مقالاتمقالات مختارة

السُّلطان سليم الأوَّل.. هل يعيد التاريخ نفسه؟ الحلقة الأولى

السُّلطان سليم الأوَّل.. هل يعيد التاريخ نفسه؟ الحلقة الأولى

بقلم د. علي الصلابي

تربَّع السُّلطان سليم الأول على العرش العثمانيِّ في عام 918هـ، وقد أظهر سليم منذ بداية حكمه ميلاً إِلى تصفية خصومه، ولو كانوا إِخوته، وأبناءهم، وكان يحبُّ الأدب، والشِّعر الفارسي، والتَّاريخ، ورغم قسوته فإِنَّه كان يميل إِلى صحبة رجال العلم، وكان يصطحب المؤرِّخين، والشُّعراء إِلى ميدان القتال؛ ليسجلوا تطوُّرات المعارك، وينشدوا القصائد الَّتي تحكي أمجاد الماضي.

عندما ارتقى السُّلطان سليم الأوَّل العرش العثماني كانت الدَّولة العثمانيَّة قد وصلت إِلى مفترق الطُّرق، هل تظلُّ على هذا الوضع، وهذا القدر من الاتساع دولةً بلقانيَّة أناضوليَّةً؟ أم تستمرُّ في التوسُّع الإقليميِّ في أوروبا؟ أو تتَّجه نحو المشرق الإِسلامي؟

والواقع: أنَّ السُّلطان سليم الأول قد أحدث تغييراً جذرياً في سياسة الدَّولة العثمانيَّة الجهاديَّة، فقد توقَّف في عهده الزَّحف العثمانيُّ نحو الغرب الأوربيِّ، أو كاد أن يتوقَّف، واتَّجهت الدَّولة العثمانيَّة اتجاهاً شرقيَّاً نحو المشرق الإِسلامي، وقد ذكر بعض المؤرِّخين الأسباب الَّتي أدَّت إِلى تغيُّر السِّياسة العثمانيَّة، منها:

1 ـ التَّشبُّع العسكري العثماني في أوربة؛ إِذ يرى أصحاب هذا الرأي: أنَّ الدولة العثمانيَّة كانت قد بلغت مرحلة التَّشبُّع في فتوحاتها الغربيَّة بنهاية القرن الخامس عشر، وأنَّه كان عليها في أوائل القرن السَّادس عشر أن تبحث عن ميادين جديدة للنَّشاط، والتوسُّع، وهذا الرأي يخالفه الصَّواب؛ لأنَّ الفتوحات العثمانيَّة لم تنقطع تماماً من الجبهة الغربية، ولكن لا ريب في أنَّ مركز الثِّقل في التوسُّع العثماني قد انتقل نهائياً من الغرب إِلى الشَّرق ليس بسبب التَّشبُّع، كما تقول بعض المصادر غير المدركة للواقع.

2 ـ كان تحرُّك الدَّولة العثمانيَّة نحو المشرق من أجل إِنقاذ العالم الإِسلامي بصورةٍ عامَّةٍ والمقدَّسات الإِسلاميَّة بصورةٍ خاصَّةٍ من التَّحرُّك الصَّليبي الجديد من جانب الإسبان في البحر المتوسِّط، والبرتغاليِّين في المحيط الهندي، وبحر العرب، والبحر الأحمر؛ الَّذين أخذوا يطوِّقون العالم الإِسلامي، ويفرضون حصاراً اقتصادياً حتَّى يسهل عليهم ابتلاعه.

3 ـ سياسة الدَّولة الصَّفويَّة في إِيران، والمتعلِّقة بمحاولة بسط المذهب الشِّيعي في العراق، وآسيا الصُّغرى هي الَّتي دفعت الدَّولة العثمانيَّة إِلى الخروج إِلى المشرق العربي؛ لحماية آسيا الصُّغرى بصفةٍ خاصَّةٍ، والعالم السُّنِّي بصفةٍ عامَّةٍ.

إِنَّ سياسة الدَّولة العثمانيَّة في زمن السُّلطان سليم سارت على هذه الأسس، ألا وهي القضاء على الدَّولة الصَّفويَّة الشِّيعيَّة، وضمُّ الدَّولة المملوكيَّة، وحماية الأراضي المقدَّسة وملاحقة الأساطيل البرتغاليَّة، ودعم حركة الجهاد البحري في الشَّمال الأفريقي للقضاء على الإسبان، ومواصلة الدَّولة جهادها في شرق أوربة.

