الربيع العربي والدولة الراشدة
بقلم أ. د. حاكم المطيري
التفريغ النصي لكلمة ومشاركة أ.د. حاكم المطيري
في مؤتمر(واقع الأمة بين الربيع العربي والمشروع الغربي)
7/ 5/ 1438 هـ الموافق 4/ 2/ 2017م
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: أيها الحضور الكريم أحييكم بتحية الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
ونرحب بكم في مؤتمركم هذا الذي نستشرف فيه اليوم ونحن نعيش واقعنا، آفاق مستقبل أمتنا؛ وهي تمضي إلى موعود الله ووعد الله لها باستعادة سيادتها وحريتها، وتحقيق نهضتها، وإقامة دولتها ووحدتها، حيث تعيش شعوب الأمة عامة والعرب خاصة والربيعين العربي والتركي تحولًا تاريخيًا غير مسبوق منذ سقوط خلافتها، وانهيار دولتها، واحتلال أقاليمها في الحرب العالمية الأولى، وتكريس هذا الواقع بعد الحرب العالمية الثانية، وقيام دول الجامعة العربية تحت النفوذ الغربي الرأسمالي، ثم النفوذ الروسي الاشتراكي، وبلغ هذا النفوذ الخارجي أوجه بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، ثم باحتلال العراق، ثم في حصار غزة 2008 للإعلان وبشكل حتمي عن وفاة النظام العربي الرسمي.
لقد كانت الثورة العربية مطلع 2011 م استجابة طبيعيةً من شعوب العالم العربي تجاه انهيار المنظومة الوظيفية؛ التي شكّلها الغرب سياسيا، واقتصاديا، وعسكريا، وفشلها في تحقيق أدنى مستويات الإصلاح السياسي، أو الحفاظ على الحقوق والحريات.
حيث تحولت دولها إلى سجن كبير لشعوبها، يخضع فيها أربعمائة مليون عربي بكل صور العبودية والوثنية البشرية للأنظمة الدكتاتورية، حتى أصبحت مافيا سياسية واقتصادية في العالم العربي بعد حقبة كامب ديفيد، وتكاملت خلال ثلاثين سنة أو أكثر بشقيها العسكري الجمهوري، والملكي الدكتاتوري حتى صار موضوع التوريث في الجمهوريات انعكاسا لهذا التحالف، وأصبحت ظاهرة الأسر الحاكمة -وليست الأنظمة- هي الأبرز في العالم العربي في مشهد يستخف بالعرب من المحيط إلى الخليج.
لقد بلغ الاستخفاف بالأمة وشعوبها العربية أوجه حين خرجت وزيرة الخارجية الإسرائيلية ليفني، وجيشها يقصف غزة وشعبها سنة 2008 في ظل حصار عربي، وتواطؤ دولي لتقول: بأن إسرائيل، ودول الاعتدال العربي في خندق واحد لمواجهة التطرف والإرهاب، وكان المقصود بذلك حماس، وأهل غزة المستضعفين.
ولم يكن خندق المقاومة المزعوم أحسن حالا من خندق الاعتدال الموهوم؛ فقد كان النظام الصفوي بمشروعه الطائفي يتمدد في المنطقة العربية كالسرطان الذي يفتك في جسد الأمة؛ لتحالفه مع الاحتلال الأمريكي في أفغانستان والعراق واتخاذه قضية فلسطين والقدس، ومشروع المقاومة وسيلة لاختراق المنطقة وقوى المقاومة فيها، والتفاوض مع أمريكا لصالح مشروعه على حساب الأمة وتحرر دولها، وشعوبها.
لقد كان كل ذلك الانهيار هو النهاية الطبيعية للأنظمة الوظيفية والطائفية على حد سواء، وكان الحل هو الثورة العربية؛ التي زلزلت وما تزال تزلزل أركان النظام الدولي، ومجلس الأمن الذي لم يعد له قضية منذ الثورة العربية إلا شن الحروب عليها، وحصارها ومتابعة ساحتها، وعقد المؤتمرات تلو المؤتمرات -مؤتمرات الضرار- حولها، وكأنما العالم كله توقف عند هذا التاريخ حين نهض العرب.
لقد تغيّر العالم منذ تفجر الثورة العربية، ومازال يتغير بشكل عميق وجذري، ومازال مرشحًا لمزيد من التحولات التاريخية، ونحن على مشارف موجة الثورة العربية الثانية؛ التي ستكون جذرية وعميقة، وأشد قوة وأصلب عقيدة، لا كما يتوهم كثيرون بأن الثورة قد انتهت؛ وإنما هي الآن تستعد للموجة الثانية، والتي ستكون بلا شك جذرية.
فمازال العرب بعفويتهم، وفوضويتهم، وعاطفيتهم يواجهون الطاغوت الدولي، وهم يقدمون ملايين الشهداء والمهجّرين، حين استسلم العالم كله لهذا النظام الإجرامي؛ الذي صار المتحكم الأول في شئون العرب وبلدانهم كبيرها وصغيرها حتى لم يعد العرب ينتظرون في كل حدث قرار دولهم، ولا جامعتهم العربية؛ بل يصوبون أبصارهم إلى مجلس الأمن، وما يتخذه من قرارات بشأن مصيرهم، وحصار مدنهم، وشن الحرب عليهم.
أيها المؤتمر الكريم..
لقد جاءت الثورة قدرًا ربانيا، وربيعًا عربيًا فريدا من نوعه في تاريخ الثورات تجلّت فيه كل معاني النبل العربي في تونس، ومصر، واليمن. وعنيدًا عنيفًا تجلّت فيه كل معاني العزيمة والتضحية في ليبيا وسوريا. وسقط الطغاة وأنظمتهم واقعيا، وسياسيا، وأخلاقيا، ونجحت الثورة ما بين 2011 إلى 2013م، بأقل خسارة يمكن توقعها من ثورة تاريخية كالثورة العربية، واستبشر العرب من المحيط إلى الخليج بمستقبل واعد تتحقق لهم فيه الحرية والكرامة، وتعبر عن إرادتهم المسلوبة عقودًا طويلة في ظل الاستبداد والاحتراب، وهويتهم المطموسة في ظل الاحتلال والاغتراب.
لقد نجحت الثورة العربية باستعادة الوعي بالذات والهوية، وتعزيز الإرادة والإصرار على الكرامة والحرية، واستطاعت في الفترة ما بين 2011 و2013م، أن تواجه كل المؤامرات الداخلية والخارجية، وأن تفرض خيارتها على العالم كله؛ فأبى الله لهم أن يسودوا قبل أن تجري عليهم السنن ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾[البقرة:214].
وفجأة وفي صيف 2013 تغيّر المشهد في كل بلدان الثورة والربيع العربي، وحدث ما كان في الحسبان لمن يعرف السنن؛ سنن الثورات، وجاءت الثورة المضادة ليقضي الله أمرًا كان مفعولا، فأنقضّ المحتل الأجنبي، وحليفه الداخلي على الربيع العربي بكل همجية ووحشية؛ فكان الانقلاب العسكري في مصر، ومذبحة رابعة والنهضة؛ تعبيرًا عن طبيعة النظام العربي الرسمي الوحشي، الذي ظل يحكم المنطقة نيابة عن المحتل الخارجي منذ الحرب العالمية الأولى مدة قرن كامل.
لقد انتهت الدول العربية الوظيفية بأنظمتها وجيوشها -وبلغ الحال أن الجيش السوري العربي يشن حربه على شعبه ويفعل بالشعب السوري ما لم يفعله المحتل الخارجي- وتم استباحة عواصمها، ومدنها من كل شذاذ الأفاق، وبحملات صليبية صفوية صهيونية تدك حلب، والموصل، وتعز، وبنغازي، وتحاصر غزة وشعبها؛ ليقتل مئات الآلاف ويهجّر الملايين من العرب.
لقد آثرت الأنظمة الوظيفية إنفاق المليارات من ثروات الأمة، وإشعال الحروب الطائفية والصليبية، وجلب المحتل الخارجي على تحقق العدل والإصلاح الداخلي -في حين كان بإمكانهم أن يحققوا العدل والحرية، وينأوا بالمنطقة عن كل هذه الحروب، وجلب العدو الخارجي إلا أنهم أبوا إلا أن يمضوا في وحل الدماء- وكان القتل والانهيار أهون على هذه الأنظمة من الإصلاح والاستقرار ▬كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا﴾[المائدة:64].
لقد تحالف فجأة خندق الاعتدال وكامب ديفيد الوظيفي، مع خندق المقاومة الطائفي؛ لمواجهة الشعب السوري والعراقي، وحصاره، وتهجيره، وأنقضّ المشروعان اللذان طالما تحالفا على العالم العربي والإسلامي: المشروع الصليبي، والمشروع الصفوي، ومن يصطف معهما وفي خندقهما من الأنظمة العربية؛ في الوقت الذي –وللأسف- غاب فيه مشروع الأمة.
لقد كشفت الثورة العربية قدرة الأمة وطاقة شعوبها الكامنة التي أذهلت قوى الثورة نفسها فضلا عن العالم كله؛ حينما مضت في ثورتها بكل عنفوانها، وتجلت بأوضح صورها بثورة الشعب السوري الذي مازال يقدم مواكب الشهداء بعشرات الآلاف في مشهد أسطوري تاريخي؛ فلم تهن عزيمته، ولم يكل، ولم يمل؛ بينما تتململ فيه القوى السياسية المعارضة وتبحث عن المخرج والحل!
يا ثورة أذهلت من هولها الدولا *** يا ثورة وقف التاريخ يرقُبها
وأحيت المجد والإنسان والأملا *** وأدهش العالم المذهول ما حصلا
لقد أثبتت الثورة بأن الرهان على غير الأمة وشعوبها كان رهانًا خاطئا؛ فهي التي أسقطت الطغاة؛ وهي التي تقدم ملايين الشهداء، والجرحى، والمهجّرين، وهي التي انحازت للإسلام في خياراتها؛ وهي التي اختارت من تثق بهم من المصلحين؛ فكانت المفاجأة أنهم لم يكونوا على مستوى طموحها، ولا على مستوى الثورة وتحدياتها.
كما أثبتت الثورة قدرة الأمة وشعوبها على تجاوز كل العقبات التي وضعها المحتل الخارجي، وأنظمته الوظيفية؛ فلم تواجه مشكلة في المال والرجال، وأتاها العدو من حيث يجب أن تحتاط؛ فاخترقها عبر منظومات الدول الوظيفية، فلم يزل يحيك لها المؤامرات؛ حتى استطاع مؤقتا كبح جماح الثورة في موجتها الأولى، وتحييد قطاعات واسعة من علماء الأمة وجماهيرها وجماعاتها، وتصوير الثورة على أنها حربٌ طائفية وأهلية؛ لا معركة أمة تاريخية كبرى مع المحتل الخارجي وعميله الوظيفي الداخلي؛ فحقق العدو بمؤامراته سياسية، وحربه الإعلامية بما فشل في تحقيقه بالقوة العسكرية!
كما كشفت الثورة أكذوبة الغرب الديمقراطي، وشعارات الحرية وحقوق الإنسان؛ فقد كشف الغرب عن وجه قومي نازي، وروح صليبية عنصرية، وأثبتت أن مشكلة الغرب السياسي الحاكم ليس ضد بعض الإسلاميين؛ وإنما هو ضد ثورة الشعوب، وضد ثورة الأمة، وتحررها من نفوذه؛ وضد الإسلام نفسه؛ وعودته من جديد كنظام سياسي يعبر عن الأمة وهويتها، وشريعتها، وإرادتها.
