضيها”… هذا من الخصوم والأعداء، أما الأصدقاء، فظلمهم له تمثل في الزج به في الصراعات المذهبية والطائفية والمحلية والحزبية وتنصيبه إمام الثورات وفَقِيه الصراعات ومنظِّر الصدامات… إنما هو فَقِيهٌ واع وعالم موسوعيٌ وداعية إصلاحي وناشط واقعي ركَّز جهوده من أجل توجيه الصحوة الإسلامية كي تبتعد عن الغلو والتطرف إلى الوسطية والاعتدال.. وتُخرِج من المراهقة إلى الرشد، وتلتفت إلى هموم الوطن العربي والإسلامي.. ومن الظلم له أيضا أن يُستغرق في المحلية أو في المذهبية أو في الطائفية، فقلَّ أن تجود السماء وتلد النساء وتحظى الأمة بعالمٍ يملك خصالا تتوِّجه وتؤهِّله لريادة الأمة وليس فقط لريادة القُطر وإن كان مصري الموطن والهوى أو لريادة المذهب، وإن كان شافعي الفقه والفتوى، أو لريادة الجماعة وإن كان إخواني المنهج والمنشإ، أو لريادة الطائفة وإن كان من أهل السنة والجماعة.
أعلم أن هذا الكلام قد لا يعجب بعضاً من أصدقاء الشيخ ومحبيه خاصة من الثوريين الجدد، ولكن هذه قراءتي في مساره وأفكاره، لقد كنت أعتبر نفسي ممن قرؤوا له كثيرا واستفادوا من فقهه وعلمه وتوجيهاته وأفكاره. وانطبعت في ذهني صورة عنه منذ أن بدأت أقرأ له كتبه الكثيرة وفي مختلف المجالات الشرعية والدعوية والفقهية والعقديّة.
وترسخ أيضا هذا الانطباع عندي وتعمق في ذهني لعالم فَقِيه بالدين واع بالعصر ومُدرك لمشاكل الأمة وأوضاعها المعقدة، وهو في نفس الوقت مسيَّس بسياسة الإسلام، عندما التقيته في الجزائر في يوم من أيّام شهر أوت من سنة 1990 بعد أيّام قليلة من غزو صدام للكويت، كنت محملا بأفكار رافضة للغزو ومتخوفة من مآلاته على الأمة وشعوبها ودولها، ومصدوماً بمواقف كثير من الدعاة وقادة الحركات الإسلامية المسانِدة للغزو بشعارات شعبوية وعواطف ساذجة، ولكني لم أكن أملك كامل الأهلية والجرأة لكي أرد على هذه التوجهات، التي وجدت لها سندا من ثقافة عموم العامة ومن بعض الأنظمة العربية ذات المصلحة.. ولكن عندما بدأت طرح الأسئلة عليه وتوصيف الصورة المتناقضة التي أحملها بين قناعة شخصية ورأي عام غالب عند الإسلاميين )خارج دائرة الخليج( مناقض لهذه القناعة، وجدت ما كنت أبحث عنه من رؤية استراتيجية إسلامية لفقيه كبير مهموم بالإسلام ومتألم لحال المسلمين، ولكنه متحرر من الغوغائية والشعبوية والانتهازية والسطحية، جعلت تلك الصورة عن الشيخ تترسخ في ذهني وتتعمق أكثر.. ولم تزعزعها بعد ذلك بعض المواقف التي كانت تصدر عنه من حين إلى آخر في أحداث معيَّنة وفي مراحل حرجة، لم أكن أرى فيها انسجاما مع الصورة التي صُنعت وانطبعت في ذهني عنه، ذلك الفقيه المقاصدي والحركي الواعي والداعية الإصلاحي والعالم الصادع بالحق في وجه الطاغية الظالم.
(المصدر: بوابة الشروق)