مقالاتمقالات مختارة

الحساب الفلكي وإثبات أوائل الشهور

بقلم د. يوسف القرضاوي

إن الأخذ بالحساب القطعي اليوم وسيلةً لإثبات الشهور: يجب أن يقبل من باب “قياس الأولى”، بمعنى أن السنة التي شرعت لنا الأخذ بوسيلة أدنى، لما يحيط بها من الشك والاحتمال -وهي الرؤية- لا ترفض وسيلة أعلى وأكمل وأوفى بتحقيق المقصود، والخروج بالأمة من الاختلاف الشديد في تحديد بداية صيامها وفطرها وأضحاها، إلى الوحدة المنشودة في شعائرها وعباداتها، المتصلة بأخص أمور دينها، وألصقها بحياتها وكيانها الروحي، وهي وسيلة الحساب القطعي.

إن الشريعة الإسلامية السمحة حين فرضت الصوم في شهر قمري ـ شرعت في إثباته الوسيلة الطبيعية الميسورة والمقدورة لجميع الأمة، والتي لا غموض فيها ولا تعقيد، والأمة في ذلك الوقت أميَّة لا تكتبُ ولا تحسب، وهذه الوسيلة هي رؤية الهلال بالأبصار. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “صوموا لرؤيته -أي الهلال- وأفطروا لرؤيته فإن أغبي عليكم فأكملوا عِدَّةَ شعبان ثلاثين”(1).

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: “لا تصوموا حتى تروا الهلالَ، ولا تُفطروا حتى تروه، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له”(2)، وكان هذا رحمةً بالأمة، إذ لم يكلفها الله العمـل بالحســاب، وهي لا تعرفـه ولا تحسنه، فلو كلفت ذلك لقلدت فيه أمة أخرى من أهل الكتاب أو غيرهم ممن لا يدينون بدينها.

ثلاث طرق لإثبات دخول رمـضان

وقد أثبتت الأحاديث الصحاح أن شهر رمضان يثبت دخوله بواحدة من ثلاث طرق:

1- رؤية الهلال.

2- أو إكمال عدة شعبان ثلاثين.

3- أو التقدير للهلال.

فأما الرؤية: فقد اختلف فيها الفقهاء: أهي رؤية واحد عدل، أم رؤية عدلين اثنين، أم رؤية جم غفير من الناس؟

فمَنْ قال: يقبل شهادة عدل واحد، استدلَّ بحديث ابن عمر، قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي أني رأيته، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بصيامه(3). وبحديث الأعرابي الذي شهدَ عند النبي أنه رأى الهلال، فأمر بلالاً فنادى في الناس “أن يقوموا ويصوموا”(4)، كما قالوا: إن الإثبات بعدل واحد أحوط للدخول في العبادة، وصيام يوم من شعبان أخف من إفطار يوم من رمضان.

ومَنْ اشترط في الرؤية عدلين، استدل بما روى الحسين بن حريث الجدلي قال: خطبنا أمير مكة الحارث بن حاطب، فقال: أمرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ننسكَ لرؤيته، فإن لم نَرهُ فشَهدَ شاهدان عدلانِ نَسَكْنا بشهادتيهما(5). وقياسًا على سائر الشهود، فإنها تثبت بشهادة عدلين

أمّا من اشترط الجم الغفير أو الجمع الكثير فهم الحنفية، وذلك في حالة الصحو، فقد أجـازوا في حالة الغيم أن يشهد برؤيته واحد، إذ قد ينشقُّ عنه الغيم لحظـة فيراه واحـد، ولا يراه غيره من الناس. ولكن إذا كانت السماءُ مصحة، ولا قَتَر ولا سحابَ ولا علةَ، ولا حائل يحول دون الرؤية، فما الذي يجعل واحدًا من الناس يراه دون الآخرين؟ لهذا قالوا: لا بد من إخبار جمع عظيم؛ لأن التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية ـ مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه، مع فرض عدم المانع، وسلامة الأبصار ـ وإن تفاوتت في الحدة ظاهر في غلطه(6).

وأما خبر ابن عمر والأعرابي ـ وفيهما إثبات الهلال برؤية واحد ـ فقد قال العلامة رشيد رضا في تعليقه على “المغني”: “ليس في الخـبرين أن الناس تراءوا الهلالَ، فلم يره إلا واحد، فهما في غير محل النزاع، ولا سيما مع أبي حنيفة، وبهذا يبطل كل ما بني عليهما”(7).

