السلطة والعلماء
بقلم أ. د. عمار طالبي
منذ عهد قديم في تاريخ المسلمين السياسي والثقافي والعلمي، تراوحت الصلة بين السلطة السياسية والسلطة العلمية بين الحكام والفقهاء أن تكون على وفاق وتعاون واستشارة ونصح، أو أن تكون على خلاف وابتعاد.
وقد فسر أولو الأمر أنهم أصحاب السلطة السياسية والعلمية، أو بالاصطلاحات القديمة أنهم الأمراء والعلماء ـ أي أهل السياسة وتدبير الشأن العام، وأهل العلم والخبرة والمشورة والنصح .
وقد تبعد المسافة بين السلطتين وقد تقترب، وقد يعتمد السياسيون على مشورة أهل الخبرة والمعرفة، وقد يتفردون بالسلطة، ويصبح بعض هؤلاء العلماء تحت سلطانهم وأوامرهم، وهذا ما يُسمى في بعض العهود بـ “علماء السلطان ” الذين لا شأن لهم إلا التبعية، وخدمة السلطة وإن استبدت وطغت وفسدت”.
وكان الفقهاء بمثابة السلطة التشريعية والسلطة القضائية، والأمراء بمثابة السلطة السياسية والسلطة التنفيذية، ثم نُحيّ هؤلاء العلماء وأصبحوا على الهامش في أغلب البلاد الإسلامية، وأخذ التشريع الوضعي، وأصبح البرلمان هو المشرّع، ولا يجعل للعلماء فيه نصيب ولا استشارة. ولم يبق في بعض البلاد الإسلامية إلا الإفتاء، بتعيين مفت عام، لكن لا تأثير له في التشريع، ولا في السياسة، ومكانته بروتوكولية شكلية.
ونجد بعض العلماء مستقلين، ولهم مواقف وآراء يعبّرون فيها عن الشأن العام، وهي بمثابة نصائح أو نقد لبعض الشؤون العامة، بطريقة لا عنفَ فيها، ولا إثارة ولا شغب، أمثال: الشيخ أحمد الريسوني في المغرب، والشيخ أحمد حماني والشيخ أحمد سحنون في الجزائر، والشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي في السعودية.
وصدر أخيرا كتاب للشيخ سفر الحوالي عبّر فيه عن رأيه في شؤون عامة تتعلق بأمثاله من العلماء في السعودية وغيرها، وبنصائح تتعلق بالسلطة، ويبدو أن السلطة ضاق صدرها برأيه، وهو رجل مقعد، يستحق الاحترام والتقدير، واعتقل، كما سمعنا في وسائل الإعلام مع بعض أفراد أسرته، مما يدعو إلى الأسف والعجب؛ لأنه لم توجّه إليه أي تهمة، ولم يُحاكم ولم يُسأل.
وهذا ما عومل به أيضا الشيخ المحترم المصلح سلمان العودة، ونحن نعرفه شخصيا، وهو نعم الأخ الصالح ونعم الصديق العالم المحترم، ونحن نعلم أن السلطة السعودية تحترم علماءها وتقدرهم وهم ركن من أركان سلطتها منذ الشيخ محمد عبد الوهاب ومن جاء بعده والملك عبد العزيز وذرّيته من بعده .
لقد آن الأوان في عصرنا هذا أن يتعاون الحكام والعلماء على ما فيه مصلحة الأمة، وأن يستمع أصحاب السلطة السياسية للعلماء والخبراء، وأن يستعينوا بآرائهم، وإن خالفت وجهات نظرهم، ولعل في ذلك نوعا من تعدد الآراء وتنوع وجهات النظر، مما ينبّه أهل السلطة إلى بعض ما ينفع الأمة والمجتمع وسير الشؤون العامة، فلا يضيق العلماء إن لم يؤخذ برأيهم، ولا يضيق صدر السياسيين إن لم يروا في تلك التوجيهات ووجهات النظر مصلحة.
والتفرد بالرأي وغلق الأبواب دون أي رأي أو فكر مخالف مضر بالمصلحة العامة، وما يُسمى اليوم بالمعارضة في البلاد الديمقراطية إنما هي معارضة في الرأي والمنهج، مما يمكن أن يستنير به من هو قائم على السلطة، ولا ضير، فإن تعدد الآراء والأفكار يفتح الباب لاختيار ما هو أفضل وأجدى وهذا مضمون قوله سبحانه وتعالى:{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}(آل عمران: 159).
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} وهو نبيّ صلى الله عليه وسلم أمره الله تعالى بالشورى، ليكون قدوة لمن بعده، كما جاء في وصف الجيل الرائد من الصحابة رضي الله عنهم، في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(الشورى: 38)
فهذه المفاهيم الكلية ينبغي أن يدرك الناس اليوم معانيها الواسعة النافعة الحضارية، فإن العقول اليوم وجيل هذا الزمان لم يعد يتقبّل مثل هذا الضيق بالأفكار والآراء، وإن اختلفت، وذلك لا يؤدي إلى العنف والنزاع، ويفتح باب التسامح، وتقبّل الآخر. أما إذا أُغلقت الأبواب والنوافذ دون أي رأي أو فكرة مخالفة، فإن المنزل يمكن أن يتفجر من داخله أو من خارجه؛ لأنه مغلق، لا يدخله الهواء النقي والأوكسجين، وربما يصيبه التعفن، ويبقى يتآكل في ذاته ولا يجد من يغذيه، ويجعله يتنفس ليجدد الهواء والمدد من خارجه، ومن الآفاق المختلفة التي يمكن أن تجدد أمره وتدفعه إلى آفاق أخرى تتقدم به وتنهض.
إن الانغلاق على الذات يفقرها، ويصيبها بالهزال فتصبح فريسة لذاتها، ويضيق بها ما هو خارجها، فإذا تمادى فإنه يؤدي إلى الانفجار، فتراكم المظالم عاقبته الانهيار والدمار، ويعلمنا القرآن في صيرورة الأمم وتاريخها أن الحضارات إنما تنهار إذا كثرت فيها المظالم والفساد والاستبداد.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}(القصص:59)
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ}(الأنبياء: 11).
لعل أصحاب السلطة اليوم في العالم الإسلامي أن يدركوا وأن يفكروا جيدا في هذا الذي يسمّى الإرهاب الذي نبت في بلداننا وتغذّى من الآخر واتخده أداة له، لتدمير أمرنا.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)