وكما تجلت عزيمة الأمة، وعظمتها في الثورة العربية؛ فقد كشف الثورة المضادة أوجه القصور والخلل في أدائها وما يجب تداركه لاستعادة الثورة زمام المبادرة في الموجة القادمة
-وهي أقرب مما يتصورون بإذن الله، فنحن على مشارفها كما كنا على مشارف الموجة الأولى، وكان كثير من الناس يستبعد أن تحدث الثورة وحدثت، وكذلك اليوم هذه الموجة الثانية ستأتي، وستكون جذرية-.
ومن أوجه القصور والخلل:
أولا: غياب المشروع الفكري، وضعف الوعي السياسي لدى قوى الثورة لفهم واقعها المحلي والإقليمي والدولي -لا يتصور أن تثور الشعوب لتتحرر من النفوذ الغربي؛ ثم تأتي قوى من الثورة تريد أن تعيدها إلى النفوذ الغربي من جديد باسم القرارات الدولية والشرعية الدولية التي تحتل المنطقة- ودون أن تفهم الصراع بين الغرب والأمة، والعلاقة بين النظام العربي الوظيفي والطائفي اللذان تخادما بشكل واضح وجلي، وتحالفا ضد ثورة الشعوب العربية وتحررها، واصطف نظام السيسي الناصري، ونظام صالح القومي، ونظام بشار البعثي، ونظام إيران الشعوبي الطائفي في خندق واحد، وخلفهما دول الاعتدال العربي، ودول الممانعة والمقاومة -ولقد رأينا كل دول كامب ديفيد تصطف خلف بشار الأسد، والسيسي وإيران تصطف خلفه؛ ثم يتحدثون عن قوى مقاومة وممانعة، وقوى اعتدال عربي!- لقد استطاع النظام الدولي إرباك كل الساحات؛ ليفتح الطريق للمليشيات الطائفية، والجماعات المتطرفة، وقدّم لها كل أشكال الدعم؛ لتقوم هي بالفتك بالشعوب الثائرة نيابة عن الجيوش الوظيفية الخائرة.
ثانيا: فشل الرهان على المشروع الوطني والقومي وانهياره؛ فضلا عن مشاريع الجماعات والأحزاب لمواجهة مشاريع الأمم التي تتداعى، وتتصارع على المنطقة -لا يتصور بأي حال من الأحوال؛ ونحن نشهد هذا التداعي الأممي على الأمة، وعلى العالم العربي على وجه الخصوص أن نراهن على مشاريع وطنية وقطرية أثبتت فشلها، فالعراق كان أقوى قوة في الشروق الأوسط؛ لم يصمد أمام هذه الحملة أكثر من ثلاثة أسابيع، فأي رهان على دولة قطرية، أو وطنية لمواجهة هذه الحملة؛ هو رهان فاشل بلا شك، وإنما الأمة بشعوبها هي التي تستطيع أن توقف -بإذن الله- هذه الحملات الصليبية التي تشن عليها من جديد- وتحقق ما أخبر عنه النبي ﷺ: «تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَ؛ قالوا: أَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ، يا رسول الله؟ قَالَ: لا، بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ»، وضرورة بعث مشروع الأمة، وبلورته سياسيا وفكريا؛ ليتم فيه تحديد من هي الأمة؟ وما هو تعريفها لذاتها وللعالم من حولها؟ وما هي رسالتها؟
بعد أن رأت الشعوب العربية تداعي مشاريع الأمم عليها باسم الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والشرعية الدولية -ولم تكن سوى عصابات، ومافيا دولية تشن حربها عليها- التي لم تكن سوى أدوات في يد المحتل الأممي للسيطرة على العالم الإسلامي، وبعد أن رأت خطورة الدور التي قام فيه النظام الصفوي ومشروعه الطائفي؛ الذي قتل من الشعب السوري بتحالفه مع المحتل الروسي، ومن الشعب العراقي بالتحالف مع المحتل الأمريكي أكثر مما قتلت إسرائيل من العرب؛ وهو ما يعني -وهذا هو الأهم في هذه المرحلة من الصراع- إعادة تعريف مفهوم المقاومة نفسها التي استطاع المشروع الطائفي أن يوظفه، ويوظف القضية المركزية للأمة؛ وهي قضية القدس وفلسطين والأقصى؛ لاختراق المنطقة وقواها الإسلامية والقومية على حد سواء.
إن الأمة اليوم بل العالم في حاجة الإسلام وهداياته بعد أن بلغ هذا العالم الغاية في ماديته وضلاله، وطغيانه وانحلاله، وليس له العودة به إلى إنسانيته، وفطرته التي فطره الله عليها إلا بالإسلام؛ الذي عبرت عن حقائقه ورسالته دولة النبوة، والخلافة الراشدة كما قال ﷺ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ من بعدي عُضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ».
ثالثا: حاجة الثورة العربية لمشروع الدولة الراشدة، ولو على مستوى القطر-في أي قطر يتحرر يفترض أن تكون هناك رؤية لمشروع الدولة الراشدة؛ وليس مشروع الدولة بالمقاييس الغربية الذي تفرضه قوى الخارج- التي تعبر عن الأمة وشعوبها بعد تحررها في كل قطر من أقطارها؛ لتعيد صياغة هويتها، وتحقق سيادتها كخطوة على طريق وحدتها ونهضتها؛ تلك الدولة التي تستمد شرعيتها من إرادة شعبها -وليس من المفاوضات في الخارج، والمحاصصة بين القوى- لا من الخارج الذي يحتلها ويتحكم بها، ويحدد تقاسم السلطة بين فئاتها، ومكوناتها كوصي عليها -وهو مظهر من مظاهر الاحتلال بلا شك، لماذا نحن الأمة الوحيدة التي لا تُشكّل فيها السلطة إلا في جنيف أو في باريس أو في لندن، وتعقد لها المؤتمرات؛ بينما كل شعوب العالم تختار حكوماتها دون أن يتدخل في شأنها أحد!-
إن الدعوة إلى الدولة الراشدة التي تعبّر عن هوية الأمة ونظامها السياسي الإسلامي، والدعوة إلى الحكومة الراشدة التي تعبّر عن إرادة شعوب الأمة باختيار السلطة التي تحكمها، وتدير شؤونها، وبلورة ذلك في مشروع سياسي راشد؛ هو المخرج من أزمة الأمة التاريخية منذ سقوط الخلافة العثمانية؛ والتي لا تعرف في تاريخها وفكرها إلا الخلافة الراشدة كنموذج للحكم الإسلامي الأمثل، حيث ظلت وفي ظل كل الأنظمة السياسية الوضعية والوضيعة التي فرضها الاستعمار الخارجي بمعسكريه الغربي الرأسمالي الليبرالي، والشرقي الاشتراكي؛ تعيش حالة اغتراب واحتراب، فهي تريد نظاما يعبر عن هويتها ودينها ويصل حاضرها بماضيها؛ وهو ما عجزت عنه -وللأسف- وعن بلورته القوى الإصلاحية الحركية والسياسية حين غاب الفقه، والفكر، والابداع، أمام حالة الاستلاب، والانبهار، والاغتراب؛ لتتحطم أشواق الأمة بعودة الإسلام من جديد على صخرة عجز حركاتها الإصلاحية بدعوى الواقعية السياسية عن بلورة مثل هذا المشروع.
رابعا: أهمية معرفة وسائل المحتل الخارجي وأدواته التي يستخدمها -بما أننا ونحن على مشارف موجة ثانية من الثورة يجب علينا جميعا أن نستفيد مما حصل من اختراقات، ومن خلل في الموجة الثانية، وأن لا تتكرر مثل هذه الأخطاء- إذ استطاع العدو إرباك مشهد الثورة في ساحاتها سياسيًا، وعسكريًا، وأمنيًا، ومعرفة طبيعة الحرب الوظيفية والحرائق التي يشعل بها المنطقة؛ ليوقف ثورة شعوبها -فلا إشكال عند النظام الدولي ولا عند الدول الوظيفية أن تستمر الحرب خمس سنوات، بين قوى كلها وظيفية؛ وذلك لإخراج الثورة من المعادلة؛ ليعيد النظام الدولي ترتيب القوى الذي يريد لها أن تحكم المشهد في المستقبل-.
خامسا: كشفت الثورة المضادة هشاشة الحالة الدينية بكل منظوماتها التقليدية والحركية والعسكرية، وقدرة النظام العربي الرسمي، والنظام الدولي على توجيهها، واستخدامها، فتحولت المؤسسات الدينية وشيوخها إلى أداة بيد الانقلاب العسكري في مصر وسوريا، وتم تجنيد مشاهير الدعاة في العالم العربي لتجييش الرأي العام ضد الثورة لصالح الثورة المضادة، واصطفت جماعات دعوية، وأحزاب حركية وسياسية خلف الثورة المضادة، وتكرر المشهد في كل ساحات الثورة حتى بلغ أوجه في الانقلاب العسكري في تركيا، ومؤتمر الشيشان؛
-وكان واضحا أن مؤتمر الشيشان قد حُضّر لمباركة الانقلاب في حال نجاحه في تركيا-.
لقد صارت الأنظمة الوظيفية تستعين على إدارة دولها، ومجتمعاتها بجماعات، وأحزاب وظيفية، وكانت الانتخابات البرلمانية أحد أخطر أدواتها لاحتواء المعارضة وضمها إلى منظومة السلطة والإثراء غير المشروع -فلا يحتاج أي نظام عربي وظيفي إذا واجه أزمة مع شعبه إلا أن يفتح طريق لانتخابات صورية، ويسمح للقوى بالمشاركة؛ فإذا هو يعيد إنتاج نفسه من جديد- ليتحول المصلحون شيئا فشيئا إلى جزء من نظام وظيفي تدور عجلته في الدولة وفي المجتمع نحو الفساد، والاستبداد، ثم الانهيار -فما حدث في اليمن هو نتيجة طبيعة للتحالف بين هذه القوى؛ فمنذ ثلاثين سنة وللأسف كان المصلحون والإسلاميون هم حلفاء النظام الديكتاتوري حتى انهار المجتمع بكل مكوناته- ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ﴾[إبراهيم:45]، ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء:123].
سادسا: غياب التعاون والتنسيق، وهذا أحد أوجه القصور الخطيرة بين قوى الثورة في كل الساحات العربية لمواجهة الثورة المضادة التي تقف في خندق واحد ضد تحرر كل شعوب الأمة في بلدانها؛ فقد كان من أبرز وجه القصور والخلل عدم إدراك طبيعة المعركة، وامتداد ساحتها؛ وأنها ثورة أمة واحدة تعيش أزمة واحدة، وتحكمها منظومة واحدة، ولا يمكن تغييرها بعمل قطري أو وطني؛ بل بعمل أممي يمتد امتداد ساحات الثورة، والثورة المضادة معًا من المحيط إلى الخليج؛ وهي إحدى العقبات أمام التحرر العربي، وهو خضوع الشعوب لعشرين دولة ودويلة تقع تحت النفوذ الغربي مما يجعل مهمة تحريرها، وتحررها أصعب بعشرين ضعفًا من تحرر أي أمة وشعب آخر -وهذه أحد أكبر الإشكاليات أمام العالم العربي فالانقلاب الذي حصل في مصر لم يكن انقلابًا داخليًا؛ وإنما كان انقلابًا خارجيًا على الشعب المصري وإرادته التي اختارت النظام الذي يعبر عن سيادته؛ فكان الخطر من المحيط، وليس من الداخل-.
سابعا: خطورة غياب المبادئ الأخلاقية، وضرورة استعادة القيم السياسية النبوية والعمرية، فالثورات التي أحدثت التغير العميق في تاريخ العالمي كله، هي تلك الثورات التي ترتكز على أساس مبادئ، وأخلاقي، يجعل من التضحية بالنفس والمال والرفاه الطريق لعلو المثل والقيم التي تؤمن بها.
ثامنا: القصور في معرفة سنن التدافع والتغيير المجتمعي، وأنها لها قانون لا يحابي أحدًا، ولا يتخلف أبدًا لخوض معركة كبرى فكرية وسياسية ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾[الأحزاب:62]، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾[القصص:5] -هذه سنن تجري على الأمم جميعا، ونحن لسنا ببدع من الأمم فالبكائيات، والكربلائيات التي بدأت في وسائل الإعلام العربي، والقنوات الفضائية لتتحدث عن المأساة هنا وهناك؛ لتحويل الأنظار والأبصار عن الاحتلال الأجنبي، والأنظمة الوظيفية، وجرائمها في المنطقة إلى القضايا الإنسانية مع أن ما قدمناه في العالم العربي لم يصل حتى الآن إلى واحد بالمائة من تعداد أربعمائة مليون عربي؛ في الوقت الذي ضحى الشعب الفيتنامي البوذي بنصف عدده بين قتيل ولاجئ؛ وقدمت أوروبا في الحرب العالمية الأولى والثانية: ربع إلى ثلث السكان ومُسحت أوروبا عن الخريطة بمدنها، وحضارتها إلا أنها آثرت أن تستعيد إنسانيتها وحريتها؛ بينما لم يقدم العرب حتى الآن واحد بالمائة من أربعمائة مليون عربي؛ ليتحرر من كل إشكال النفوذ الخارجي-.
تاسعا: الحاجة إلى الإيمان العميق الراسخ بوعد الله لهذه الأمة بالنصر والتمكين كلما ضعفت واختل أمرها كما قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾[النور:55]؛ ولقوله تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾[الفتح:28]؛ وكما جاء في الحديث: «بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ؛ وَيَظَهَرُ كَمَا ظَهَرَ» –بإذن الله-وكما في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أمر دِينَهَا».
عاشرًا: ضرورة استنهاض طاقات الأمة كلها الحركية، والسياسية، والفكرية، والجهادية، والدعوية، والتأليف بينها، ورص صفوفها للمشاركة في حركة التجديد الراشدة على مستوى الأمة كلها، وتجاوز كل أشكال العصبية الوطنية والقومية والحزبية، واستعادة مفهوم الأخوّة الإيمانية، ومفهوم الأمة الواحدة؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنفال:62]؛ والتوكل على الله وحدة لا شريك له، وتحقيق التوحيد القرآني؛ كما قال في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5]؛ فلا رهان على الأمم المحتلة، ولا مجلس الأمن، ولا الجيوش الوظيفية، ولا العروش، ولا الجماعات؛ بل الأمل بالله وحدة ثم بهذه الأمة المنصورة المرحومة بكل شعوبها ومكوناتها كما قال تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾[النساء:81]؛ وأنها لثورة حتى النصر –بإذن الله- ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ﴾[الحج:40]، والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
……
مدير الجلسة الثانية في مؤتمر (واقع الأمة بين الربيع العربي والمشروع الغربي) م. محمود فتحي: الدكتور حاكم المطيري؛ أحد أشهر من نظّر لثورات الربيع العربي قبل ثورات الربيع العربي في كتابه الشهير في الألفينات أو مطلع الألفينات “الحرية أو الطوفان” حيث أدركنا أن الطوفان هو حراك هذه الشعوب التي تريد أن تحصل على الحرية؛ وإذا كان قُدّر أن تكون طليعة الثورات المضادة من جزيرة العرب، وكذلك قَدّر الله –عز وجل-أن يكون من منظري هذه الثورات وداعميها من جزيرة العرب، تفضل دكتور: حاكم المطيري، وكلمة أو بحث بعنوان: (الربيع العربي والدولة الراشدة)، وأرجو أن يكون الجميع قد حصل على نسخة من هذه الورقة، فليتفضل مشكورًا.
أ.د. حاكم المطيري: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الورقة التي بين أيديكم تتحدث عن الأزمة التي نعيشها جميعا، فقد كنا نحلم بالثورة التي تغيّر هذا الواقع، فحدثت الثورة، ثم تفاجئنا بأن الأزمة الأخطر هي ما بعد الثورة، وطبيعة النظام الذي يفترض أن نقيمه بعد إسقاط هذه المنظومة الوظيفية التي أقامها الغرب، وكانت الإشكالية هي في الاختلاف والتباين في نظرتنا إلى البديل.
هل يوجد نظام سياسي في الإسلام؟
وأن نطرح هذا السؤال، هو في حد ذاته أزمة!
وهي الأمة التي سادت العالم 1300 سنة بنظام سياسي له أركانه وشروطه، وسواء اتفقت أو اختلفت معه ليست هنا المشكلة؛ بل المشكلة أن يقال: لا يوجد أصلا نظام سياسي في الإسلام!
ثم إذا تجاوزنا قضية أنه لا يوجد نظام سياسي في الإسلام، نسأل:
ما هو البديل؛ هل البديل هو ما يفرضه العدو الخارجي؟
ما النظام السياسي؛ الذي يعبّر عن إرادة شعوب الأمة، وليس عن إرادة الغرب المحتل؛ ليعيد إنتاج الأنظمة الوظيفية من جديد بنفس النظم التي فرضها سواء النظم الاشتراكية أو الديمقراطية الغربية؟
هذه الورقة التي أمامكم تحاول أن تجيب عن هذه الأزمة، وقد حاولنا بلورة هذه القضية برؤية؛ من الدولة الراشدة أو من الحكومة الراشدة إلى الخلافة الراشدة؛ فهناك نظام اسمه “الخلافة الراشدة” وهذه الخلافة ليست من بنات أفكار أبي بكر الصديق أو الخلفاء الراشدين، ومن يتصور هذا؛ هو يواجه إشكالات في الإجماع؛ إجماع الصحابة على طبيعة هذا النظام، ويواجه إشكالات في النصوص المتواترة.
وقد وصل بنا الحال أن يخرج علماء ودعاة وفي جزيرة العرب يقولون للناس: مصطلح الخلافة لا وجود له أصلا في السنة النبوية! بينما في الصحيحين قال النبي ﷺ حين تحدث عن النظام السياسي الذي يسوس الأمم «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، فأوفوا بيعة الأول فالأول»؛ وهنا حدد طبيعة النظام ما بعد النبوة.
وفي الحديث الأخر في صحيح مسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني منهما»؛ يعني لا يوجد تشرذم وجاهلية، ودول متعددة في الإسلام؛ وإنما أمة واحدة، وأرض واحدة، وسلطة واحدة؛ هذا هو الإسلام؛ نقبله أو نرفضه؛ موضوع آخر، يناسب هذا العصر أو لا يناسبه؛ موضوع آخر. لكن أن نكابر وينتهي الحال أن يُقال أنه في الألف والثلاثمائة سنة لا يوجد نظام سياسي في الإسلام، وكل ما هنالك أن الإسلام جاء بمبادئ كالعدل والحرية…إلخ، ثم لم يفصل لنا في الأحكام!
وهناك من يقول: أن الإسلام يسمح بالدولة الوطنية وتعدد الدول!
على هذا ما الذي يمنع أن نجعل جزيرة العرب عشرين دولة، أيش المشكلة؟
إذا كان لا يوجد في الإسلام ما يحرم دولة وطنية بحدود جغرافية، وكل دولة تأتي بقواعد أجنبيه أيضا جائز، ثم نكتشف أننا أمام حقل ألغام لا يحل أزمات!
والسبب في ذلك كله هو الهزيمة النفسية، وأن الغرب وضع خطا أحمرا على قضية النظام السياسي في الإسلام وهو الخلافة الذي –وللأسف- بسبب الهزيمة النفسية زهد به أولياءه، وأحق الناس به!
وتكمن قوة مشروع “الخلافة الراشدة” وخطورته وأهميته، وقوة أساسه:
أولا: أنه قضية إجماعية في الفقه السني الذي يمثل تسعين بالمائة من الأمة، فالخلافة قضية إجماعية ليست قضية خلافية.
في الوقت الذي نجد مثلا نظرية خيالية حديثة، كنظرية ولاية الفقيه التي رفضتها المراجع الشيعية واعتبرتها نظرية تصطدم بنظرية المهدي المنتظر؛ إلا أنه مع هذه الإشكالات بُلورت النظرية كمشروع سياسي مع أنها نظرية خرافية! فهي تتحدث عن ولي منتظر ينوب عنه ولي فقيه، في البداية جعلوه ينوب عنه ولاية جزئية لأخذ الخمس ثم طوروها إلى ولاية عامة على الشعب الإيراني؛ حتى وصل إلى مشروع يتمدد وفق نظرية سياسية ليس لها تاريخ، ولا إجماع، ولا نص؛ ومع ذلك أصبحت واقعا! في الوقت الذي نأتي إلى الخلافة وهي ليست نظرية بل هي أصل من أصول الدين؛ تجدها مقررة في كتب أصول الدين بباب الخلافة، والإمامة وشروطها؛ وتجدها قضية إجماعية في الفقه، وتجدها قضية غاية في الوضوح بالنص في الأحاديث النبوية؛ كما في قوله ﷺ: «خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة» ، وقوله: «يكون خلفاء فيكثرون»، وحديث: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني منهما»؛ أيضا في الصحيح: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة » إلى أن قال: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة»؛ وهي أحاديث تتحدث بوضوح عن الخلافة كنظام؛ ولهذا لم يجد الصحابة إشكالية في أول ساعة بعد وفاة النبي ﷺ من حسم القضية، فلم يدخلوا في جدل وصراع كيف سيكون النظام السياسي؟ لأنها قضية واضحة، فهي قضية إجماعية.
الأساس الثاني: أنه يمثل النموذج الأمثل في تاريخ الأمة كلها؛ نموذج الخلافة الراشدة؛ فقد ظلت الخلافة الراشدة هي النموذج حتى في فترة الخلافة العامة التي سقطت قبل مائة سنة، لا يستطيع أحد أن يتحدث إلا عن سنة أبي بكر وعمر، تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي»؛ هنا قد يأتي من يقول: هذه الأحاديث آحاد فلا نقبلها، نقول: دع عنك هذا، تجد في القرآن ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة:100]، ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[النساء:115] وهم الصحابة؛ فهذه قضية إجماعية من الصحابة. زد على هذا أن عبدالرحمن بن عوف عندما حسم الخلاف بين علي وعثمان في موضوع من سيكون الخليفة واستشار أهل المدينة حتى دخل على النساء في الخدر يسألهن في شأن عثمان وعلي؛ قام وقال: (يا علي إني نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان أحدا فلا تجعل على نفسك سبيلا)، انتهى الموضوع، وحسم الاستفتاء، أن الأكثرية يريدون عثمان، فقال: (نبايعك على الكتاب والسنة؛ وسنة الشيخين من قبلك)؛ فبايع الصحابة على هذا الشرط. ما الذي يجعل الصحابة يبايعون عثمان، ويشترطون سنة الشيخين من قبله؟ لولا أن القضية بالنسبة لهم من الوضوح بهذا المكان، وفي الحديث: «اقتدوا بالذين من بعدي: أبوبكر، وعمر»؛ وذلك لخصوصية سنن الشيخين في حال تعارض سنن الخلفاء الراشدين مع سنن أبي بكر وعمر.
ففي النص، والإجماع، والتجربة التاريخية ألف وثلاثمائة سنة لا يوجد إلا نظام الخلافة ولا تعرف الأمة إلا الخلافة، حتى الحضارة الإسلامية تشكلت في ظل هذا النظام السياسي الإسلامي؛ وقد طُمس تاريخ هذا النظام، وحصل الاختزال الخطير والخلل الكبير في تصور أن الخلافة هي مجرد الخليفة وأنه إذا تمت بيعته قامت الخلافة، وهذا اختزال في غاية الخطورة، واستخفاف بالنظام الذي استطاع أن يحكم العالم الإسلامي 1300 سنة؛ وله أصول وقواعد؛ وإلا ما الذي يجعل يوسف بن تاشفين وهو يوحّد المغرب العربي أن يبعث ببيعة إلى الخليفة في بغداد؛ وهو أكثر قدرة وسلطانا من الخلافة لولا أن هناك نظام قائم يحكم الجميع، وفي المقابل يوسف صلاح الدين يبعث بالبيعة إلى الخليفة في بغداد وهو يوحّد المشرق؛ وذلك لأنه يوجد نظام سياسي إسلامي قائم لا تُكتسب الشرعية إلا من خلاله. فلا يمكن اختزاله، وطمسه على أنه دول كثيرة، وهو لم يكن كذلك، بل ظلت أمة واحدة، ودولة واحدة؛ فدولة بني أمية لا تختلف عن دولة بني العباس؛ وإنما جاءت التسمية بمعنى الفترة؛ وعندما يقال: دولة بني أمية؛ أي: دالت إليهم السلطة في نفس الدولة، ونفس الدار، ونفس الأمة، والجيوش نفسها كانت في الثغور كما هي تحمي الدولة.
أيضا من الأسس التي يتركز عليها هذا المشروع:
- أنه لم يجد إشكالية في التطور؛ ومواكبة احتياجات الأمة، فالخلافة كنظام سياسي عرف الخلافة المركزية، في العصر العباسي الثاني، وعرف الخلافة والوزارة؛ فتقدمت الإدارة ورجال الإدارة والعلم، وأصبح لهم نفوذ، وصعدت الوزارة؛ والوزارة هي إدارة في الخلافة ومؤسسة من مؤسسات الدولة؛ ثم تطورت بعد ذلك وتقدم رجال الحرب والجيش فأصبحت هناك السلطنة، وللخلفية صلاحيات، وللسلطان، وللأمير، والوزير، وهذه كلها مفصّلة؛ ثم تطور النظام إلى أن وصل إلى الصدر في الدولة العثمانية، والمبعوثان الذ هو البرلمان العثماني، والمشروطية: الدستور العثماني، ومجلة الأحكام العدلية؛ وكانت الأمة تتطور بشكل طبيعي؛ لكن كل ذلك كان في ظل نظامها السياسي الذي تؤمن به ويعبر عن هويتها، ولم يعترض عالم من علماء آنذاك على هذا التطور الذي وصلت له الدولة العثمانية؛ فهذا النظام لم يجد إي إشكالية في أن يتطور بتطور العصر؛ لكن المشكلة كانت مع حملة صليبية كبرى أسقطت النظام السياسي الإسلامي وانهار.
وكانت الإشكالية بعد ذلك أنه إذا تحررت أي أرض من بلاد المسلمين لا يمكن إقامة الخلافة عليها؛ وذلك لأن الخلافة في أبسط تعاريفها الفقهية، والتاريخية أنها رئاسة عامة على الأمة، أو أكثر أمة، فإذا فقدت هذا الشرط لا تكون خلافة، إذن نحتاج أن نحل مشكلة القطرية التي أصبحت واقعا في حال ما إذا تحررت أي دولة، فندعو إلى الدولة الراشدة، والسلطة الراشدة، والحكومة الراشدة؛ التي تقوم على كل أسس الخلافة الراشدة؛ إلا أنها تفتقد شيئا واحدا وهو أنها ليست رئاسة عامة على الأمة، بل هي رئاسة على بعض الأمة في قطر من أقطارها؛ لكنها تستلهم أصول وأحكام وهدايات الخطاب الراشدي؛ وهي سنن الحكم.
وهنا لا يقال استخفافا بهذه الدعوة: لن ترجع سنن أبي بكر وعمر حتى نكون مثل أصحاب أبي بكر وعمر!
نقول: كيف استطاع الغرب وشرق آسيا البوذية الاهتداء إلى هدايات العدل والمساواة بنفس سنن عمر في الرقابة على المال، وفي حق الشعوب في اختيار من يحكمها!
إن هذه سنن أوجب الشارع الأخذ بها في كل زمان ومكان «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور».
أيضا من أسس قوة الخطاب الراشدي:
- أن له بريقا وصدى في المخيال الشعبي، فعندما تُحدث الناس عن أبي بكر وعمر، ستجد كيف يتفاعل الجمهور؛ بخلاف ما إذا حدثتهم عن ماركس، ولينين والعقد الاجتماعي! وعندما تتحرر الأمة ستجد أن من يؤمنون بالخلافة أكثر ممن يؤمنون بالديمقراطية، كيف تحل الأزمة معهم؛ هل ندخل في صراع لأنك فقط أردت الديمقراطية، بل نطور ونبلور مشروع يحقق لنا ما تصبو إليه الأمة من حرية وعدل؛ والإسلام لا يحتاج أصلا أن يُفتأت عليه في هذا الباب، فهو الذي جاء بالتوحيد الذي حرر الإنسان من كل أشكال العبودية لغير الله بما فيهم الرؤساء، والملوك، وهذه قضية أخرى، لكن لا تأتي إلى أمتك وشعبك وتقهرهم كما قهرهم الخارج وتفرض عليهم الديمقراطية، وهذا ومن أشد أنواع الإكراه، يكفي أن العدو يشن حملاته الصليبية لذلك؛ ثم يأتي منّا من يريد أن يُكرهنا حتى يقنعنا بالديمقراطية الغربية التي فعلت في شعوبها ما فعلت؛ وإنما نحن نريد حرية؛ نريد العدل والمساواة، نريد حق الأمة في اختيار السلطة، وكل ما تقرر من حقوق الأمة في ظل الخلافة الراشدة؛ يتقرر لها في ظل الدولة الراشدة، ومن ذلك:
- حق الأمم في اختيار السلطة ابتداءً، لا أحد يفتأت عليها في هذا.
- السيادة؛ وتجلي السيادة، ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾[النساء:141]، فلا يمكن أن نتحدث عن دولة راشدة، وهي تفتقد للسيادة على أرضها، وعلى شعبها، ويتدخل السفير الأمريكي، ويقسّم السلطة بين مواطنيها، ويقال: نحن دولة ديمقراطية بدليل أن اللجان جاءت من أمريكا وكارتر يشرف عليها والحمد لله الجميع شهد لنا بالديمقراطية، ما هذا؟! هل توجد لجان منا تراقب انتخاباتهم هم؟ بل هذا بلا شك مظهر من مظاهر فقدان السيادة؛ الذي هو أهم من حق الشعوب في اختيار السلطة، حماية الشعوب وسيادتها، نحن تنازلنا عن هذا؛ فالمهم أن يصوت الناس في الصناديق الوهمية، كما فعل علي صالح والصندوق في حوزته، والمفتاح في جيبه، فلا خوف على الديمقراطية! ونخدع أنفسنا، ونخدع شعوبنا، ونمارس التضليل! كفى تضليلا! العدو يفرض إرادته؛ ويضع لنا المحددات؛ ونحن نعبث!
فللأمة كل ما تقرر من حقوق: السيادة، حق الأمة في اختيار السلطة، العدل، المساواة، حق الأمة في مراقبة السلطة وعزلها؛ وكل هذا تقرر بأدلة قطعية.
ولا أحد يستطيع أن ينكر في أن هذا كله تقرر في عهد الخلفاء الراشدين؛ وإنما يستصعبون استيعاب تنزيله على الواقع لا لشيء إلا أن الغرب لا يريد هذا!
- كذلك ما تقرر من سنن الخلفاء الراشدين في الأموال؛ وكان قد زارنا سفير ألمانيا، وأخذ يحدثنا عن القانون الألماني في مراقبة الأموال، وإذ هو يحدثنا عن سنن عمر في الأموال، فقلت له: كل ما تتحدث عنه -وللأسف فقدناه- هو سنن عمر عندنا في الأموال! كيف اهتدوا وحولوها إلى رؤى سياسية، ومشاريع سياسية، وقوانين؛ ونحن فرطنا فيها على هذا النحو!
- وطبعا لا يمكن أن تكون دولة راشدة، وهي لا تؤمن بالوحدة والتقارب مع دول الأمة المجاورة.
- وكذلك لا يمكن أن تكون الدولة راشدة، وهي لا تحقق التنمية، والتطوير والنهضة؛ قال عمر: (لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها)؛ فهذه من مسؤوليات الإمام، ومسؤوليات السلطة؛ ونحن للأسف فرطنا في هذا؛ وقلنا توجد تجربة إسلامية في السودان لنكتشف طوال 35 سنة أنه لا فرق بين تجربة السودان، وليبيا، وتونس، وحزب الله كلها تجارب للأسف؛ لم تحقق للأمة شيئا.
طبعا هناك أسس فلسفية -تجاوزا- أو أسس عقائدية، فلم يفترض أن تتكامل الدولة الراشدة مع من حولها من الأقطار؟ لأن من أصول الإيمان والتوحيد: وحدة الأمة، ووحدة المرجعية، فهي مرتبطة بهذا النظام السياسي عبر عن أصول عقائدية -الوقت لا يسع للبيان لكن تفصيله موجود في كتاب تحرير الإنسان وغيره-.
تحديد طبيعة السلطة في النظام السياسي الإسلامي، كما قرر الفقهاء أنها سلطة تنفيذية، قال عمر بن عبد العزيز: (إنما أنا منفذ)؛ أي ليس بمشرع، فطبيعة السلطة في الإسلام كانت واضحة…
- طبيعة أن السلطة عقد بين الأمة والإمام كان قضية رئيسية ومركزية.
- مشروعية السلطة نفسها الذي فرطنا فيه حتى أصبحنا نضفي الشرعية على كل نظام موجود في المنطقة؛ لا يكاد يوجد نظام وإلا وتجد من يعترف بشرعيته؛ بينما يقول مالك -رضي الله عنه-: (الإمام لا يكون إماما أبدا إلا على شرط أبي بكر الصديق –رضي الله تعالى عنه-فإنه قال: “وليتكم وليس بخيركم”-إلى أن ذكر- “فإن أساءت فقوموني، وأن أحسنت فأعينوني”-قال:- لا يكون الإمام إماما إلا عن شرطه) وهذه شرعية السلطة؛ ولما سئل عن قتال الخوارج قال: (إن كان الخليفة كعمر بن عبد العزيز فقاتل معه، وإن كان هؤلاء الظلمة فلا) لأنه يجب أن يكون هناك مشروعية لوصولك للسلطة للحكم.
- وكذلك الفصل بين السلطات؛ وهذا أمر واضح، وفي الورقة من كلام الفقهاء ما يؤكد بأنه ليس للخليفة أو السلطان؛ سلطان على القاضي ولا يستطيع أن يعزله.
- استقلال القضاء..
إلى آخر ما هنالك من أصول وأحكام وهي ليست فقط أصول؛ بل أحكام تفصيلية للدولة الراشدة، إلى أن نصل إلى الخلافة الراشدة كهدف إستراتيجي للأمة يومًا ما.
واكتفي بهذا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.
……….
الورقة المرفقة: معالم الدولة الراشدة
المصدر: موقع د. حاكم المطيري