وأمَّا عدد الجمع العظيم فهو مفوض إلى رأي الإمام أو القاضي من غير تقدير بعدد معين على الصحيح(8). ومن الواجب على المسلمين التماس الهلال يوم التاسع والعشرين من شعبان عند الغروب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إلاَّ أنه واجب على الكفاية.

والطريقة الثانية: إكمال عدة شعبان ثلاثين، سواء كان الجو صحوًا أم غائمًا، فإذا تراءوا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ولم يره أحد، استكملوا شعبان ثلاثين.

وهنا يلزم أن يكون ثبوت شعبان معروفا منذ بدايته، حتى تعرف ليلة الثلاثين التي يتحرى فيها الهلال، ويستكمل الشهر عند عدم الرؤية. وهذا أمرٌ يقع فيه التقصير؛ لأن الاهتمام بإثبات دخول الشهور لا يحدث إلا في أشهر ثلاثة فقط: رمضان لإثبات الدخول في الصيام، وشوال لإثبات الخروج منه، وذي الحجة لإثبات يوم عرفة وما بعده. وينبغي على الأمةِ، وعلى أولي الأمر فيها التدقيق في إثبات الشهور كلها؛ لأن بعضها مبني على بعض.

والطريقة الثالثة: هي التقدير للهلال عند الغيم، أو كما قال الحديث: “إذا غمَّ عليكم” أو “غمي عليكم” أو “غبي عليكم” أي حال دونه حائل، ففي بعض الروايات الصحيحة، ومنها مالك عن نافع عن ابن عمر، وهي السلسلة الذهبية، وأصَحّ الأسانيد عند البخاري: “إذا غم عليكم فاقدروا له”، فما معنى “اقدروا له”؟

قال النووي في المجموع: (قالَ أحمد بن حنبل وطائفةٌ قليلة: معناه: ضيِّقوا له، وقدروه تحت السحاب، من “قدر” بمعنى ضيق كقوله: (قُدِرَ عليه رِزْقهُ) وأوجب هؤلاء صيام ليلة الغيم.

وقال مطرِّف بن عبد الله ـ من كبار التابعين ـ وأبو العباس بن سريج ـ من كبار الشافعيةـ وابن قتيبة وآخرون: معناه: قدروه بحسب المنازل.

وقال أبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف والخلف: معناه: قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا. واحتج الجمهور بالروايات التي ذكرناها، وكلها صحيحة صريحة: “فأكملوا العدة ثلاثين”، “فاقدروا له ثلاثين”، وهي مفسرة لرواية: “فاقدروا له” المطلقة)(9).

ولكن الإمام أبا العباس بن سريج لم يحمل إحدى الروايتين على الأخرى، بل نقل عنه ابن العربي أن قوله: “فاقدروا له”: خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله: “أكملوا العدة” خطاب للعامة(10).

واختلاف الخطاب باختلاف الأحوال أمر وارد، وهو أساس لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال.

قال الإمام النووي في المجموع: (ومن قال بحساب المنازل: فقوله مردود بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: “إنَّا أمةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نكتب ولا نحسب”… الحديث.

قالوا: ولأن الناس لو كلفوا بذلك ضاق عليهم؛ لأنه لا يعرف الحساب إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار)(11).

والحديث الذي احتج به الإمام النووي ـ رحمه الله ـ لا حجة فيه؛ لأنه يتحدث عن حال الأمة، ووصفها عند بعثته لها عليه الصلاة والسلام، ولكن أميتها ليست أمرًا لازمًا ولا مطلوبًا، وقد اجتهد عليه الصلاة والسلام أن يخرجها من أميتها بتعليم الكتابة، وبدأ بذلك منذ غزوة بدر، فلا مانع أن يأتي طور على الأمة تكون فيه كاتبة حاسبة. والحساب الفلكي العلمي الذي عرفه المسلمون في عصور ازدهار حضارتهم، وبلغ في عصرنا درجة من الرقي تمكن بها البشر من الصعود إلى القمر، هو شيء غير التنجيم أو علم النجوم المذموم في الشرع.

وأمَّا الاعتبار الآخر الذي ذكره النووي، وهو أن الحساب لا يعرفه إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار، فقد يكون صحيحًا بالنسبة إلى زمنه ـ رحمه الله ـ ولكنه ليس صحيحًا بالنسبة إلى زمننا، الذي أصبح الفلك يدرس فيه في جامعات شتى، وغدت تخدمه أجهزة ومراصد على مستوى رفيع وهائل من الدقة. وقد أصبح من المقرر المعروف عالميًا اليوم: أن احتمال الخــطأ في التقـديرات العلمـية الفلكـية اليوم هو نســبة 1 – 100000 في الثانية!!.

