السيرة النبوية وإدارة الحياة
بقلم علاء سعد حميدة
السيرة النبوية نقطة التقاء المقدس بالبشري، أو نقطة التقاء الوحي الرباني بالاجتهاد البشري في الفهم والتطبيق، وهي تلك النقطة التي تشرح معنى قوله تعالى: {قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110].
والسيرة اصطلاحاً هي ترجمة حياة أحد الأعلام المشهورين، وإبراز أهم منجزات حياته. والسيرة أدبياً فن يجمع بين التحري لمسيرة حياة إنسان ورسم صورة دقيقة لشخصيته[1].
السيرة النبوية هي ترجمة حياة الإنسان الذي تلقى الوحي الرباني من السماء وفهمه حق الفهم وعمل بمقتضاه حياة كاملة، فكانت حياته هي القرآن أو ترجماناً للقرآن، هذا الفهم والتطبيق البشري مُصوَباً بالوحي ومُسدَداً بالتوجيه القرآني أمراً ونهياً وتعقيباً وعتاباً، فما سكت القرآن الكريم عن اجتهاد بشري لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالف الأولى إلا نزلت الآيات البينات: {عَبَسَ وَتَولَّى} [عبس: 1]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، {لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَـمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]. فالسيرة النبوية تتجاوز المنجز المادي والمعنوي والتفصيل الدقيق لحياة وشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الفهم الكلي المستقيم والتطبيق البشري في ضوء هذا الفهم لمنهج الدين في الحياة، فهماً وتطبيقاً موجَهاً ومؤيَداً ومصوَباً بالوحي الذي لم ينقطع حتى اكتمال الرسالة، فالسيرة النبوية تتعدى تدوين الوقائع الثابتة كالمغازي والعهود والمواثيق والرسل والبعوث والسرايا والمراسلات والتوجيهات التربوية ومعالجة القضايا والمشكلات المحلية والإقليمية الناشئة في حياة المسلمين الأوائل، إلى عموم فهم الدين وطريقة إقامته في كل موقف من مواقف الحياة.
إذن السيرة هي التفسير العملي للقرآن الكريم، وبالتالي هي انعكاس لمنهج الإسلام ومفهومه الكلي، وتتميز دراسة السيرة النبوية عن دراسة النصوص المقدسة قرآناً وأحاديث، أنها تدرس ثلاثة مستويات تفاعلية من عملية التربية، فهي تدرس التغذية المتنزلة بالوحي، أي المنهج، وهو مجمل التوجيهات (الأوامر، التوصيات، النواهي) التي أمر بها القرآن، وتدرس فهم رسول الله وصحابته للنص القرآني وتطبيقهم السلوكي العملي لهذا الفهم، ثم تدرس التغذية الراجعة وهي مردود النصوص على تنمية شخصية المتلقي وتقويم مقدار التغير في سلوكها إلى المطلب الإيماني الأسمى، وتعزيز الأداء الإيجابي، وكشف الأداء السلبي ومناقشة الأخطاء. وفي بعض المواقف تدرس كذلك الحالة التي كان عليها الإنسان قبل نزول النص، فتضيف لأبعاد الدراسة التربوية بعداً رابعاً.
ولا شك أن اعتماد دراسة السيرة النبوية لاستلهام مجموعة من القواعد العامة لإدارة حياتنا المعاصرة، يثير ثلاثة أنواع من الشبهات تطلقها مدارس متعارضة، تكمن الشبهة الأولى في تعامل مدرسة – تغالي في دراسة السيرة – تعاملاً حرفياً مع وقائع السيرة، فإما تستخرج منها أحكاماً تعتبرها نهائية غير قابلة للتطور باختلاف العصور والمجتمعات، أو تسقطها إسقاطاً تعسفياً مباشراً على فئة من فئات المجتمع، أو فصيل من فصائله باعتباره وريثاً شرعياً حصرياً لسيرة رسول الله، وتخرج باقي فئات وفصائل ومكونات المجتمع المسلم من هذا الحق وبالتالي تتعامل معه باعتباره آخر خارج الصف، وتطبق حياله وقائع حدثت في السيرة بين المسلمين وبين آخرين غيرهم، على تنوع هؤلاء الآخرين (معادي، مسالم، مشرك، أهل كتاب، ذمي… إلخ)، أو تدرس السيرة في خط تبريري لكل ما تقوم به تلك الفئة من أنشطة وتضع من برامج. والواقع الذي يجب أن تفرزه الدراسة العميقة للسيرة النبوية، أنها جامعة وعامة وتقبل التباين في الفهم والاستنتاج، حيث أقرت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هذا التنوع داخل المجتمع المسلم الأول، كما ما حدث في حادثة صلاة العصر في بني قريظة، فانقسام الصحابة رضوان الله عليهم حيال الأمر النبوي الكريم إلى فريقين، تعامل كل فريق مع النص النبوي بفهم وتطبيق مختلف، علق عليه ابن القيم بقوله: هؤلاء سلف أهل الظاهر، وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس[2]، وإقرار النبي لكلا الفريقين، جعل السيرة النبوية ذاتها تنتج تنوعاً واختلافاً – اختلاف تنوع لا تضاد – داخل المجتمع المسلم نفسه. إن نظرة الخليفة عمر للمال غير نظرة عثمان، وعنهما تختلف نظرة أبي ذر الغفاري – رضي الله عن الجميع – وكل نظرة من تلك النظرات تصلح أن تؤسس لنظرية اقتصادية مستقلة ومختلفة، وكل النظريات يقبلها منهج الإسلام وأنتجتها تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث يمكن وصفها بأنها كلها أُنتجت داخل منهج سيرة النبي والذين معه!
وفي السياسة اختلف رجال مجتمع السيرة النبوية كما اختلفوا في الاقتصاد، حتى نظام البيعة للخلافة التي يعتبرها المسلمون ركيزة نظريتهم في السياسة والحكم، عبّر عمر عن هذا الاختلاف بقوله: إن أستخلِف فقد استخلَف من هو خير مني: أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني: رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وضع نظام الشورى بين الستة ليصبح ثالث نظام لاختيار الخليفة ينتجه العقل المسلم خلال أقل من خمسة عشر عاماً. ولذلك فإن الخطوط العريضة التي نريد أن نستلهمها من السيرة لإدارة حياتنا المعاصرة يجب أن تكون واسعة وجامعة وعامة تسمح بتعدد الرؤى والاجتهادات والبرامج داخل إطار منهج الإسلام، مع ترك التفاصيل التنظيمية تتنوع بتنوع البيئات وتتطور مع الزمن.
مثال: نحن نعرف من كتاب «دولة النبي» إقرار مبدأ التمثيل النيابي في قوله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إليّ عرفاءكم[3]. أما تفاصيل طرق اختيار النواب فهي متروكة لاجتهاد أهل كل زمان ومكان.
شبهة ثانية تطلقها مدرسة تتشكك في ثبوت بعض الروايات التي ذكرت في كتب المغازي، وعدم خضوع تلك الروايات لمنهج أهل الحديث من حيث المتون والأسانيد، والحقيقة أن الراوي الأول والأعظم لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والذين معه، هو القرآن الكريم، فإن المفاصل الكبرى للسيرة النبوية (يُتم النبي، أخلاقه، بداية الدعوة، حال النبي عند نزول الوحي، إنذار الأقربين، الصدع بالدعوة، تكذيب قريش والاستهزاء والتنكيل، الإسراء والمعراج، الهجرة، الغزوات الكبرى بتفصيلها والتعقيب عليها، صلح الحديبية، حديث الإفك، تخرصات المنافقين، زواجه من زينب بنت جحش، اعتزاله نساءه شهراً والتخيير القرآني لهن، خبر تظاهر بعض زوجاته عليه، مواقف الصحابة مع النبي مثل رفع الصوت عند الحجرات وعدم الانصراف المباشر بعد الطعام وحياء النبي منهم، حجاب أمهات المؤمنين، بعض الحوادث والمعاملات والنزاعات التي نشأت داخل مجتمع المدينة مثل الظِهار واللمز في الصدقات والإيثار وغيرها من المواقف، مواضع العتاب القرآني للنبي، وغير ذلك) مجموعة في كتاب الله، ومن اليسير على الدارس أن يجمع مجمل سيرته صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم ليحصل على هيكلها كاملاً دون اللجوء لإضافة حديث واحد، أو رواية واحدة إلا لشرح أو بيان أو تفسير، لتصبح المرويات المرسلة بعد ذلك غير ذات وزن في دراسة السيرة، على أن معالم منهج الإسلام وخطوط إدارة الحياة لا تُؤخذ من الضعيف والمرسل من الروايات، ولكنها تُؤخذ بالضرورة من قطعيات الثبوت من القرآن والسنة.
مدرسة ثالثة ترى أن حوادث السيرة النبوية تقتصر على بعدها الزمني وسياقات وقائعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التاريخية، وبالتالي لا جدوى من الاعتبار بدلالات وقائعها، ولا أهمية للاستدلال من حوادثها، وأن الأحرى – وفق منهج القرآن الكريم بالسير في الأرض والتفكر في شؤون الأمم المعاصرة – الاستفادة من تجارب الأمم التي سبقتنا في مجالات الحياة (سياسة، تعليم، اقتصاد، اجتماع، وخلافه).
والحقيقة أن هذه مدرسة متهافتة أمام ثبوت أهمية دراسة التاريخ في مناهج كافة الأمم المتقدمة عِلماً وتقنية وثقافة، والقرآن الكريم الذي أمر بالسير في الأرض والانتفاع بتجارب المعاصرين، هو نفسه الذي أمر بالنظر في تاريخ السالفين: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9]، ودعوة القرآن الكريم للاعتبار بقصص السابقين واضحة جلية، وتكرار قصص الأنبياء مع الأمر بالاقتداء بهم واضح معلوم، مثل قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4]، فكيف نفرق بين أمر القرآن لنا باتباع منهج الأنبياء والرسل بعدما قص علينا طرفاً من سيرهم (قصصهم) وبين أمر الله لنا بالتأسي برسولنا – وقد قص علينا طرفاً جامعاً من سيرته – فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]؟
دراسة السيرة النبوية وعلاقتها بإدارة حياتنا المعاصرة تقتضي منا إنجاز ثلاثة مسارات متوازية، يهتم المسار الأول برسم قصة حياة محمد صلى الله عليه وسلم والذين معه من خلال القرآن الكريم وحده لتكون النواة الصلبة لتنقيح حوادث السيرة النبوية من المرويات المرسلة وغير الثابتة، ويهتم المسار الثاني بالجانب الإنساني للسيرة النبوية وعدم حصرها في فكرة المغازي أو الجهاد الدعوي الطويل الذي مارسه سيد المرسلين، وإخراج كنوز المواقف التربوية والتوجيهات الاجتماعية والإنسانية والتنموية التي يوجهنا لها مجمل سيرته العطرة، أما المسار الثالث فيُعنى باستلهام المبادئ والقواعد العامة لإدارة حياة الفرد مع ذاته ومع أسرته ومع عائلته ومع محيطه الجغرافي ومحيطه العملي ودوره في المجتمع والأمة، وصولاً إلى القواعد الحاكمة لنظرة المسلم لغايات الحكم والسياسة والاقتصاد والجهاد ومختلف مناشط الحياة.
[1] د. عبد المجيد البغدادي، فن السيرة الذاتية وأنواعها في الأدب العربي، مجلة القسم العربي، جامعة البنجاب، لاهور – باكستان، العدد 23، 2016م.
[2] ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ط1، دار الكتب العلمية ص156.
[3] علاء سعد حميدة، دولة النبي ص95.
(المصدر: مجلة البيان)