السنة الميلادية بين التفاعل الحضاري والانسحاق الثقافي!
بقلم أ. د. فؤاد البنا
يُفرق الفكر الإسلامي الراشد تفريقا حاسما في تعامله مع الآخر بين التفاعل الحضاري وبين الغزو الثقافي، ومن يعرف مقاصد الشريعة ويفهم نصوص الوحي يدرك أن التفاعل الحضاري أمر مفروض بينما الغزو الثقافي شأن مرفوض جملة وتفصيلا!
ومن الثمار العلقمية للأمية الفكرية الخلط الشديد بين التفاعل والغزو، ولأن أغلب المسلمين يعانون من هذه الآفة مع اختلاف النِّسب فإننا نشهد ونشاهد اندلاع معارك كلامية بين تيارين عريضين من أبناء المسلمين في مناسبات عديدة طيلة العام، ومنها مناسبة رأس السنة الميلادية!
فهناك من يعتبرون كل ما له صلة بهذه المناسبة، من صور الغزو الثقافي التي ينبغي النأي بالنفس عنها بكل حرص ومحاربتها من غير هوادة، والعمل من أجل تجفيف المنابع الفكرية التي ترويها بأي صورة من الصور؛ لأنها تمسخ هوية الأمة الإيمانية وتمحق شخصيتها الحضارية المختلفة.
وهناك آخرون يعتقدون أنه لا بد من الاحتفاء بهذه المناسبة بوصفها مناسبة متصلة بنبي مرسل من السماء بحسب القرآن الكريم، ثم بوصفها مناسبة عالمية تحتفي بها سائر الأمم في زمن القرية الكونية الواحدة، فضلا عن الأمة المسيحية التي يصل عددها إلى نحو ثُلث البشر وهم أقرب الأمم إلينا بنص القرآن !
والمصيبة أن الفريق الأول يتعامل مع جميع المفردات المتصلة بالموضوع من زاوية الغزو الثقافي الصرف، وبرفضه لأي صورة من صور التفاعل الحضاري فإنه يُظهر المسلمين كأنهم أمة عدوانية لا تعترف بالآخر ولا توجد لديهم قواسم مشتركة مع بقية البشر!
أما الفريق الثاني فينظر إلى جميع مفردات التعامل مع الآخر من زاوية التفاعل الحضاري البحت، ومن ثم فإنه لا يجد أي غضاضة في ممارسة سائر مظاهر التقليد لما تفعله الشعوب الغربية من طقوس وأنشطة وممارسات في هذه المناسبة، بما فيها بعض الأمور الواردة ضمن دائرة الحرام البيِّن في الشريعة الإسلامية!
إن مناسبة رأس السنة الميلادية تُظهر، مثل مناسبات عديدة، عمق الأزمة الفكرية التي يعيشها الجزء الأكبر من أمتنا وعقم عقول كثير من أبنائها عن التفكير السوي الذي يجيد درء المفاسد وجلب المصالح، فالتقليديون يمارسون صورا من الجمود تحت راية الأصالة وبحجة المحافظة على الثوابت، أما التغريبيون فيمارسون صورا من الانسحاق الثقافي والذوبان الحضاري تحت دعاوى التطور والعيش المشترك في قلب العصر!
ورغم بُعد المسافة الظاهرة بين التقليديين والتغريبيين، فيبدو لي أن أفراد التيارين ينطلقون من عقدة نقص مستحكمة تجاه الغرب بسبب تقدمه الحضاري وإعلامه الجارف، مع اختلاف أساليب التعبير عن هذه العقدة عند الفريقين جذريا، فالتقليدي يُعبر عنها بالتسفيه الكلي للمنظومة الحضارية الغربية، وممارسة التسامي النفسي والرفض العملي لهذه المنظومة!
أما التغريبي فيُعبّر عن هذه العقدة بالقبول التام للمنظومة كلها بشقيها التكنولوجي والأيديولوجي والاندفاع في الذوبان فيها، معتقدا أنه بهذا الصنيع سيقوم بتجسير الهوة التي تفصله عن التقدم الذي يعيش الغربيون في بحبوحته!
ورغم هذا الاختلاف بين التقليديين والتغريبيين، فإن الطرفين يتفقان في تطويع النصوص الإسلامية لتأصيل ما ذهبا إليه من مواقف تعميمية وحدّية، فالجامدون يستدعون النصوص المتصلة بالولاء والبراء، والمتحدثة عن عداوة اليهود والنصارى والمشركين للمؤمنين، والناهية عن التقليد لهم والتشبه بهم، وذلك في سياق تحريم صور من التفاعل الحضاري وتبادل العلائق الاجتماعية الداخلة ضمن إطار الأخوة الإنسانية، وفي المقابل فإن الجاحدين يستشهدون بنصوص الأخوة الإنسانية والتعامل الطبيعي بين البشر، ويستدلون بمواقف الاقتباس الحضاري التي مارسها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون لتبرير تماهيهم مع ثقافة الغرب وعاداته بما فيها العوائد ذات الجذور الثقافية!
ومن ثم فإن هذه المناسبة تنضم إلى المناسبات التي يجانب فيها هؤلاء المسلمون الصواب، ويمارسون فيها قدرا كبيرا من تسفيه بعضهم والتخندق ضد بعضهم، بصورة تزيد من ظاهرة التآكل التي حلت مكان التكامل، مضيفةً مزيدا من الغثائية إلى واقع الأمة المتخم بالضعف!
ومن المؤكد أن المخرج من هذا هو تفعيل العقل في تدبر نصوص الوحي، وإجادة التمحور حول مقاصد الشريعة، وإحسان قراءة الواقع بعيدا عن التهويل أو التهوين، والتفاعل الإيجابي مع المتغيرات دون أي تنازل عن الثوابت، وهذا يتطلب ممن يهمهم أمر الأمة الدفع بكثير من الإمكانات البشرية والمادية لمعتركات صناعة الوعي واستثمار الوسائل والأساليب المتطورة في هذا السبيل.