كما أن البلدان الكبار والصغار الآن أصبحت متقاربة، وكأنما هي بلد واحد، بل غدا العالم، كما قيل “قرية كبرى”! ونقل الخبر من قطر إلى آخر، ومن مشرق إلى مغرب، وبالعكس لا يستغرق ثواني معدودة.

وقد ذهب أبو العباس بن سريج من أئمة الشافعية، إلى أن الرجل الذي يعرف الحساب، ومنازل القمر، إذا عرف بالحساب أن غدا من رمضان فإن الصوم يلزمه؛ لأنه عرف الشهر بدليل، فأشْبَهَ ما إذا عرف بالبينة. واختاره القاضي أبو الطيب؛ لأنه سبب حصل له به غلبة ظن، فأشبه ما لَوْ أخـبره ثقة عن مشاهدة. وقال غيره: يجـزئهُ الصـوم ولا يلزمه. وبعضهم أجاز تقليده لمن يثق به(12).

وقد ذهب بعض كبار العلماء في عصرنا إلى إثبات الهلال بالحساب الفلكي العلمي القطعي، وكتب في ذلك المحدث الكبير العلامة أحمد محمد شاكر ـ رحمه الله ـ رسالته، في “أوائل الشهور العربية: هل يجوز إثباتها شرعًا بالحساب الفلكي؟”، وسنعود لنقل رأيه مفصلا.

ومـن المنـادين بهـذا الرأي في عصرنا الفقيه الكـبير الشيخ مصطـفى الزرقا ـ رحمه الله ـ والذي يظهر من الأخبار أن الذي رفضه الفقهاء من علم الهيئة أو الفلك، هو ما كان يسمى “التنجيم” أو “علم النجوم” وهو ما يُدَّعَى فيه معرفة بعض الغيوب المستقبلية عن طريق النجوم، وهذا باطل، وهو الذي جاء فيه الحديث الذي رواه أبو داود وغيره عن ابن عباس مرفوعًا: “مَنْ اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبة من السحر”(13).

وقال الإمام ابن دقيق العيد: الذي أقول: إن الحساب لا يجوز أن يُعتمد عليه في الصوم لمقارنة القمر للشمس على ما يراه المنجمون، فإنهم قد يقدمون الشهر بالحساب على الرؤية بيوم أو يومين، وفي اعتبار ذلك إحداث شرع لم يأذنْ به الله. وأما إذا دلَّ الحساب على أن الهلال قد طلع على وجهٍ يُرَى، لكن وُجِدَ مانع من رؤيته كالغيم، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي. ا.هـ

وعقب على ذلك الحافظ ابن حجر بقوله: (لكن يتوقف قبول ذلك على صدق المخبر به، ولا نجزم بصدقه إلا لو شاهد، والحال أنه لم يشاهد، فلا اعتبار بقوله إذن، والله أعلم)(14).

ولكن علم الفلك الحديث يقوم على المشاهدة بوساطة الأجهزة، وعلى الحساب الرياضي القطعي. ومن الخطأ الشائع لدى كثير من علماء الدين في هذا العصر، اعتقاد أن الحساب الفلكي هو حساب أصحاب التقاويم، أو النتائج، التي تطبعُ وتوزع على الناس، وفيها مواقيت الصلاة، وبدايات الشهور القمرية ونهايتها، وينسب هذا التقويم إلى زيد، وذاك إلى عمرو من الناس، الذين يعتمد معظمهم على كتب قديمة ينقلون منها تلك المواقيت، ويصفونها في تقويماتهم.

ومن المعروف أن هذه التقاويم تختلف بين بعضها وبعض، فمنها ما يجعـل شـعبان (29) يومًا، ومنها ما يجعله (30)، وكذلك رمضان، وذو القعدة وغيرها.

ومن أجل هذا الاختلاف رفضوها كلها؛ لأنها لا تقوم على علم يقيني؛ لأن اليقين لا يعارض بعضه بعضًا. وهذا صحيح بلا ريب، ولكن ليس هذا هو الحساب العلمي الفلكي الذي نعنيه. إن الذي نعنيه هو ما يقرره علم الفلك الحديث، القائم على المشــاهدة والتجربة، والذي غدا يملك من الإمكانات العلمية والعملية “التكنولوجية” ما جعله يصل بالإنسان إلى سطح القمر، ويبعث بمراكز فضائية إلى الكواكب الأكثر بعدًا، وغدت نسبة احتمال الخطأ في تقديراته (1- 100000) في الثانية. وأصبح من أسهل الأمور عليه أن يخبرنا عن ميلاد الهلال فلكيًا، وعن إمكان ظهوره في كل أفق بالدقيقة والثانية، لو أردنا.

الرؤية.. وسيلة متغيرة لهدف ثابت

وفي كتابي: “كيف نتعامل مع السنة” عدت إلى الموضوع عند الحديث عن أحد المعالم الأساسية في فهم السنة، وهو: التمييز بين الهدف الثابت والوسيلة المتغيرة. وضربت لذلك أمثلة، ثم قلت: ومما يمكن أن يدخل في هذا الباب: ما جاء في الحديث الصحيح المشهور: “صوموا لرؤيته ـ أي الهلال ـ وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له” وفي لفظ آخر “فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين”. فهنا يمكن للفقيه أن يقول: إن الحديث الشريف أشار إلى هدف، وعيّن وسيلة.

أما الهدف من الحديث فهو واضح بيّن، وهو أن يصوموا رمضان كله، ولا يضيعوا يومًا منه، أو يصوموا يومًا من شهر غيره، كشعبان أو شوال، وذلك بإثبات دخول الشهر أو الخروج منه، بوسيلة ممكنة مقدورة لجمهور الناس، لا تكلفهم عنتًا ولا حرجًا في دينهم.

وكانت الرؤية بالأبصار هي الوسيلة السهلة والمقدورة لعامة الناس في ذلك العصر، فلهذا جاء الحديث بتعيينها؛ لأنه لو كلفهم بوسيلة أخرى كالحساب الفلكي ـ والأمة في ذلك الحين أمية لا تقرأ ولا تحسب ـ لأرهقهم من أمرهم عسرا، والله يريد بأمته اليسر ولا يريد بهم العسر، وقد قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه: “إن الله بعثني معلمًا ميسرًا، ولم يبعثني معنتًا”(15).

فإذا وجدت وسيلة أخرى أقدر على تحقيق هدف الحديث، وأبعد عن احتمال الخطأ والوهم والكذب في دخول الشهر، وأصبحت هذه الوسيلة ميسورة غير معسورة، ولم تعد وسيلة صعبة المنال، ولا فوق طاقة الأمة، بعد أن أصبح فيها علماء وخبراء فلكيون وجيولوجيون وفيزيائيون متخصصون على المستوى العالمي، وبعد أن بلغ العلم البشري مبلغًا مكن الإنسان أن يصعد إلى القمر نفسه، وينزل على سطحه، ويجوس خلال أرضه، ويجلب نماذج من صخوره وأتربته! فلماذا نجمد على الوسيلة ـ وهي ليست مقصودة لذاتها – ونغفل الهدف الذي نشده الحديث؟!

لقد أثبت الحديث دخول الشهر بخبر واحد أو اثنين يدعيان رؤية الهلال بالعين المجردة، حيث كانت هي الوسيلة الممكنة والملائمة لمستوى الأمة، فكيف يتصور أن يرفض وسيلة لا يتطرق إليها الخطأ أو الوهم، أو الكذب، وسيلة بلغت درجة اليقين والقطع، ويمكن أن تجتمع عليها أمة الإسلام في شرق الأرض وغربها، وتزيل الخلاف الدائم والمتفاوت في الصوم والإفطار والأعياد، إلى مدى ثلاثة أيام تكون فرقا بين بلد وآخر، وهو ما لا يعقل ولا يقبل لا بمنطق العلم، ولا بمنطق الدين، ومن المقطوع به أن أحدها هو الصواب والباقي خطأ بلا جدال.

على أن العلامة المحدث الكبير الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ نحا بهذه القضية منحى آخر، فقد ذهب إلى إثبات دخول الشهر القمري بالحساب الفلكي، بناءً على أن الحكم باعتبار الرؤية معلل بعلة نصت عليها السنة نفسها، وقد انتفت الآن، فينبغي أن ينتفي معلولها، إذ من المقرر أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.

ويحسن بنا أن ننقل هنا عبارته بنصها لما فيها من قوة ونصاعة، قال رحمه الله في رسالته “أوائل الشهور العربية”:

(فمما لا شك فيه أن العرب قبل الإسلام وفي صدر الإسلام لم يكونوا يعرفون العلوم الفلكية معرفة علمية جازمة، كانوا أمة أميين، لا يكتبون ولا يحسبون، ومن شدا منهم شيئًا من ذلك فإنما يعرف مبادئ أو قشورا، عرفها بالملاحظة والتتبع، أو بالسماع والخبر، لم تبن على قواعد رياضية، ولا على براهين قطعية ترجع إلى مقدمات أولية يقينية، ولذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجع إثبات الشهر في عبادتهم إلى الأمر القطعي المشاهد الذي هو في مقدور كل واحد منهم، أو في مقدور أكثرهم. وهو رؤية الهلال بالعين المجردة، فإن هذا أحكم وأضبط لمواقيت شعائرهم وعباداتهم، وهو الذي يصل إليه اليقين والثقة مما في استطاعتهم، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.

لم يكن مما يوافق حكمة الشارع أن يجعل مناط الإثبات في الأهلة الحساب والفلك، وهم لا يعرفون شيئًا من ذلك في حواضرهم، وكثير منهم بادون لا تصل إليهم أنباء الحواضر، إلا في فترات متقاربة حينا، ومتباعدة أحيانا، فلو جعله لهم بالحساب والفلك لأعنتهم، ولم يعرفه منهم إلا الشاذ والنادر في البوادي عن سماع إن وصل إليهم، ولم يعرفه أهل الحواضر إلا تقليدًا لبعض أهل الحساب، وأكثرهم أو كلهم من أهل الكتاب.

ثم فتح المسلمون الدنيا، وملكوا زمام العلوم، وتوسعوا في كل أفنانها، وترجموا علوم الأوائل، ونبغوا فيها، وكشفوا كثيرًا من خباياها، وحفظوها لمن بعدهم، ومنها علوم الفلك والهيئة وحساب النجوم.

وكان أكثر الفقهاء والمحدثين لا يعرفون علوم الفلك، أو هم يعرفون بعض مبادئها، وكان بعضهم، أو كثير منهم لا يثق بمن يعرفها ولا يطمئن إليه، بل كان بعضهم يرمي المشتغل بها بالزيغ والابتداع، ظنا منه أن هذه العلوم يتوسل بها أهلها إلى ادعاء العلم بالغيب – التنجيم – وكان بعضهم يدعي ذلك فعلا، فأساء إلى نفسه وإلى علمه، والفقهاء معذورون، ومن كان من الفقهاء والعلماء يعرف هذه العلوم لم يكن بمستطيع أن يحدد موقفها الصحيح بالنسبة إلى الدين والفقه، بل كان يشير إليها على تخوف.

هكذا كان شأنهم، إذ كانت العلوم الكونية غير ذائعة ذيعان العلوم الدينية وما إليها، ولم تكن قواعدها قطعية الثبوت عند العلماء.

وهذه الشريعة الغراء السمحة، باقية على الدهر، إلى أن يأذن الله بانتهاء هذه الحياة الدنيا، فهي تشريع لكل أمة، ولكل عصر، ولذلك نرى في نصوص الكتاب والسنة إشارات دقيقة لما يستحدث من الشئون، فإذا جاء مصداقها فسرت وعلمت، وإن فسرها المتقدمون على غير حقيقتها.

وقد أشير في السنة الصحيحة إلى ما نحن بصدده، فروى البخاري من حديث ابن عمـر عـن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إنـا أمـة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهـر هكـذا وهكذا… ” يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين(16).

وقد أصاب علماؤنا المتقدمون رحمهم الله في تفسير معنى الحديث، وأخطأوا في تأويله، ومن أجمع قول لهم في ذلك قول الحافظ ابن حجر(17): المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النزر اليسير. فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية، لرفع الحرج عنهم في معاناة التسيير، واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك. بل ظاهر السياق ينفي تعليق الحكم بالحساب الأصلي.

ويوضحه قوله في الحديث الماضي: “فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين”، ولم يقل: فسلوا أهل الحساب، والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء استوى فيه المكلفون، فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم، وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك، وهم الروافض (الإسماعيلية) ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم، قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حجة عليهم، وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم؛ لأنها حدس وتخمين، ليس فيها قطع ولا ظن غالب مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق، إذ لا يعرفها إلا القليل ا هـ.

فهذا التفسير صواب، في أن العبرة بالرؤية لا بالحساب، والتأويل خطأ، في أنه لو حدث من يعرف استمر الحكم في الصوم ـ أي باعتبار الرؤية وحدها ـ لأن الأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللا بعلة منصوصة، وهي أن الأمة “أمية لا تكتب ولا تحسب”، والعلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا، فإذا خرجت الأمة عن أميتها، وصارت تكتب وتحسب، أعني صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم، وأمكن الناس ـ عامتهم وخاصتهم ـ أن يصلوا إلى اليقين والقطع في حساب أول الشهر، وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية أو أقوى، إذا صار هذا شأنهم في جماعتهم وزالت علة الأمية: وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت، وأن يأخـذوا في إثبات الأهلـة بالحسـاب وحـده، وألا يرجعوا إلى الرؤية إلا حين استعصى عليهم العلم به، كما إذا كان ناس في بادية أو قرية، لا تصل إليهم الأخبار الصحيحة الثابتة عن أهل الحساب.