أولاً: محاربة الدَّولة الصَّفويَّة الشِّيعيَّة:

يعدُّ نسب الصَّفويِّين إِلى الشيخ صفي الدِّين الأردبيلي 650 – 735هـ/ 1252 – 1334م الجدُّ الأكبر لشَّاه إِسماعيل الصَّفوي مؤسِّس الدَّولة الصَّفوية.

وقد التفَّ حول الشَّيخ صفي الدِّين الأردبيلي عددٌ كبير من الأتباع المريدين نتيجةً للدَّعوة القويَّة، أو الدِّعاية المؤثِّرة الَّتي قام بها هو وأتباعه من المتصوِّفة، والدَّراويش؛ الَّذين استطاعوا نشر دعوتهم لا في إِيران وحدها، وإِنَّما في بعض أقاليم الدَّولة العثمانيَّة، وفي العراق، وبلاد الشام.

استطاع الشَّيخ صفي الدِّين عن طريق إِحدى الفرق الَّتي تزعَّمها أن يشقَّ طريقه في المجتمع الإِيراني، كما استطاع أن يكسب تأييد ومساندة الكثيرين من الإيرانيِّين ممَّا أدَّى إِلى تحوُّل هذه الفرقة إِلى الدَّعوة للمذهب الشِّيعيِّ، حيث أُشيع أنَّ الشَّيخ صفي الدِّين وأولاده ينتمون إِلى عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، ومن ثمَّ لهم الحقُّ في المطالبة بالحكم.

وكان صفيُّ الدِّين قد لجأ إِلى التَّقيَّة؛ إِذ كان مظهره يوحي بأنَّه سنِّيُّ الاتِّجاه، بل إِنَّه من أتباع المذهب الشَّافعيِّ، ولما تمهَّدت السُّبل أمام هذه الدَّعوة الشِّيعيَّة أعلن أحد أحفاده الشَّاه إِسماعيل الدَّعوة الشِّيعيَّة، بل إِنَّ السلطان حيدر أكَّد صلة نسبه بالإِمام موسى الكاظم، ومن ثَمَّ أصبحت الدَّولة الصَّفويَّة في إِيران تعدُّ نفسها من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

صمَّم إِسماعيل الصَّفوي على فرض المذهب الشِّيعيِّ على شعبه، وأعلنه مذهباً رسميَّاً للدَّولة في إِيران، وقضى بالقوَّة المسلَّحة على معارضيه، واستطاع الصَّفويُّون أن يجمعوا حولهم أعداداً غفيرةً من الأتباع، والمريدين، وتكاتفت الدِّعاية الشِّيعيَّة القويَّة سواءٌ في بقايا (العبيديين) الفاطميِّين في مصر، أو الإِسماعيليَّة، أو الأسرة الصَّفويَّة نفسها في إِعلان المذهب الشِّيعيِّ في إِيران لتتحوَّل كلُّها من بعد ذلك من المذهب السُّنِّي إِلى مذهب الدَّولة الجديدة، وهو المذهب الشِّيعيُّ.

وكانت ردود الفعل عنيفةً خاصَّةً أنَّ كثيرين من سكان المدن الرَّئيسيَّة في إِيران مثل تبريز كانوا من السُّنَّة، بل إِنَّ علماء الشِّيعة أنفسهم كانوا يخشون على المذهب من رفض السُّنَّة له، وإعلان عصيانهم على الحاكم الصَّفوي شيعيِّ المذهب.

بذل الشَّاه إِسماعيل الصَّفويُّ جهوداً ضخمةً في فرض المذهب الشِّيعيِّ في إِيران، فعلى الرَّغم من التَّهيئة الرُّوحيَّة للدَّعوة الشِّيعيَّة بين سكَّان إِيران الَّذين كانوا في غالبيتهم من السُّنَّة؛ فقد رأى إِسماعيل الصَّفوي أن يواجه هذا الموقف بتجنيد العناصر الشِّيعيَّة للغرض هذا، ووجد منها تأييداً، ومناصرةً، واستغلَّ حميَّتهم لمناصرتهم، فدفعهم لضرب معارضيه، والتَّأكيد لمذهبه في إيران.

لجأ الشَّاه إِسماعيل الصَّفويُّ إِلى سياسةٍ ماهرةٍ في تأكيد دعوته السِّياسيَّة، والمذهبيَّة، فاعتمد على قبائل الترلباش التُّركيَّة الأصل لتكون نواةً لقوَّته العسكريَّة، ذلك: أنَّ المجتمع الإِيراني في ذلك الوقت كان يتكوَّن من عناصر مختلفةٍ نتيجةً لموجات الغزو المتعاقبة على البلاد، ممَّا كان يصعب معه صهر كلِّ هذه العناصر في بوتقةٍ واحدةٍ. لقد استطاع إِسماعيل الصَّفوي بهذه السِّياسة أن يجنِّد الطَّاقة المذهبيَّة عند هذه العناصر؛ لتكون المحور الذي تلتفُّ حوله، وتذوب فيها الفوارق العرقيَّة، وتحلُّ محلَّها وحدةٌ مذهبيَّةٌ، يمكن له أن يقيم عليها الكيان السِّياسيَّ الجديد.

لقد كان إِسماعيل الصَّفوي شرساً في حروبه شديد الفتك بمعارضيه، وخصوصاً إِن كانوا من أهل السُّنَّة (..افتتح ممالك العجم جميعاً، وكان يقتل من ظفر به، وما نهبه من الأموال قسَّمه بين أصحابه، ولا يأخذ منه شيئاً، ومن جملة ما ملك: تبريز، وأذربيجان، وبغداد، وعراق العجم، وعراق العرب خراسان، وكاد أن يدَّعي الرُّبوبيَّة، وكان يسجد له عسكره، ويأتمرون بأمره.

قال قطب الدِّين الحنفيُّ في الأعلام: إِنَّه قتل زيادة على ألف ألف نفسٍ، بحيث لا يُعهد في الجاهليَّة، ولا في الإِسلام، ولا في الأمم السَّابقة من قبل في قتل النفوس ما قتله شاه إِسماعيل، وقتل عدَّةً من أعاظم العلماء، بحيث لم يبق من أهل العلم أحدٌ من بلاد العجم، وأحرق جميع كتبهم، ومصاحفهم، وكان شديد الرَّفض بخلاف آبائه، ومن جملة تعظيم أصحابه له: أنَّه سقط مرًّة منديلٌ من يده إِلى البحر، وكان على جبل شاهق مشرف على ذلك البحر فرمى بنفسه خلف المنديل فوق ألف نفسٍ تحطَّموا، وتكسَّروا، وغرقوا، وكانوا يعتقدون فيه الألوهيَّة. ذكر ذلك القطب المذكور، ولم تنهزم له رايةٌ حتَّى حاربه السُّلطان سليم المتقدِّم ذكره، فهزمه).

لقد تزعَّم الشَّاه إِسماعيل المذهب الشِّيعي، وحرص على نشره، ووصلت دعوته إِلى الأقاليم التَّابعة للدَّولة العثمانيَّة، وكانت الأفكار والعقائد الَّتي تنشر في تلك الأقاليم يرفضها المجتمع العثمانيُّ السُّنِّيُّ، حيث كان من عقائدهم الفاسدة: تكفير الصَّحابة، لعن العصر الأوَّل، تحريف القرآن الكريم، وغير ذلك من الأفكار والعقائد. فكان من الطَّبيعي أن يتصدَّى لتلك الدَّعوة السُّلطان سليم زعيم الدَّولة السُّنِّيَّة، وسنرى في الحلقات القادمة كيف دارت الحرب بين الجانبين ومن المنتصر في هذه الحرب الفاصلة التي غيرت المشهد في الشرق الإسلامي لقرون عديدة.


المراجع:

1 – د. علي محمد الصلابي. الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م ص. ص  (141- 144).

2- د. إِسماعيل ياغي، الدَّولة العثمانيَّة في التاريخ الإِسلامي الحديث، مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1416هـ/1996م، ص (26).

3- أحمد عبد الرَّحيم مصطفى، في أصول التَّاريخ العثماني، دار الشُّروق، الطَّبعة الثَّانية، 1986م ـ 1406هـ، ص (76).

4- د. محمَّد نصر مهنَّا، الإِسلام في آسيا منذ الغزو المغولي، الطَّبعة الأولى، 1990/1991، المكتب الجامعي الحديث، طبعة أولى، 1990م. ص . ص (240-243).

(المصدر: ترك برس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى