الدراسات الاستشرافية في العالم الإسلامي (الجزء 2 من 5)
الحديث عن المستقبل[3] من منظور شرعي:
عندما يذكر القرآن تداولَ الأيام، فإنما يبذر في نفس المسلم إحساساً عميقاً من اليقظة التاريخية المستقبلية. وقصص الأنبياء في القرآن هي إعلام بما ستراه هذه الأمة بعد عصر الرسالة، وعندما قال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك)، إنما كان يبني على التجربة المستخلَصة في تاريخ دعوة الأنبياء، وقد بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتح بلاد كسرى وقيصر، وكان المسلمون يومئذٍ في قلة مع المكابدة للأعداء من كل جانب.
إن هذا العلم الذي يسمونه (المستقبليات) ليس غريباً على الثقافة الإسلامية؛ فقـد كتب ابن خلدون عن (علم العمران) وذكر من فوائده: (يعرِّفنا بما هو واقع ومنتظَر)؛ فالذي يتقن هذا العلم برأي ابن خلدون يمكن له أن يستشرف ويتوقع القادم.
والأصل العام في الشريعة جاء مقرِّراً إثبات المصالح للمكلَّفين في الحاضر والمستقبل، كما يقول الشاطبي: «إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً».[4]
ومن تأمَّل سنن الحياة فإنه يدرك قوانينها الثابتة التي لا تنخرم عند تكامل موجباتها السببية؛ لذا وجب على المسلم أن يدافع القدر بالقدر من خلال فهم تلك النواميس الثابتة والعمل على مقتضاها الشرعي، في شيوع الظلم -مثلاً- مؤذن بخراب المجتمعات ونزوعها للثورات، ومن أجل تفادي وقوع هنا القانون الإنساني وجب على أهل الحلِّ والعقد المحافظة على موازين الحق والعدل من باب دفع الأقدار بالأقدار، وهي لا شكَّ استلهام عملي لتفادي توقُّعات المستقبل.
وسِيَر الأنبياء وشرائعُهم نماذج حيَّة مليئة بالشواهد الاستشرافية للمستقبل الذي كانوا يتصورون وقوعه؛ فهذا نوح -عليه السلام- أمضى ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو قومه، وحين رأى بحكمته ونفاذ بصيرته أن لا فائدة تُرجى منهم دعا على قومه قائلاً: {إنَّكَ إن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27]. فكانت الرؤية المستقبلية واضحة عند نوح -عليه السلام- لذا كان القرار بالدعاء عليهم حكيماً لعدم توقُّع الإيمان منهم ولعِظم الضَّرَر من وجودهم، واستجاب الله -عز وجل- لدعائه. والمثل المشابه والمعاكس هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـمَلَك الجبال الذي أراد أن يُطْبق الأخشبين على أهل الطائف: «بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً» نظراً لتوقع الإيمان من ذراريهم في قادم الأيام.
وهذا يوسف -عليه السلام- فعندما فسَّر رؤيا العزيز بوجود كارثة اقتصادية في البلاد وحصول المجاعة، فقد قام بالتخطيط المستقبلي للخروج من هذه الأزمة بخطة مُحْكَمة لمدة خمسة عشر عاماً تنجو فيها البلاد من كارثة المجاعة. وقد قصَّ القرآن الكريم وقائعها في سورة يوسف، عليه السلام.
يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله- في أهمية اعتبار هذه القاعدة عند النظر والاجتهاد: «النظر في مآلات الأفعال معتَبَرٌ مقصودٌ شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعاً لمصلحة قد تُستَجلَب أو لمفسدة قد تُدرَأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدَّى استجلابُ المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من انطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدَّى استدفاعُ المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصحُّ إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجال للمجتهد صعب المورد؛ إلا أنه عَذْب المذاق، محمود الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة».
الدراسات المستقبلية وعلم الغيب:
إذا كان الإحصاء من دلائل الطريقة العلمية، في التخطيط كذلك، بل هو أوضح دلالة عليها، والتخطيط إنما يعتمد على الإحصاء. ويراد بالتخطيط وضع خطة لمواجهة احتمالات المستقبل وتحقيق الأهداف المنشودة.
وفي القرآن الكريم قصة جعلها الله عبرة لأولي الألباب، وهي قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- وفيها يذكر القرآن لنا مشروع تخطيط للاقتصاد الزراعي لمدة خمسة عشر عاماً لمواجهة أزمة غذائية عامة، عرف يوسف -عليه السلام- بما ألهمه الله وعلَّمه من تأويل الأحاديث أنها ستصيب المنطقة كلها، وقد اقترح يوسف -عليه السلام- مشروع الخطة ووُكل إليه تنفيذها، وكان فيها الخير والبركة على مصر وما حولها: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ 47 ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ 48 ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 47 – 49].
التخطيط والتوكل على الله:
بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن التوكل على الله لا يعني اطِّراح الأسباب أو إغفال السنن، التي أقام الله عليها نظام هذا الوجود، ولا يكاد مسلم يجهل قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وترك ناقته أمام المسجد قائلاً: يا رسول الله! أعقل ناقتي وأتوكل أم أطلقها وأتوكل؟ فقال له: «اعقلها وتوكل»[5].
وقال الإمام الطبري يرد على من زعم أن تعاطي الأسباب يؤثر في كمال التوكل: «الحق أن مَنْ وَثِقَ بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماضٍ، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعاً لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم بين درعين ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشُّعَب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادَّخر لأهله قُوْتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك» أ هـ[6]
التخطيط للمستقبل في سيرة الرسول:
من قرأ سيرته صلى الله عليه وسلم وجد أنه كان يُعِد لكل أمر عدته، ويهيئ له أسبابه وأُهبَته ويدل على ذلك: موقفه صلى الله عليه وسلم من حرب الفرس والروم، وما كان من جدل بين المسلمين والمشركين في هذا مما نزلت فيه أوائل سورة الروم {غُلِبَتِ الرُّومُ 2 فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ 3 فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْـمُؤْمِنُونَ 4 بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: ٢ – ٥].
ومن ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة؛ ففيها يتجلَّى التخطيط العلمي والتوكل الإيماني جنباً إلى جنب. فلقد أعد صلى الله عليه وسلم من جانبه كل ما يستطيع البشر إعداده من الوسائل والاحتياطات والمعينات.
ولقد اطمأن إلى المهجر الذي سينتقل إليه، بعد أن بايع المؤمنين من الأوس والخزرج بيعة العقبة الأولى والثانية، واشترط لنفسه أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم. واطمأن إلى الرفيق الذي يصحبه، واطمأن إلى الفدائي الذي سيبيت مكانه، ورتب الدليل الذي يدله على الطريق، وهيأ الرواحل التي يمتطيها هو وصاحبه ودليله في سفرهم الطويل، واتفقوا على المكان الموعود الذي سيلتقون به الركائب. وتخيَّر المخبأ الذي يختفي فيه أياماً معدودة حتى تخف حدَّة الطلب ويتملكَّ القومَ اليأس، واختاره في غير طريق المدينة زيادة في التعمية على القوم فكان غار (ثور).
الحواشي:
[1] محمد العبدة، موقع الإسلام اليوم:
https://www.islamtoday.net/articles/show_articles_content.cfm?id=37&catid=185&artid=952
[2] من دراسة د. مسفر القحطاني، منشورة على موقع الإسلام اليوم:
https://www.islamtoday.net/articles/show_articles_content.cfm?id=37&catid=185&artid=11273
[3] أخرجه الترمذي وابن حبان وابن خزيمة.
[4] نقله الشوكاني في نيل الأوطار.
المصدر: مستقبلات الأمة