وإذا وجب الرجوع إلى الحساب وحده بزوال علة منعه، وجب أيضًا الرجوع إلى الحساب الحقيقي للأهلة، واطّراح إمكان الرؤية وعدم إمكانها، فيكون أول الشهر الحقيقي الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد غروب الشمس، ولو بلحظة واحدة.

وما كان قولي هذا بدعًا من الأقوال: أن يختلف الحكم باختلاف أحوال المكلفين فإن هذا في الشريعة كثير، يعرفه أهل العلم وغيرهم، ومن أمثلة ذلك في مسألتنا هذه: أن الحديث: “فإن غم عليكم فاقدروا له” ورد بألفاظ أخر، في بعضها: “فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين” ففسر العلماء الرواية المجملة: “فاقدروا له” بالرواية المفسرة: “فأكملوا العدة” ولكن إمامًا عظيمًا من أئمة الشافعية، بل هو إمامهم في وقته، وهو أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج جمع بين الروايتين، بجعلهما في حالين مختلفين: أن قوله: “فاقدروا له” معناه: قدروه بحسب المنازل، وأنه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله: “فأكملوا العدة”خطاب للعامة(18).

فقولي هذا يكاد ينظر إلى قول ابن سريج، إلا أنه جعله خاصًا بما إذا غم الشهر فلم يره الراؤون، وجعل حكم الأخذ بالحساب للأقلين، على ما كان في وقته من قلة عدد العارفين، وعدم الثقة بقولهم وحسابهم، وبطء وصول الأخبار إلى البلاد الأخرى، إذا ثبت الشهر في بعضها، وأما قولي فإنه يقضي بعموم الأخذ بالحساب الدقيق الموثوق به، وعموم ذلك على الناس، بما يسر في هذه الأيام من سرعة وصول الأخبار وذيوعها. ويبقى الاعتماد على الرؤية للأقل النادر، ممن لا يصل إليه الأخبار، ولا يجد ما يثق به من معرفة الفلك ومنازل الشمس والقمر.

ولقد أرى قولي هذا أعدل الأقوال، وأقربها إلى الفقه السليم، وإلى الفهم الصحيح للأحاديث الواردة في هذا الباب)(19).

هذا ما كتبه العلامة شاكر منذ أكثر من نصف قرن ـ ذي الحجة 1357 هـ الموافق يناير 1939م.

ولم يكن علم الفلك في ذلك الوقت قد وصل إلى ما وصل إليه اليوم من وثبات استطاع بها الإنسان أن يغزو الفضاء، ويصعد إلى القمر، وانتهى هذا العلم إلى درجة من الدقة، غدا احتمال الخطأ فيها بنسبة واحد إلى مائة ألف في الثانية!!

كتب هذا الشيخ شاكر وهو رجل حديث وأثر قبل كل شيء، عاش حياته -رحمه الله- لخدمة الحديث، ونصرة السنة النبوية، فهو رجل سلفي خالص، رجل اتباع لا رجل ابتداع، ولكنه -رحمه الله- لم يفهم السلفية على أنها جمود على ما قاله من قبلنا من السلف، بل السلفية الحق أن ننهج نهجهم، ونشرب روحهم، فنجتهد لزمننا كما اجتهدوا لزمنهم، ونعالج واقعنا بعقولنا لا بعقولهم، غير مقيدين إلا بقواطع الشريعة، ومحكمات نصوصها، وكليات مقاصدها.

هذا وقد قرأت مقالاً مطولاً في شهر رمضان لأحد المشايخ الفضلاء (هو سماحة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى بالمملكة العربية السعودية، وقد نشر مقاله في عكاظ وغيرها من الصحف اليومية بالمملكة)، أشار فيه إلى أن الحـديث النبوي الصـحيح: “نحـن أمـة أمـية لا نكـتب ولا نحسب” يتضمن نفي الحساب، وإسقاط اعتباره لدى الأمة.

ولو صح هذا لكان الحديث يدل على نفي الكتابة، وإسقاط اعتبارها، فقد تضمن الحديث أمرين دلل بها على أمية الأمة، وهما: الكتابة والحساب.

