مقالاتمقالات مختارة

“السني المستباح” في معسكر الموصل

بقلم حسن أبو هنية – عربي 21

لم تكن مشاهد صور جثث الأطفال والنساء والشيوخ تحت أنقاض مساكنهم في مدينة الموصل المدمرة غريبة ولا صادمة فقد اعتدنا على مشاهدة صور “السني المستباح” في المدن السنية في عراق ما بعد الاحتلال وتأسيس دولة المليشيات الشيعية الطائفية من تكريت إلى الرمادي فالفلوجة وغيرها من المدن تحت ذريعة “حرب الإرهاب ــ السني” حيث تتضامن الإمبريالية والدكتاتورية والطائفية في دعوى تخليص الإنسان السني من الإرهاب السني.

صور ومشاهد القتل والدمار في معركة الموصل كانت متوقعة إذ لم تتمكن القوات العراقية المسندة من طائرات التحالف الدولي بقيادة أمريكا من “تحرير” شبر واحد من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في أي معركة دون تدمير المكان بصورة شبه كاملة وكما سائر المدن العراقية السنية بدت الموصل وكأنها تعرضت لكارثة طبيعية ومع ذلك طالب بعض أعضاء مجلس النواب العراقي “السنة” اعتبار الموصل مدينة “منكوبة” الأمر الذي بستدعي أطروحات “رأسمالية اقتصاد الكوارث”.

قبل انطلاق معركة الموصل (قادمون يا نينوى) في 17 تشرين أول/  أكتوبر 2016 قدرت وزارة الدفاع الأميركية عدد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل ما بين 3000 و4500 عنصر وتحدثت تقارير أمريكية عديدة عن سيناريوهات الهروب الجماعي وتضمنت الحملة الدعائية الحديث عن الاحتفالات المرتقبة لأهالي الموصل بتحريرهم وابتهاجهم، وإذا كان الأمر كذلك لماذا حشدت أمريكا كل هذه القطاعات والقوات التي وصلت إلى 150 ألف مقاتل فضلا عن أكثر من 5 آلاف عسكري ومستشار أمريكي حيث يشارك في الهجوم على الموصل قوات الجيش العراقي وقوات الشرطة الاتحادية وقوات جهاز مكافحة الإرهاب وسلاح الجو العراقي، وتشارك فصائل مليشيا “الحشد الشعبي ــ الشيعي” وفي مقدمتها حزب الله وسرايا السلام ومليشيات بدر وعصائب أهل الحق وجند الإمام والنجباء وأبو الفضل العباس وهي فصائل تعمل تحت إشراف مستشارين إيرانيين، ومن الجانب الكردي تشارك ثلاثة ألوية من قوات البشمركة ووحدة مدفعية ميدان والفرقة الهندسية الثالثة فضلا عن اكسسوارات الحشد العشائري السني.

عندما أعلنت القوات العراقية استعادة السيطرة على الجزء الشرقي للموصل كانت قد تكبدت خسائر كبيرة وأدركت أن كلفة معركة الجزء الغربي سوف تكون مهولة وعندما أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عن بدء الهجوم على الجزء الغربي من المدينة في 19 شباط/ فبراير 2017 بدأت تكتيكات معركة الموصل الكارثية بالظهور والتكشف حيث  لم تتمكن القوات المهاجمة من التقدم إلا بعد عملية تدمير شبه كامل عن طريق طيران التحالف والمدفعية والصواريخ العراقية فإذا تواجد أحد مقاتلي تنظيم الدولة على سطح بناية يجري تدميرها بالكامل على ساكنيها تحت بند أضرار جانبية  وذريعة “دروع بشرية”.

لا شك أن معركة الموصل أمريكية في المقام الأول وقد قال وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون في اجتماع لوزراء خارجية دولة “التحالف الدولي” الذي استضافته واشنطن في 22 آذار/ مارس الماضي في كلمته أمام الاجتماع أن “هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية هو الهدف رقم واحد للولايات المتحدة في المنطقة” وقد كان مدركا أن هزيمة تنظيم الدولة في الموصل وغيرها من المدن السنية تعني تدميرها بالكامل حيث تابع قائلاً “نحن كتحالف ليست مهمتنا بناء الدول أو إعادة إعمارها” كما كان مدركا لعمليات القتل والقصف العشوائي ففي الوقت الذي كان يلقي خطابه كان يجري انتشال جثث أكثر من  500 مدني بينهم نساء وأطفال من تحت الأنقاض.

لم تنكر الولايات المتحدة قصفها وارتكابها مجازر بحق مدنيين لكنها ألقت باللوم على القوات العراقية حيث أعلنت القيادة المركزية الأمريكية أن طائرات أميركية قصفت الموقع الذي شهد سقوط عشرات القتلى من المدنيين في غرب الموصل بناء “على طلب من الأمن العراقي” في 17 آذار/ مارس الماضي، ولم تكن تلك المجازر حالة استثنائية  فقد كشفت البلاغات التي رصدها المرصد العراقي لحقوق الإنسان، عن مقتل 3846 مدنيًا في الساحل الأيمن فقط، وهؤلاء الذين تم الإبلاغ عن حالاتهم وما زالت جثث أعداد كبيرة منهم تحت الأنقاض.

لعل أمريكا ودولة المليشيات استثيرت كما العادة حيث لم يخرج السكان السنة لاستقبال المحررين بالأزهار والورود فأمطروهم بالقذائف والقنابل والصواريخ فبحسب شبكة المرصد العراقي في مدينة الموصل التي تعكف على إعداد إحصائية بشأن الدمار الذي حل في مناطق الساحل الأيمن من مدينة الموصل فقد تم  تدمير 10 آلاف وحدة سكنية.

يمكن فهم أطروحات الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين في كتابه “الإنسان المستباح: السلطة السيادية والحياة العارية” إذا استبدلنا عبارة “لإنسان المستباح” بمقولة “السني المستباح” حينها يصعب التحفظ على مصداق تأويلات أغامبين الذي يشير إلى أن مهدور الدم أو مستباح الدم “هومو ساكر” هو الفرد الذي قد يقتل على يد أي شخص دون إدانته بجريمة القتل لأنه قد حُظر من المجتمع القانوني السياسي، وفي حين أن المجرم قد يحظى بضمانات قانونية معينة وإجراءات رسمية، إلا أن هذا “الرجل المقدس” غير محمي أبدا وتم اختزاله إلى مجرد وجود مادي، ولأنه قد وضع في حالة أبعد ما تكون عن الإنسان والقانون المقدس، فإن الإنسان المستباح سيصبح “الميت الحي”.

حسب  أغامبين فإن الإنسان المستباح: تم استبعاده من المجتمع الديني ومن كل الحياة السياسية، إذ يتم اختزال وجوده بأكمله إلى الحياة العارية وتجريده من كل الحق بحكم حقيقة أن أي شخص يمكنه قتله دون محاسبته على ارتكاب القتل، وبهذا فإن الموصل تتحول إلى معسكر والسني إلى مستباح، وكما شرحت حنة أرندت فإن المعسكر هو الفضاء حيث “كل شيء ممكن” ولا يمكن حسب أغامبين أن يقال أن المعسكر يحدد بالفظائع التي تجري هناك، ولكن باحتمالات حدوثها، وهذا هو الشرط الذي تنتفي فيه الحياة العارية عن الإنسان المستباح.

في سياق معركة “تحرير الموصل” كبضاعة رائجة كتبت الدكتورة هيفاء زنكنة قائلة: صارت الطغمة التي يفتخر بها كل نظام عربي هو تسابقه لاثبات ولائه لمرجعية القوة العسكرية الأمريكية، أما الاحزاب المعروفة، تاريخيا، بعدائها للامبريالية والهيمنة والاستغلال الاقتصادي، المتفاخرة باستقلالها عما تسميه “النظم الرجعية الفاسدة” فقد نزعت جلدها لتتعرى مزهوة بعرض محاسنها للمستعمر الجديد، على أمل السماح لها بالتقاط الفتات، فمن الذي يتجرأ على الوقوف خارج خيمة “الحرب على الإرهاب” غير الإرهابي القاعدي الداعشي؟.

السني المستباح في معسكر الموصل لا مانع من حصاره وتجويعه وقتله قصفه بما تيسر فقد قصفت قوات التحالف الموصل بالفسفور الأبيض وهو مادة حارقة محرمة دوليا وتم استخدامها سابقا في مدن عراقية سنية باعتراف قيادة الاحتلال الأمريكي اثناء معركة مدينة الفلوجة عام 2004 وقد تكشف منهج تحرير الموصل منذ اللحظات الأولى فقد استهلت المعركة خلال اليومين الأولين بقصف الموصل بأكثر من 1000 قذيفة هاون وأكثر من 400 صاروخ أرض ـــ أرض وأطلق أكثر من ربع مليون إطلاقة نارية على المدينة من قبل القوات المهاجمة إضافة للقصف العنيف بالمدفعية المتنوعة، وفي عصر 20 من أكتوبر قصفت طائرات التحالف الدولي ناحية تلسقف بالفسفور الأبيض الحارق الذي خلف أكثر من 60 قتيل وجريح في صفوف المدنيين، وفي يوم 27 أكتوبر قصفت أطراف الموصل بقذائف تحمل الفسفور الأبيض.
اتهمت منظمة “هيومان رايتس ووتش”  قوات عراقية منها ميليشيا “الحشد الشعبي” القيام بأعمال نهب منازل والحاق أضرار بها أو تسويتها بالأرض في الفترة بين تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 و شباط/ فبراير 2017 في بلدة وأربع قرى قرب الموصل خلال عمليات استعادتها من تنظيم “الدولة الاسلامية” من دون أي ضرورة عسكرية ظاهرة، مشيرة إلى أن ذلك “يرقى لمصاف جرائم الحرب”، واتهمت منظمة العفو الدولية الحشد الشعبي والقوات الحكومية العراقية بارتكاب جرائم حرب وهجمات انتقامية وحشية في حق المواطنين السنّة الفارين من تنظيم الدولة في الموصل.

لا يزال من المبكر الكشف عن الجرائم المروعة التي تمارسها قوات التحالف الدولي والقوات العراقية لكن ما يتكشف تقشعر لهوله الأبدان وقد نقلت وكالة رويترز في 24 تشرين ثاني/ نوفمبر 2016 أن هناك معلومات عن عمليات إعدام قامت بها ميليشيا الحشد بحق رجال خطفتهم من الموصل, وفي نفس اليوم قامت ميليشيا الحشد بخطف أكثر من مئة عائلة نازحة من قضاء تلعفر ونقلتهم لمكان مجهول لم يعرف مصيرهم, وفي اليوم التالي قامت ميليشيا الحشد بإعدام عائلة تركمانية خطفتها ميليشيا الحشد الطائفي من أطراف تلعفر وقامت بإعدام العائلة بأكملها، ولم تنقطع عمليات قتل المدنيين بقصف طائرات التحالف والقصف المدفعي والصاروخي للقوات العراقية.

في 19 تشرين ثاني/ نوفمبر 2016 نشرت صحيفة دير شبيغل الألمانية تقريرا حول الانتهاكات التي يرتكبها عناصر الجيش العراقي والمليشيات الشيعية المساندة لهم في أثناء سيطرتهم على القرى المتاخمة لمدينة الموصل في شمال العراق، مشيرة إلى أن تلك الانتهاكات ترتكب من قبل من يفترض أنهم يقاومون الإرهاب، وحذرت من أن هذه الجرائم سوف تعمق الانقسام في العراق وقد تؤدي لفشل هذه الحرب، وقالت الصحيفة في تقريرها: إن مقطع فيديو تم تداوله على شبكات التواصل الاجتماعي، أظهر طفلا ملقى على الرمل، غير قادر على تحريك رجليه، فيما كان جندي يقوم بسحله وهو مستسلم تماما، حتى وضعه أمام دبابة، ثم قام بقية الجنود بإطلاق النار عليه من مسافة قريبة قبل أن تدوسه الدبابة، وأضافت الصحيفة أن هذا المقطع قام بتصويره جندي بهاتفه الجوال.

في ذات السياق أكد قيادي في ميليشيا الحشد الشعبي المشاركة في معركة الموصل لصحيفة “القدس العربي” أنهم لن يتراجعوا عن عمليات السحل والذبح بالرغم من الأصوات التي تطالب بوقف هذه العمليات مبرراً هذه الافعال بأنها ضرورية لترهيب وتخويف العدو، ال القيادي في “كتائب الامام علي” أيوب الربيعي الملقب بـ ـ(أبو عزرائيل) في تسجيل مصور نشره المكتب الإعلامي للميليشيا التابع لها أنهم لن يتراجعوا عن عمليات السحل، وتقطيع الاوردة والشرايين في معركة الموصل بالرغم من الاصوات المطالبة بإيقاف هذه الممارسات، واتهم الربيعي الحشد العشائري السني بالتعاون مع
تنظيم الدولة والتنسيق معه عبر توصيل المعلومات.

خلاصة القول كيف يمكن القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” في ظل فلسفة “السني المستباح” وسياسة المدن السنية المدمرة والإمعان في التنكر للأسباب والشروط والظروف الموضوعية التي أدت إلى بروز الجهادية السنية في عراق ما بعد الاحتلال وفي ظل دولة المليشيات الشيعية وفي صلبها تهميش وإقصاء السنة عن العملية السياسية وإذا كان ذلك ممكنا في ظل الإصرار على اعتبار سنة العراق أقلية إرهابوية ضارة في صناعة الاستقرار فكيف يمكن أن تنجح أمريكا وحلفائها بعد عزمها على اتباع نهج أكثر وحشية وأشد كارثية في مدينة الرقة السنية السورية، وهل يصبح بعد ذلك السؤال عن أسباب صعود تنظيم الدولة الإسلامية ممكنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى