مقالاتمقالات مختارة

السنة بيان للقرآن

السنة بيان للقرآن

بقلم محمد أكرم الندوي

قالوا: هل توافق من ذهب إلى أن السنة كلها بيان للقرآن؟

قلت: من أنا حتى أوافق الأئمة أو لا أوافقهم؟ وإنما أنا طالب أتطفل على مائدتهم، أتعلم منهم وأقتبس من ضيائهم، أعجبني عمق مغزى قول ابن عيينة: “السنة تأويل الأمر والنهي”، وقول الشافعي وغيره: “إن السنة بيان للقرآن الكريم”، فصدَّقتُ ما قالوا وحقَّقتُه تحقيقا، ولم أبغ عن متين رأيهم بدلا، ولا عن سديد فقههم حولا.

قالوا: فما لك خالفتهم في غير أشياء؟ 

قلت: خالفتُ بعضهم إلى من هو مثله في العلم والتقوى، والصلاح والهدى، فهم قوم اجتهدوا مخلصين لله تعالى، لهم أجران فيما أصابوا، وأجر واحد فيما أخطأوا.

قالوا: فهل فيما ذهبوا إليه من كون السنة بيانا للقرآن الكريم من غناء؟ 

قلت: نعم، إنه تصديق للقرآن الكريم: {لتبين للناس ما نزل إليهم}، وإن تقصّي وجه بيان السنة للقرآن وعيا واستيعابا يزيد الإنسان فقها لكتاب الله تعالى ولهذا الدين، ومن ينكر أن التبصر بالعلاقة بين القرآن والسنة من جليل البرهان وعظيم الدليل؟

قالوا: فما أوجه هذا البيان؟ 

قلت: خمسة:

1- البيان التفسيري: وهو ما ورد في السنة مؤكدا لما في القرآن أو ميسرا له، فقول النبي صلى الله عليه وسلم “المسلم أخو المسلم” مؤكد لقوله تعالى “إنما المؤمنون إخوة”، وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أحكام الحيض ميسر لقوله تعالى: “ويسألونك عن المحيض، قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن”، وحديث جبريل عليه السلام في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم توثيق وتقريب لمعاني الإيمان والإسلام المنصوص عليها في القرآن الكريم.

2-البيان التطبيقي: وهو تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم تعاليم القرآن الكريم في حياته، ويشرحه ما أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: “سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي”، يتأول القرآن، أي إنَّ تسبيحه هذا تأويل قوله تعالى “فسبح بحمد ربك واستغفره”، وأحاديث الصحابة في وصف حج النبي صلى الله عليه وسلم تطبيق لقوله تعالى: “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا” وغيره من الآيات المتضمنة للحج وشعائره، وحديث صلاة جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم بيان لأوقات الصلاة المذكورة في كتاب الله تعالى، ومن هذا القبيل أكثر السنن الواردة في الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج والنكاح والطلاق وما إلى ذلك من أمور الدين العملية.

3-والبيان الحدودي: هو أن ينبه النبي صلى بسننه إلى حدود ما ورد في القرآن: الحد الأدنى، والحد الأقصى، والحد الوسط، فغسله أعضاء الوضوء مرة هو الحد الأدنى، وغسله لها ثلاث مرات هو الحد الأقصى، وغسله لها مرتين هو الحد الوسط، قَالَ مُحَمَّد بن الْحَسن في كتاب الآثار: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَثْنَى، وَتَمَضْمَضَ مَثْنَى، وَاسْتَنْشَقَ مَثْنَى، وَغَسَلَ وَجْهَهُ مَثْنَى، وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ مَثْنَى، مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا، وَمَسَحَ رَأْسَهُ مَثْنَى، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ مَثْنَى. وَقَالَ حَمَّادٌ: الْوَاحِدَةُ تُجْزِئُ إِذَا أسُبِغَتْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ.

4-والبيان التكميلي: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على إطاعة ربه في أكمل وجه وأتم صورة، أمره ربه في الوضوء بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس، ولكنه لما غسل وجهه مضمض واستاك فاه واستنشق تكميلا لأمر الغسل، وما أخرجه الشيخان وغيرهما عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: “وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ماء يغتسل به فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره ثم دلك يده بالأرض ثم مضمض واستنشق ثم غسل وجهه ويديه وغسل رأسه ثلاثا ثم أفرغ على جسده ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه” بيان تكميلي لقوله تعالى: “وإن كنتم جنبا فاطهروا”، وقوله: “ولا جنبا إلا عابري سبيل حنى تغتسلوا”.

5-والبيان الاستنباطي: فكم من سننه هي فهمه لكتاب الله تعالى، واستنباطه منها، فقوله :”خير القرون قرني ثم الذين يلونهم” مستنبط من قوله تعالى: “والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه”، وكفارة مفطر صيام رمضان استنبطها من كفارة الظهار، لأن الظهار تحريم ما أحل الله تعالى، وتعمد الإفطار في نهار رمضان تحليل لما حرم الله تعالى، والتحليل والتحريم كلاهما مختص بالله تعالى، فسوَّى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في الكفارة، ولا شك أن التسوية بين المتماثلين من أفضل الرأي والاجتهاد، وهو معنى قوله تعالى في سورة النساء الآية 105: “إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله”.

قالوا: وهل ضر أحدا الجهل بهذه الوجوه؟

قلت: نعم، فإن من لم يحاول التوفيق بين السنة والقرآن أوَّل القرآن بغير السنة فأخطأ، أو استغنى بالسنة عن القرآن فقصّر تقصيرا، أو ظن القرآن والسنة غير كافيين للهداية فالتجأ إلى الأقيسة والظنون، وضل سواء السبيل، ولو أنه نظر في الترابط الوثيق بين المصدرين لما رمته اجتهاداته المرامي البعيدة، ولما خرج عن المصالح التي فرض الله على عباده تحقيقها، ولما ضرب تفاصيل الشريعة بعضها ببعض مناقضا بينها.

قالوا: فما توصينا؟

قلت: أوصيكم ونفسي بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتوفيق بينهما، ثم تطبيق أحكامهما في إخلاص على الفرد والمجتمع، وإياكم والظن في دين الله، فالظن أكذب الحديث.

قالوا: كأنك لاجتهادات الفقهاء كاره، ونافر منها نفورا.

قلت: سأشرح ذلك في مقال آخر، وحسبكم الآن أن تعلموا أن اجتهاداتهم ليست إلا امتدادا لاجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ومن جنس استنباطه من كتاب الله تعالى، فمن وافق جنس هذا الاستنباط أصاب، ومن خالفه أخطأ، واللهَ أسأل أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وأعوذ بالله من أن ندين في أرضه بغير دينه، ولنعم ما قال تعالى: “والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبُلَنا”.

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى