مقالاتمقالات مختارة

الشورى .. قيمة شرعية وضرورة حضارية

الشورى .. قيمة شرعية وضرورة حضارية

بقلم عزة مختار

الشورى قيمة إنسانية قديمة، وجدت بوجود الإنسان؛ للعيش في الأرض، اتخذها سبيلاً للحكم قادة وحكام وملوك ورؤساء قبائل وآباء، وأمر بها الحكماء على مرّ الدهور، حتى صارت من القيم الإنسانية المستحبة، ومن الدساتير المعروفة ضمناً، والتي لا يختلف عليها إلا مستبد أو ظالم، واستمرّ الأخذ بها فضلاً يحفظ الأمم، حتى أتى الإسلام ليجعلها شعيرة من شعائر الدين، من يعمل بها يكون من المؤمنين الطائعين، ومن يعطلها أو يعرض عنها فهو آثم حتى يتوب أو يعاقب عليها.

 

مستويات الشورى في القرآن والسنة:

تناول القرآن مسألة #الشورى على مستويات عدة؛ ليبين تطبيقاتها كجزء من التشريع الإسلامي، بدءاً من مسألة مشاورة الفتاة في تزويجها، فلا يصح الزواج إلا بقبولها؛ ففي صحيح البخاري (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت).

ويمتد أمر الشورى على المستوى الأسري؛ ليشمل علاقة الزوجين أحدهما بالآخر، ثم مسؤوليتهما معاً عن مصير أبنائهما الذي جعل الولاية مسؤوليتهما معاً، وليست استئثاراً لطرف على حساب طرف آخر، فيقول الله تعالى في سورة البقرة: {فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} [البقرة، آية:233]، فمصير الأبناء وتوجيه مسار حياتهم: {عن تراض منهما وتشاور}.
وتنتقل الشورى في القرآن لمستوى آخر، حيث الشأن العام ومصالح الناس ومصائرهم ومستقبل أبنائهم وبلادهم، وإذا كان القرآن يهتم بتلك القيمة على المستوى الفردي والأسري الضيق، فالأحرى أن يكون العمل بها على المستوى العام أشد وجوباً، فيضعها المشرّع الإسلامي في عنوان عميق؛ ليسع كل مسألة تخص المسلمين، كبرت أو صغرت، فيقول تعالى -في سورة سميت باسم “الشورى”؛ إعلاءً وترسيخاً لمفهومها-: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى، آية:38].

إذا كان القرآن يهتم بالشورى على المستوى الفردي والأسري الضيق، فالأحرى أن يكون العمل بها على المستوى العام أشد وجوباً

والله عز وجل يعدد في هذه السورة صفات المؤمنين، فيبدأ بالإيمان كقيمة أساسية لا يُقبل عمل صالح بدونها، ثم يليه بالتوكل على الله، ثم اجتناب الفواحش والمحرمات، ثم هم مستجيبون لربهم بإقامة الصلاة وإقامتهم مبدأ “الشورى”؛ ليأتي في مرتبة أدنى منه تزكية أموالهم بالإنفاق في سبيل الله.

فالشورى سمة أساسية وعامة للمجتمع المسلم، ومن الأهمية بمكان لتحتل مرتبة بعد إقامة الصلاة لتصير بذلك الترتيب فريضة إسلامية، وليست مجرد قيمة إنسانية كما كانت في الأمم السابقة.

الشورى سمة أساسية وعامة للمجتمع المسلم، ومن الأهمية بمكان لتحتل مرتبة بعد إقامة الصلاة لتصير بذلك الترتيب فريضة إسلامية، وليست مجرد قيمة إنسانية كما كانت في الأمم السابقة

وعلى نفس المستوى العام تأتينا آية أخرى تبين أن مبدأ الشورى لا يخص الشأن السياسي فقط، وإنما على المستوى الدعوي والتربوي، فيقول الله تعالى في سورة آل عمران: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران، آية:159]، والخطاب هنا ليس لمحمد صلى الله عليه وسلم الحاكم الذي وهبه الله حكم المسلمين، وإنما لمحمد النبي الداعية صاحب الرسالة العليا، الذي تحركه الرحمة بالناس واللين لهم، والمأمور من الله بالاستغفار لمن تبعه منهم، أمر بمشاورتهم في الأمر، وهو النبي المبلغ من السماء! النبي الذي يتنزل عليه الوحي يخبره ببواطن الأمر مأمور عليه الصلاة والسلام بمشاورة بشر عاديين، بمجرد اتباعهم له وإيمانهم بصدق دعوته، فقد صار لهم حق الشورى، ولو كانوا مجرد تابعين، ولو كان هو نبياً، فالقائد أو المربي عليه واجب الشورى، وعلى الآخر واجب الاستجابة لها .

وفي إشارة قرآنية لمسألة مشورة الحاكم يضرب الله مثلاً بامرأة عادلة وهي ملكة “سبأ”، ملكة عظيمة في بلاد غنية تستدعي الملأ؛ لتستشيرهم في أمر سليمان، ثم وهي تعرض عليهم المشكلة تبين جوانبها بحكم موقعها: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل، آية:35]، فكان جزاء حكمتها أن تكون مع سليمان شريكة في الإيمان، وشريكة في ملك بلادها وحكمها.

 

ممارسة الشورى في عصر النبوة:

كانت الشورى ممارسة عملياً في كل ما يخص أمور النبي صلى الله عليه وسلم، طالما أنه لم يكن هناك أمر رباني واضح بالفرض أو التحريم، وكانت كلمة: “أشيروا عليَّ أيها الناس” هي افتتاحية غزوة بدر التي لم يبدأها النبي فعلياً إلا بمشورة المهاجرين والأنصار.

وفي المعارك والشدائد غالباً ما يستأثر القائد برأيه؛ ظناً منه أن كثرة الآراء تجلب الاختلاف، ومن ثم الهزيمة، فيتخذ رأيه ويمضي فيه، وقد يتجاوز البعض التوقف عند رأيه فقط، فيتهم كل من يخالف بالخيانة والعمالة وما إلى ذلك من مصطلحات ترهب صاحب الرأي من الجرأة على إعلان رأيه؛ خوفاً من البطش به أو تخوينه!

غالباً ما يستأثر القائد برأيه في المعارك والشدائد؛ ظناً منه أن كثرة الآراء تجلب الاختلاف، ومن ثم الهزيمة، فيتخذ رأيه ويمضي فيه، وقد يتجاوز البعض التوقف عند رأيه فقط، فيتهم كل من يخالف بالخيانة والعمالة وما إلى ذلك من مصطلحات ترهب صاحب الرأي من الجرأة على إعلان رأيه؛ خوفاً من البطش به أو تخوينه

وفي بدر يأتي الجندي الحباب بن المنذر حين يرى رأياً قد يكون غائباً عن القيادة؛ لكثرة انشغالاتها، فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم أو نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فيرد الصادق قائلاً: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فيشير الحباب بتغيير مكان المعركة ليكون الماء خلف المسلمين فيصير لهم التحكم به، ويسمع النبي للمشورة، ويتحرك بالجيش إلى حيث أشار الجندي.

الجندي يسأل؛ ليطمئنّ بأنه ليس أمراً مفروضاً من السماء، والقائد يصدق جنوده ويسمع لهم ويأخذ بمشورتهم دون كبر أو تسفيه، فضلاً عن العقاب والاستبعاد والحرمان من الانتماء بدعوى أن الوقت لا يسمح بتلك الرفاهية.

وفي الأسرى يستشير أصحابه ليأخذ برأي أبي بكر، ليؤيد القرآن فيما بعد رأي عمر بقتلهم.

والشورى تنمّي في الجنود ملكة الإبداع والإقدام ، فتلك غزوة الخندق حيث تجتمع الجزيرة العربية على حصار الإسلام في المدينة، ويتقدم سلمان الفارسي ليشير على النبي بحفر الخندق، فيسارع المسلمون بمشورته للحفر، ويشارك النبي عليه الصلاة والسلام بنفسه في أشق العمل، وفي تبوك يأخذ بمشورة عمر بن الخطاب بعدم نحر الإبل؛ لاستخدام ما تخزنه من مياه في الصحراء المقفرة.

 

وللنساء نصيب في الشورى:

ولم تحظ امرأة في أي عصر من العصور بقدر من الاحترام والتقدير والمشاركة الفعلية في كل دقائق الأمور، بدءاً من البيت وانتهاء بالدولة وكل ما يحيط بها في السلم والحرب-مثلما حظيت به في الإسلام؛ فكانت خديجة رضي الله عنها في موقع المستشارة الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة الأولى لنزول الوحي، بل كان لها حق التصرف المطلق حين ذهبت لابن عمها تستشيره في أمر زوجها العائد تواً من لقاء جبريل عليه السلام.

وفي الحديبية يكاد يحدث الشقاق بين المسلمين؛ بسبب بنود صلح الحديبية وقرار رجوعهم للمدينة دون أداء العمرة، لتشير أم سلمة على النبي أن يخرج أمامهم ولا يحدثهم ويتحلل من إحرامه، فيبادر الصحابة لتنفيذ فعل النبي بالتحلل من إحرامهم بمشورة أم المؤمنين رضي الله عنها.

 

الشورى كضرورة حضارية:

إن ما يحيط بالأمة اليوم من هوان وذل وفقر وضعف، إن هو إلا ثمرة من ثمرات الاستبداد الذي هو عكس الشورى وعدوها، وبما أن الدور المنوط بالأمة لما تحمله من منهاج سماوي لم تدنسه تدخلات البشر، بما أن ذلك الدور يستلزم قوتها على كافة المستويات، المادية والروحية، فإنه يصبح لزاماً على أبنائها انتزاع ذلك الحق انتزاعاً؛ ليستقيم أمر المسلمين.

إن ما يحيط بالأمة اليوم من هوان وذل وفقر وضعف، إن هو إلا ثمرة من ثمرات الاستبداد الذي هو عكس الشورى وعدوها

وعلى الشعوب الإسلامية أن تنتفض وتدرك حجم الكارثة التي تمر بها تحت مظلة هؤلاء المستبدين؛ لتفرض على العالم مفهوماً جديداً للحضارة، مفهوماً يتسم بعزة المسلم وكرامته واعتزازه بدينه الذي يحمله، ومطلوب منه أن يتحرك به بين الأمم منقذاً وهادياً، لقد أصبح لزاماً على الأمة اليوم أن تستعيد هويتها وقيمها؛ كي تستطيع أن تتفادى عملية الاستبدال والاندثار في التاريخ، كما استبدلت أمم وماتت حضارات من قبل، إن الشورى ليست رفاهية يتخذها من يشاء ويعرض عنها إذا شاء، إنما هي ضرورة حضارية للفرد والمجتمع والدولة والأمة قاطبة؛ كي تستطيع الاستمرار والريادة وإعادة أمجاد الماضي ، ليس للتفاخر على الناس، وإنما إنقاذاً لهم من مصير الدمار المحقق، إن لم ينهض من هذه الأمة رجال يقيمون الدين ولا يفرطوا فيه.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى