السودان.. علمانية الدولة بعد التطبيع!!
بقلم د. ياسر محجوب الحسين
رغم أن الجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان عسكري مهني تقلد ارفع الرتب، بيد إنه خاف من مليشيا مسلحة اتخذت من الجبال وتضاريس الجغرافيا ملاذا وحصنا فبدت عصية لهذا السبب فقط. بالأمس خضع البرهان لفرض خيارها الأيديولوجي على كامل البلاد؛ ولم يدر البرهان ومن يقف وراء تلك المليشيا أن تاريخ أمة من الأمم لا يصنعه السلاح بل تصنعه فقط خيارات وقناعات الأمة.
في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان وقعت الحكومة السودانية الانتقالية والحركة الشعبية شمال بقيادة المتمرد عبد العزيز الحلو الأحد الماضي على اتفاق اعلان المبادئ بين الجانبين. وتضمن الاعلان المعيب: “تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية في السودان تضمن حرية الدين وحرية الممارسات الدينية والعبادات لكل الشعب السوداني وذلك بفصل الهويات الثقافية والإثنية والدينية والجهوية عن الدولة وأن لا تفرض الدولة دينا على أي شخص ولا تتبنى دينا رسميا وتكون الدولة غير منحازة فيما يخص الشئون الدينية وشئون المعتقد والضمير كما تكفل الدولة وتحمي حرية الدين والممارسات الدينية، على أن تضمن هذه المبادي في الدستور”. هذه الفقرة المحشوة بالعبارات الفضفاضة الخادعة مقصود منها فصل الدين عن الدولة وإقامة دولة علمانية ولفظ الاسلام وقيمه وتشريعاته وازاحتها من تنظيم وقيادة الحياة العامة.
وتجاوز البرهان الاتفاق السياسي حول ترك قضايا هوية الدولة للمؤتمر الدستوري والبرلمان المنتخب بعد الفترة الانتقالية. أما عبد العزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية فرع جنوب كردفان والذي انضم للحركة في عام 1986، فهو لا يمثل قبائل جبال النوبة إذ ترجع أصوله من قبيلة المساليت، بدارفور، لكنه يمثل الحركة الشعبية الأم التي تحكم دولة جنوب السودان وحاربت الحكومة المركزية في الخرطوم سنينا عددا، وقد أشرف الحلو على نقل سلاح الحركة الشعبية سيراً بالأقدام من أثيوبيا إلى جبال النوبة في تلك الفترة مستغلا أبناء جبال النوبة الذين مات العديد منهم أثناء هذه الرحلة التي استمرت نحو 6 أشهر. وقد تحدثت بعض المنظمات الحقوقية والدولية مع زعيم الحركة الشعبية آنذالك جون قرنق حول إبادة الحلو لهذه القبائل فنقله إلى شرق الاستوائية بجنوب السودان. ثم لاحقا وبعد هدوء عاصفة الادانة الدولية أعاده قرنق إلى جبال النوبة وأصبح رئيس الحركة هناك. وهناك واجه الحلو قادة أبناء جبال النوبة الحقيقيين ودفع بمذكرة لقرنق عن الأوضاع في جبال النوبة ليؤكد لقرنق أن أولئك القادة ضد الحركة وأقنع قرنق بإعدامهم وأن يكون ذلك وتم تصفية المجموعة وتمكن آخر من الهرب لاحقا وصعد الحلو في ترتيبه القيادي. وقد نجحت الحركة الشعبية في استقطاب أعداد مقدرة من أبناء المنطقة، بل أصبحوا يشكلون نسبة مقدرة في الجيش الشعبي نوعياً وكمياً، إذ بلغ عدد أبناء النوبة في الجيش الشعبي في وقت من الأوقات نحو 30 ألفاً. ويعملون في مناطق وأجزاء دولة الجنوب على عكس أبناء قبائل الجنوب، إذ لا يغادر أبناء الشلك مناطقهم وكذا النوير، بينما أبناء الدينكا -وهم قبيلة رئيس الدولة سلفاكير- يسيطرون على الرتب العليا من فئة الضباط.
تقع منطقة منطقة جبال النوبة في ولاية جنوب كردفان إلى الجنوب الغربي من العاصمة الخرطوم. وتعادل المنطقة مساحة أسكتلندا، أي نحو ثلاثين ألف ميل مربع، وهي منطقة سافانا غنية تهطل عليها أمطار صيفية غزيرة تكفي لإنتاج محاصيل زراعية مهمة خلال موسم الخريف، ويمتد الموسم المطير من منتصف شهر مايو حتى منتصف شهر أكتوبر، الأمر الذي ساهم في غلبة النشاط الزراعى للأهالي على المرتفعات. ولا توجد أي طرقات صالحة للتنقل خلال المرتفعات النوبية، مما جعل القرى والمناطق المأهولة بالسكان أعلى المرتفعات لا يمكن الوصول لها عن طريق السيارات وإنما عن طريق الطرق والممرات القديمة داخل الجبال التي يبلغ عدد 99 جبلا.
فما تتميز به جبال النوبة من جغرافيا وعرة أنها تلائم حرب العصابات. ويبلغ سكان منطقة جبال النوبة نحو 3 ملايين نسمة من السلالة النوبية، وهي سلالة واحدة، وامتداد لسلالة نوبة مصر، بيد أنه دخلت عليهم السلالات الزنجية الإسلامية والأوروبية عبر التزاوج فتمازجت هذه السلالات وكونت السلالات جبال النوبة. وهنك قدر كبير من مفردات لغة قبائل جبال النوبة نحو 70% هي نفسها مفردات لغة النوبة في شمال السودان فالظروف الموضوعية والسياسية لمنطقة جبال النوبة تؤكد أنها الأقرب للسودان من جنوب السودان، فجوبا تريدها فقط معبراً وآلية للنيل من الخرطوم، بينما الخرطوم لا تعير المنطقة الاهتمام اللازم ومعالجة قضاياها التنموية وخصوصيتها الثقافية. وعموم مطالب أهل المنطقة تتعلق بالتنمية المتوازنة وربما نوع من الحكم الذاتي أو الفدرالي لكن ليس مطالبهم مطالب ايدولوجية كعلمانية الدولة فذلك مطلب أقحم اقحاما لشيء في نفس يعقوب.
إن علمانية الدولة مخطط خارجي تتولى كبره الحركة الشعبية الأم بدفع وعون من القوى الغربية وإسرائيل؛ فتبني الإسلام كنظام حكم في بلاد شاسعة غنية بالموارد الطبيعية خطر على الدولة اليهودية وعلى الاستراتيجيات الاستعمارية في المنطقة.
لقد كانت الحركة الشعبية الحاكمة جوبا اليوم، ومنذ أن بدأت نشاطها العسكري والسياسي منذ أكثر من 3 عقود من الزمان، تتأبط خطة سياسية عسكرية من قسمين (أ) و(ب). تحقيق القسم (أ) يغني بالضرورة عن القسم (ب)، بينما يتم اللجوء إلى الخطة (ب) في حال فشل الخطة (أ). المآل النهائي لهدف الحركة استقر على الخطة (ب) وهي فصل جنوب السودان وتأسيس دولة تتبنى نهجاً علمانيا على النسق الغربي.
وتبنت الخطة (أ) تبنت شعار تحرير السودان وصولاً إلى سودان جديد يتم فيه طمس الهوية العربية الإسلامية وإزاحتها من الحياة العامة وإرساء قواعد نظام حكم علماني بملامح زنجية أفريقية خالصة. ولما فشلت الخطة (أ) بسبب مقاومة نظام الرئيس السابق عمر البشير، فلا يعني التخلي تماماً عن هدف “السودان الجديد”، ولكن يتم تحقيقه بوسائل وطرق سياسية وعسكرية جديدة، فإن لم يكن “سوداناً جديداً موحدا”، فليكن “سودانان” متماثلان ثقافياً وسياسياً. وهذا ما يتم تنفيذه اليوم عبر سياسة شد الأطراف، وهي سياسة أمريكية تتحقق عبر جوبا وعدد من دول الجوار الأفريقي مثل أوغندا مقاول التطبيع في إفريقيا.
(المصدر: رسالة بوست)