مقالاتمقالات مختارة

الحُميدي.. العلامة الأندلسيُّ الذي هجر وطنه وعشقَ بغداد!

الحُميدي.. العلامة الأندلسيُّ الذي هجر وطنه وعشقَ بغداد!

بقلم أحمد إبراهيم

“إنه من أهل العلم والفضل والتيقظ، لم أرَ مثله في عفّته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم”

(ابن ماكولا البغدادي واصفا الإمام الحُميدي الأندلسي)

حين استقر المسلمون في الأندلس قُبيل انتهاء القرن الأول الهجري/السابع الميلادي وحتى خروجهم منها بعد ثمانية قرون من هذا المقام، فإن العلاقة بين مشرق العالم الإسلامي وفي القلب منها بغداد ودمشق والقاهرة ومغرب العالم الإسلامي ومنها الأندلس لم تنقطع قط؛ علاقة قامت على الأخوة والنسب والصلة والتاريخ والدين، وعلى رافد لا ينقطع من الزيارة والرحلة الحجازية للحج أو طلب العلوم والتجارة فضلا عن الهجرة وتغيير المقام والأوطان في بعض الأحيان، ومن هنا ظلّت العلاقة بين المشرق والمغرب علاقة الأخ بأخيه، والمنافس بمنافسه الشريف في ميدان المعرفة والعلوم والآداب والثقافة.

 

وكما المشرق، فقد بزغ في سماء الأندلس أعلام نابهون في المجالات والعلوم كافة، ويأتي من جملة هؤلاء العلامة المحدث والأديب والمؤرخ أبو عبد الله الحُميدي الميورقي الذي ترك مصنفات كثيرة لا نزال ننهل منها بالرغم من مرور ألف سنة على تصنيفها ووفاة صاحبها، فمَن هو الحُميدي؟ وكيف سارت حياته العلمية؟ ولماذا انتقل من الأندلس وفضَّل الاستقرار في بغداد التي وافاه الأجل بها؟

 

وُلِد محمد بن فتوح بن عبد الله بن حُميد الأندلسي في جزيرة ميورقة أو جزر البليار الآن شرقي الأندلس، وذلك في حدود سنة 420هـ/1029م، وكانت الأندلس حين ذاك تحت حُكم ملوك الطوائف، كل أمير يحكم ناحية منها، وكانت ميورقة وشرق الأندلس تخضع لحكم الفتيان العامريين الذين كانوا نواة القوة والمكانة في دولة المنصور ابن أبي عامر وأبنائه في أواخر عصر الأمويين في الأندلس.

 

لكن الأندلس وإن أصابها ذلك الانقسام السياسي الحاد، والتنازع على السلطة والنفوذ بين هؤلاء الملوك والأمراء والعسكر بعد سقوط الخلافة الأموية في قرطبة سنة 422هـ، فإن الحياة الثقافية والعلمية ظلّت على حالها من الازدهار والإبداع والتطور، وخرج في كل قطر من أقطار الأندلس أعلام على قدر لافت من الشهرة والنباهة، ومن ميورقة قرَّرت أسرة الحميدي الانتقال إلى قرطبة العاصمة القديمة للأندلس، وقد ذكر الحميدي أن أسرته اهتمَّت بتعليمه منذ الطفولة والصغر حتى كان يُحمَل على الكتف لسماع العلماء وهو في الخامسة من عمره[1]!

 

ويبدو أن التوجُّه كان لإسماعه علوم الحديث النبوي الشريف على مشاهير عصره، وكان من حُسن حظه أنه تعلَّم على يد المحدث أبي القاسم أصبغ بن راشد اللخمي، ثم لما شبّ قرر الانتقال بين مدن الأندلس في قرطبة وإشبيلية وميورقة وشاطبة وغيرها ليأخذ على كبار علمائها، وعلى رأسهم العلامة يوسف بن عبد البر القرطبي صاحب الموسوعة الشهيرة “الاستيعاب في معرفة الأصحاب” و”التمهيد لما في الموطأ في المعاني والأسانيد” التي سمعها عنه الحميدي، والعلامة ابن حزم الأندلسي الفقيه والأديب والفيلسوف الأندلسي الأشهر الذي ترك في الحُميدي أعظم الأثر، وحرص على اصطحاب مؤلفاته في حلّه وترحاله، كما اعتنق مذهبه الظاهري في فهم النصوص، كما أخذ عن أحمد بن عمر العذري المعروف بابن الدلائي الأديب المؤرخ المحدّث، فضلا عن غيرهم من نبهاء الأندلس وعلمائها في القرن الخامس الهجري[2].

 

حين أدرك الحميدي أن الأندلس لم تعُد تكفي تطلعاته العلمية، قرر السفر إلى المشرق لاستكمال عدّته في علوم الحديث والشريعة وغيرها، ويبدو أن هذه الرغبة كانت دفينة في أعماق كل طالب علم أندلسي، حتى إن شيخه العلامة ابن حزم كان ممن أفصحوا عن تلك الرغبة، وأدركوا مقدار احترام أهل المشرق للعلماء ومكانتهم مقارنة بما كان يحدث في الأندلس في عصر الطوائف والصراعات، فيقول في بعض شعره[3]:

أنا الشمسُ في جوّ العلومِ منيرة *** ولكنّ عيبي أن مطلعي الغرب

ولو أنّني من جانب الشرق طالعٌ *** لجدَّ عليَّ ما ضاع مِن ذكر الشُّهب

ولي نحو أكنافِ العراق صبابةٌ *** ولا غرو أن يستوحشَ الكلِف الصبُّ

ومن هنا قرر الحُميدي الرحلة إلى المشرق لطلب العلوم على أشهر علمائها ومحدّثيها وفقهائها، ولم يكن يدرك الشاب الأندلسي ذو الأحلام العريضة، والآمال الأريضة، أن المشرق سيأخذ لُبّه إلى هذه الدرجة، وبين مدنه وطرقاته وأيامه ولياليه سينفجر علمه، ويُترجَمُ إلى مؤلفات عظيمة، فقد نزل أول الأمر في مدينة القيروان وأخذ عن أبي زيد صاحب “الرسالة”، ومنها إلى مصر، وظل بها مدة يتعلم على كبار علمائها مثل أبي إسحاق الحبّال المحدّث صاحب “الوفيات”، وأبي عبد الله القُضاعي المؤرخ صاحب تاريخ “خطط مصر”، ثم حجّ وسمع من علماء ومُحدّثي مكة المشرفة والمدينة والحجاز.

 

بعد تمام حجّه، قرر الحميدي الانطلاق صوب دمشق التي كانت تعجُّ بعدد لافت من كبار علماء الحديث آنذاك مثل أصحاب ابن جميع وابن أبي الحديد وغيرها، وأخذ عنه من علماء دمشق جماعة مثل ابن الأكفاني المحدث والمؤرخ، وأبي القاسم السمرقندي شيخ العلامة المحدث ابن عساكر، كما التقى بمحدث بغداد الشهير الخطيب البغدادي الذي كان يزور دمشق في حدود سنة 451هـ/ 1059م[4] وسمع الحميدي منه كما سمع البغدادي من الحميدي، وتوثقت بين الرجلين عُرى صداقة وأخوة سيكون لها ما بعدها حين ينطلق الحميدي إلى بغداد، وحين أدرك الحُميدي أن دمشق أعطت له سرّها وعلمها، قرر التوجه إلى الموضع الذي ظل يحلم به حين كان في الأندلس، إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وموطن سادات العلماء والشيوخ.

 

في بغداد تفتحت أمام الشاب الأندلسي ينابيع الآمال والطموحات، ورأى فيها شموخ الإسلام وعز العلماء، فقد اتصل مرة أخرى بالخطيب البغدادي[5] المتوفى سنة 463هـ/1071م، وقد أخذ الحميدي عنه علما كثيرا، وروى عنه أكثر مصنفاته في الحديث وعلم الرجال وغيرها، والحق أن الحميدي أحب بغداد حبّا جما، واتصل بأهلها بعاطفة قوية، وكانت له مع المشاهير من علمائها زمالة علمية وثيقة، وأفاد منهم علما وأدبا، وحظي عندهم بمنزلة عالية لما رأوه فيه من المحاسن والمزايا، منهم العلامة أبو نصر علي بن هبة الله المعروف بابن ماكولا المتوفى سنة 475هـ/1082م، الذي قال في حق الحميدي الأندلسي: “إنه من أهل العلم والفضل والتيقظ، لم أرَ مثله في عفّته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم”[6].

 

وبسبب هذا الترحاب من أهل بغداد وعلمائها بالحُميدي، ولمكانتها العلمية والدينية بين مدن العالم الإسلامي قاطبة آنذاك وهي قلب الخلافة والعلم ومعقلهما، قرر الإمام الحُميدي أن يتخذ بغداد موطنا له، تاركا وطنه ودياره في الأندلس لعشقه الجديد، وفي المقابل فتحت بغداد ذراعيها لهذا المهاجر الأندلسي الطامح، وسرعان ما ظهر فيها علمه، وبان أدبه، وجلا عن ضروب من الثقافة والمعرفة عميقة، أعجبت البغداديين للغاية، فطلبوا منه أن يكتب لهم عن الأندلس وعلمائها وأدبائها وذوي المعرفة والنجابة فيها، فحقق لهم الحميدي رغبتهم، وألّف كتابه الجليل “جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس”، ولا يزال هذا الكتاب أحد أهم مصادر تاريخ الأندلس ورجالها وأخبارها حتى القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي.

 

بقي الحميدي في بغداد خمسا وثلاثين سنة ملأ صيته الآفاق، وظل على مذهب شيخه ابن حزم ظاهريا لا يتعدى ظاهر النص إلى ما وراءه من معانٍ باطنة، وقد حمل الحُميدي معه إلى المشرق كتب أستاذه ابن حزم الأندلسي، فكان أول مَن أدخلها بلاد المشرق ونشرها هناك، وبجانب فضله ورسوخه في علوم الحديث والفقه، فإنه كان بارعا في الأدب العربي، فصيح العبارة، شغوفا بالشعر والتاريخ والرجال والأسماء[7].

اعلان

 

ألّف الحميدي في ميادين كثيرة، مثل الحديث، والأدب، والتاريخ، والتراجم، والعربية، ومن أشهر مؤلفاته “أدب الأصدقاء”، و”الأماني الصادقة”، و”تسهيل السبيل إلى تعليم الترسيل”، و”تفسير غريب ما في الصحيحين”، و”جمل تاريخ الإسلام”، و”حفظ الجار”، و”ذم النميمة”، و”الذهب المسبوك في وعظ الملوك”، و”ووفيات الشيوخ” وغيرها من المصنفات الأخرى[8].

وتنوعت موضوعات شعره بين الأدب والزهد وتمجيد علوم الحديث والدفاع عنها، وترك ديوان شعر لم يصل إلينا مع الأسف، لكن وصلت إلينا منظومته الشعرية الشهيرة الدالية التي يُهاجم فيها مَن يعيبون علم الحديث وأهله، ويُبيّن فضل علوم الحديث على الدين والثقافة والحضارة الإسلامية، قائلا[9]:

فإنْ صدَّ عن حُكم الشهادة جاهلٌ *** فإن كتابَ اللهِ فيه عتيدُ

ولولا رواةُ الدينِ ضاعَ وأصبَحتْ *** معالمه في الآخرين تبيدُ

هُم حفظوا الآثارَ من كل شُبهةٍ *** وغيرهم عمّا اقتنوْه رُقودُ

وهم هاجروا في جمعها وتبادروا *** إلى كل أُفق والحرام كؤودُ

لكن أهم عمل قام به الإمام الحُميدي الأندلسي البغدادي كتابه الشهير “الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم”، وفي هذا الكتاب أو المسند الجامع، سعى الإمام الحُميدي إلى جمع أحاديث الصحيحينِ في كتاب واحد مرتَّب على المسانيد بحيث يجمعُ أحاديث كل صحابي من الصحيحين في موضع واحد، وقد قسّم الكتاب إلى خمسة أقسام، هي مسانيد العشرة المبشرين بالجنة، ومسانيد المقدَّمين بعد العشرة من الصحابة، ومسانيد المُكثرين من الصحابة، ومسانيد المقلِّين من الصحابة، والقسم الأخير جعله لمسانيد النساء بدأه بمسند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وفي داخل كل مسند من المسانيد السابقة يبدأ الحميدي بذكر ما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم من ذلك السند[10].

 

تلك بعض من سيرة العلامة الحُميدي الذي جاب آفاق الأندلس والمغرب والمشرق، وفضّل المقام في بغداد ليصبح واحدا من أعظم علمائها لعقود متطاولة، وقد ترك من خلفه علما وتصنيفا وتلاميذ لا يُحصون كثرة، وقد سُئل تلميذه أبو عامر العبدري عنه ذات يوم فقال في حق شيخه الحميدي: “لا يُرى مثلُه قط، وعن مثله لا يُسأل، جمع بين الفقه والحديث والأدب، ورأى علماء الأندلس”[11]، في عام 488هـ/1095م، وعن عُمر ناهز الثمانية والستين رحل العلامة الحُميدي عن دنيانا تاركا لمَن خلفه آية ومثلا في الاستقامة والجد والأخلاق والعلم، محبا للأندلس، عاشقا لبغداد!

_________________________________________________________________

المصادر

  1. الحميدي: جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس 1/269، 270.
  2. موسوعة عباقرة الإسلام 2/151، 152.
  3. جذوة المقتبس 2/491.
  4. تاريخ دمشق لابن عساكر
  5. الحموي: معجم الأدباء 7/59.
  6. محمد مولود المشهداني: الحميدي أديب الأندلس وسفيرها ص96.
  7. موسوعة عباقرة الإسلام 2/153.
  8. الجمع بين الصحيحين للحميدي، مقدمة المحقق 1/7.
  9. المقري: نفح الطيب 4/328.
  10. الجمع بين الصحيحين للحميدي، مقدمة المحقق 1/11، 12.
  11. الذهبي: سير أعلام النبلاء 14/159.

(المصدر: ميدان الجزيرة)


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى