بقلم أفتاب العيني
من المؤسف جدا أن يقع بعض الكتاب من بني جلدتنا ضحية لما سطّره بعض الكتاب المعاصر تشويها لشخصية السلطان محمود الغزنوي الذي خلّد بصمات في ذاكرة التاريخ الهندية بقيادته الراشدة وحكمه العادل والذي جمع بين دولتي السيف والقلم، ونحن نحاول في هذا المقال أن نبين الخطأ الكبير الذي مارسه بعض الكتاب من تشويه شخصية السلطان الغزنوي بنقل بعض الروايات التاريخية بدون تمحيص وتحقيق المبنية على الهوى والتشويه المتعمّد لحقائق التاريخ، ولا شك أن هذا التشنيع والانتقاص يأتي نتيجة للبحث التاريخي المعول على المصادر التاريخية الإنجليزية دون الاعتماد على المصادر العربية الأصلية التي حفلت بتأريخ كل صغير وكبير من حياة السلطان وأيامه وعصره وملكه، ومحاولة هؤلاء الكتاب الجدد يأتي رفضا لما دوّن علماء أهل السنة والجماعة حول شخصية السلطان محمود الغزنوي.
إن من العلماء المؤرخين الذين سجلوا في كتبهم شخصية السلطان محمود الغزنوي وحياته وعصره بأدق التفاصيل وبشكل مبسط الإمام السبكي وابن خلكان وابن كثير والذهبي وابن خلدون وابن الأثير وعبد الحي الحنبلي وغيرهم من المؤرخين المحققين المنصفين،وفي الطبقات الشافعية الكبرى أفرد تاج الدين السبكي صفحات طويلة تتناول حياة الفاتح السلطان الغزنوي. يقول السبكي فيه: أحد أئمة العدل ومن دانت له البلاد والعباد وظهرت محاسن آثاره وكان يلقب قبل السلطنة سيف الدولة وأما بعدها فلقب بيمين الدولة، كان هذا السلطان إماما عادلا شجاعا مفرطا فقيها فهما سمحا جوادا سعيدا مؤيدا. ويتابع قائلا قد اعتبرت فوجدت أربعة لا خامس لهم في العدل بعد عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه إلا أن يكون بعض أناس لم تطل لهم مدة ولا ظهرت عنهم آثار ممتدة وهم سلطانان وملك ووزير في العجم وهما هذا السلطان والوزير نظام الملك وسلطان وملك في بلادنا وهما السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فاتح بيت المقدس وقبله الملك نور الدين محمود بن زنكي الشهيد.
قد وجهت طعون في شخصية السلطان الغزنوي وكثر النقد فيه، وجدنا أكثرهم لا يخرج عن صفة من اثنين: إما أن يكون ناقلا للتاريخ عن المؤرخين الشيعة، وإما أن يكون منحزيا إلى الوجهة الشيعية |
ويصف تاج الدين السبكي علاقة السلطان مع رعيته حيث يقول: وكان محبا إلى الناس لعدله ودينه وشجاعته ومعرفته وليست هذه من شذوذ الأقوال والشهادات للإمام الجليل تاج الدين السبكي بل العديد من العلماء المؤرخين يزوّدنا بشبيه هذه المعلومات التاريخية عن شخصية السلطان الغزنوي. وإليك عبارات ابن خلدون يقول: كان (أي السلطان) ملكا عظيما استولى على كثير من الممالك الإسلامية وكان يعظم العلماء ويكرمهم وقصدوه من أقطار البلاد، وكان عادلا في رعيته رفيقا بهم محسنا إليهم وكان كثير الغزو والجهاد وفتوحاته مشهورة. ويقول الإمام الذهبي: وكان مكرما لأمرائه وأصحابه وأهم المصادر التاريخية التي يستند إليها الإمام الذهبي واعتمد في تأريخ السلطان الغزنوي هو الإمام الحافظ أبو العباس المستغفري وكان من معاصري السطلان الغزنوي ومن كبار المحدثين وصاحب كتاب معرفة الصحابة وكتاب الدعوات ودلائل النبوات وفضائل القرآن وكتاب الشمائل.
ومن المراجع والمصادر الأخرى عند الإمام الذهبي كتاب “السياق لتاريخ نيسابور” للإمام أبي الحسن عبد الغافر ابن إسماعيل الفارسي وقد جاء في منتخب كتابه عن السلطان: رجل علي الجد ميمون الاسم بارك الدولة والنوبة على الرعية صادق النية في إعلاء كلمة الله المظفر في الغزوات والفتوح. قد صنف في أيامه ومبادئ أموره وأمور أبيه وغزواته وأسفاره تواريخ وتصانيف وحفظت حركاته وسكناته وأيامه وأحواله لحظة لحظة، وكانت مستغرقة في الخيرات ومصالح الرعية وما خلت سنة من سني ملكه عن سفر وغزوة، وكان متيقظا ذكي القلب بعيد الغور موفق الرأي والنظر في الأمور يسر الله له من الأسباب والأمور والعساكر والجنود والهيبة والحشمة في القلوب ما لم يره أحد، وكان مجلسه مورد العلماء ومقصد الأئمة والقضاة يعرف لكل واحد حقه ويخاطبه بما يستحق ويستدعي الأكابر والصدور والعلماء من كل فن إلى حضرة غزنة ويبوئهم من ظله وإنعامه وإكرامه المحل الرفيع ويصلهم بالصلاة السنية ولست أشك أنه قد توسل به المتوسلون إلى مجلسه وتقربوا إليه بالحديث وسمعوا الروايات.
وفي “نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” لمؤرخ الهند عبد الحي بن فخر الدين الحسني: كان السلطان من أعيان الفقهاء له مؤلفات منها التفريد في الفروع وكتابه هذا مشهور في بلاد غزنة وهو في غاية الجودة وكثرة المسائل ولعله نحو ستين ألف مسألة. ويقول ابن خلقان وكانت مناقب السلطان محمود كثيرة وسيرته من أحسن السير وجاء في كتاب “النجوم الزاهرة”: أن السلطان كان ديّنا خيرا متعبدا فقيها على مذهب أبي حنيفة، ونقل ابن العماد الدمشقي كتاب “شذرات الذهب في أخبار من ذهب” قول عبد الغافر الفارسي كان صادق النية في إعلاء كلمة الله تعالى مظفرا في غزواته وكان ذكيا بعيد الغور موفق الرأي وكان مجلسه مورد العلماء، ثم قال وبالجملة فمناقبه كثيرة وسيرته أحسن السير، وتوفي بغزنة وقبره بها يزار ويدعى عنده رحمه الله تعالى.
ومن الأقوال السابقة يتبين لنا كيف كان العلماء المؤرخون ينظرون إلى شخصية السلطان الغزنوي وترجم له بكل إنصاف تاريخي دون انحياز أو تعصب.
وقد وجهت طعون في شخصية السلطان الغزنوي وكثر النقد فيه، غير أننا لما نظرنا فيمن طعن فيه وحمل عليه وجدنا أكثرهم لا يخرج عن صفة واحدة من اثنين لا معدى عن إحداهما: إما أن يكون ناقلا للتاريخ عن المؤرخين الشيعة، وإما أن يكون منحزيا إلى الوجهة الشيعية.
كان السلطان محمود الغزنوي من أشد المعارضين للشيعة ولعل معارضته هذه هي التي دفعت مؤرخي شيعيين إلى الانتقاص من شأنه والطعن في شخصيته، وقد أورد الحافظ ابن كثير الدمشقي في كتابه “البداية والنهاية” كلاما عن موقف السلطان الغزنوي ضد الشيعة حيث يقول: وكانت رسل الفاطميين من مصر تفد بالكتب والهدايا لأجل أن يكون من جهتهم فيحرق بهم ويحرق كتبهم وهداياهم، وكما تروي لنا كتب التاريخ فإن السلطان كان من أبرز المدافعين عن أهل السنة والمقاومين ضد أهل البدع والفرق المنحرفة. يقول جابر بن إدريس بن علي في كتابه “مقالة التشبيه وموقف أهل السنة منها”: وفي عهد مملكة محمود بن سبكتكين رحمه الله عز الإسلام والسنة ونشر العدل فكانت السنة وأهلها في أيامه ظاهرون والبدع وأهلها مقموعون.
وموقف السلطان الذي اتخذه ضد الشيعة هو الذي أغضب المؤرخين الشيعة وحرضهم على تشويه صورة السلطان محمود الغزنوي وتزييف تاريخه المستنير كما عبثوا على مر الدهور بصفحات التاريخ الإسلامي المجيد. ومن افتراءات المفترين على السلطان أنه كان مسيئا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومستهزئا به وكافرا بالآخرة، لكن لم نجد في كتب علماء أهل السنة التاريخية التي دوّنت فيها تفاصيل دقيقة عن أسرة السلطان وطابع حياته وقوته العسكرية وفتوحاته أي إشارة تدل على إساءة السلطان الغزنوي إلى النبي وكفره بالآخرة، وبعكس ما لفق بعض الكتاب بالسلطان من الطعن فقد ورد في كتاب “القرطاس” للإمام علي بن حسن العطاس ما ملخصه أن السطان محمود الغزنوي كان في أول عمره وأمره يقعد بعد صلاة الفجر يشتغل بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويصلي ثلاثمائة ألف صلاة حتى يرتفع النهار ويعقد الناس على بابه ينتظرون خروجه ويشق عليهم الانتظار لقضاء الحاجات وفصل الخصومات ونظام مصالح العباد.
ورغم محاولات بعض الكتاب لتشويه شخصية السلطان محمود الغزنوي فإنه لا يزال في ذاكرة التاريخ رجلا عظيما نادرا بين العظماء دون أن يتناوله كلام المفترين والمزيفين، ونختم هذا المقال بمقالة المؤرخ الهندوكي براساد في حق السلطان: إن محمودا ليعد في نظر المسلمين حتى اليوم غازيا ومجاهدا كبيرا آخذا على نفسه القضاء على الشرك في مهاد الوثنية، وهو في نفس الوقت عند الهنادكة طاغية مخرب حطم مقدساتهم ودمر معابدهم وآذى شعورهم الديني في كثير، ولكن المؤرخ المنصف حين لا يسقط من حسابه تقاليد العصر الذي كان يعيش فيه وسماته واعتباراته لا يسعه إلا أن يقرر أن محمودا كان زعيما بارزا من خيرة القادة والزعماء وحاكما وجنديا عبقريا من الطراز الأول اتصف بالعدالة ورعاية الفنون والعلوم فهو جدير بأن يعد من بين أعاظم الملوك.
(المصدر: مدونات الجزيرة)