ولم يقل أحد في القديم ولا في الحديث: إن الكتابة أمر مذموم أو مرغوب عنه بالنسبة للأمة، بل الكتابة أمر مطلوب، دل عليه القرآن والسنة والإجماع.

وأول من بدأ بنشر الكتابة هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما هو معلوم من سيرته، وموقفه من أسرى بدر.

ومما قيل في هذا الصدد: أن الرسول لم يشرع لنا العمل بالحساب، ولم يأمرنا باعتباره، وإنما أمرنا باعتبار “الرؤية” والأخذ بها في إثبات الشهر. وهذا الكلام فيه شيء من الغلط أو المغالطة، لأمرين:

الأول: أنه لا يعقل أن يأمر الرسول بالاعتداد بالحساب، في وقت كانت فيه الأمة أمية، لا تكتب ولا تحسب، فشرع لها الوسيلة المناسبة لها زمانًا ومكانًا، وهي الرؤية المقدورة لجمهور الناس في عصره، ولكن إذا وجدت وسيلة أدق وأضبط وأبعد عن الغلط والوهم، فليس في السنة ما يمنع اعتبارها.

الثاني: أن السنة أشارت بالفعل إلى اعتبار الحساب في حالة الغيم، وهو ما رواه البخاري في كتاب الصوم من جامعه الصحيح بسلسلته الذهبية المعروفة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان، فقال: “لا تصـوموا حتى تروا الهـلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له” (قدر يقدر – بالضم والكسر – بمعنى قدّر، ومنه قوله تعالى: (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) (المرسلات:23) .

وهذا “القَدْر” له أو “التقدير” المأمور به، يمكن أن يدخل فيه اعتبار الحساب لمن يحسنه، ويصل به إلى أمر تطمئن الأنفس إلى صحته، وهو ما أصبح في عصرنا في مرتبة القطعيات، كما هو مقرر معلوم لدى كل من عنده أدنى معرفة بعلوم العصر، وإلى أي مدى ارتقى فيها الإنسان الذي علمه ربه ما لم يكن يعلم.

وقد كنت ناديت منذ سنوات بأن نأخذ بالحساب الفلكي القطعي ـ على الأقل ـ في النفي لا في الإثبات، تقليلاً للاختلاف الشاسع الذي يحدث كل سنة في بدء الصيام وفي عيد الفطر، إلى حد يصل إلى ثلاثة أيام بين بعض البلاد الإسلامية وبعض. ومعنى الأخذ بالحساب في النفي أن نظل على إثبات الهلال بالرؤية وفقا لرأي الأكثرين من أهل الفقه في عصرنا، ولكن إذا نفى الحساب إمكان الرؤية، وقال: إنها غير ممكنة، لأن الهلال لم يولد أصلاً في أي مكان من العالم الإسلامي ـ كان الواجب ألا تقبل شهادة الشهود بحال؛ لأن الواقع ـ الذي أثبته العلم الرياضي القطعي ـ يكذبهم. بل في هذه الحالة لا يطلب ترائي الهلال من الناس أصلاً، ولا تفتح المحاكم الشرعية ولا دور الفتوى أو الشؤون الدينية أبوابها لمن يريد أن يدلي بشهادة عن رؤية الهلال.

هذا ما اقتنعت به وتحدثت عنه في فتاوى ودروس ومحاضرات وبرامج عدة، ثم شاء الله أن أجده مشروحًا مفصلاً لأحد كبار الفقهاء الشافعية، وهو الإمام تقي الدين السبكي (ت 756هـ) الذي قالوا عنه: إنه بلغ مرتبة الاجتهاد.

فقد ذكر السبكي في فتاواه أن الحساب إذا نفى إمكان الرؤية البصرية، فالواجب على القاضي أن يرد شهادة الشهود، قال: (لأن الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان، والظني لا يعارض القطعي، فضلاً عن أن يقدم عليه).

وذكر أن من شأن القاضي أن ينظر في شهادة الشاهد عنده، في أي قضـية من القضــايا، فإن رأى الحـس أو العـيان يكذبها ردهـا ولا كـرامة. قال: (والبينـة شـرطها أن يكون ما شهدت به ممكنا حسًا وعقلاً وشرعًا، فإذا فرض دلالة الحساب قطعًا على عدم الإمكان اسـتحال القول شرعًا، لاسـتحالة المشــهود به، والشرع لا يأتي بالمســتحيلات. أما شهادة الشهود فتحمل على الوهم أو الغلط أو الكذب)(20).

فكيف لو عاش السبكي إلى عصرنا ورأى من تقدم علم الفلك ـ أو الهيئة كما كانوا يسمونه ـ ما أشرنا إلى بعضه؟!

وقد ذكر الشيخ شاكر في بحثه أن الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الشهير في وقته، كان له رأي ـ حين كان رئيسًا للمحكمة العليا الشرعية ـ مثل رأي السبكي، برد شهادة الشهود إذا نفى الحساب إمكان الرؤية، قال الشيخ شاكر: (وكنت أنا وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه، وأنا أصرح الآن أنه كان على صواب. وأزيد عليه وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال. إلا لمن استعصى عليه العلم به)(21).ا هـ.

حقائق ينبغي أن يتفق عليها

ومع ترجيحي للعمل بالحساب على الأقل في النفي لا في الإثبات كما ذكرت، يجب أن أؤكد هنا حقائق ثلاثًا، ينبغي ألا يختلف عليها:

الأولى: أن في هذا الأمر ـ أعني ما يتعلق بإثبات دخول الشهر ـ سعة ومرونة بالنظر إلى نصوص الشرع وأحكامه، واختلاف العلماء في هذا المقام توسعة ورحمة للأمة. فمَنْ أثبتَ دخول الشهر بعدل أو عدلين، أو اشترط جمًا غفيرًا لم يبعد عما قال به بعض فقهاء الأمة المعتبرين، بل مَنْ قال بالحساب وجد له في السلف قائلاً، منذ عهد التابعين فمَنْ بعدهم. ومن اعتبر اختلاف المطالع، ومَنْ لم يعتبرها له سلفه، وله دليله، فلا يجوز أن ينكر على من أخذ بأحد هذه المذاهب والاجتهادات، وإن رآها هو خطأ، إذ القاعدة: “أن لا إنكار في المسائل الاجتهادية”.

الثانية: أن الخطأ في مثل هذه الأمور مغتفر، فلو أخطأ الشاهد الذي شهد بأنه رأى هلال رمضان، أو شوال، وترتب عليه أن صام الناس يومًا من شعبان أو أفطروا يومًا من رمضان، فإن الله تعالى أهلٌ لأن يغفر لهم خطأهم، وقد علمهم أن يدعوا فيقولوا: ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة:286).

حتى لو أخطأوا في هلال ذي الحجة، ووقفوا بعرفة يوم الثامن أو العاشر، في الواقع ونفس الأمر، فإن حجهم صحيح ومقبول، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.

الثالثة: أن السعي إلى وحدة المسلمين في صيامهم وفطرهم، وسائر شعائرهم وشرائعهم، أمرٌ مطلوب دائما، ولا ينبغي اليأس من الوصول إليه، ولا من إزالة العوائق دونه، ولكن الذي يجب تأكيده وعدم التفريط فيه بحال، هو: أننا إذا لم نصل إلى الوحدة الكلية العامة بين أقطار المسلمين في أنحاء العالم، فعلى الأقل يجب أن نحرص على الوحدة الجزئية الخاصة بين أبناء الإسلام في القطر الواحد.

فلا يجوز أن نقبل بأن ينقسم أبناء البلد الواحد، أو المدينة الواحدة، فيصوم فريقٌ اليوم على أنه من رمضان، ويفطر آخرون على أنه من شعبان، وفي آخر الشهر تصومُ جماعة، وتعيد أخرى، فهذا وضع غير مقبول.

فمن المتفق عليه أن حكم الحاكم، أو قرار ولي الأمر يرفع الخلاف في الأمور المختلف فيها.

فإذا أصدرت السلطة الشرعية المسئولة عن إثبات الهلال في بلد إسلامي ـ المحكمة العليا، أو دار الإفتاء، أو رئاسة الشؤون الدينية، أو غيرها ـ قرارها بالصوم أو بالإفطار، فعلى مسلمي ذلك البلد الطاعة والالتزام؛ لأنها طاعة في المعروف، وإن كان ذلك مخالفا لما ثبت في بلد آخر، فإن حكم الحاكم هنا رجح الرأي الذي يقول: إنَّ لكل بلد رؤيته.

وقـد ثبتَ عـن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قـال: “صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون”(22)، وفي لفـظ “وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون”(23)،  وبلفظ: “الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون”(24)، وقد روى أبـو داود هذا الحديث تحت عنوان “باب إذا أخطأ القوم الهلال”.

قال الإمام الخطابي: معنى الحديث أن الخطأ موضوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، فلو أن قومًا اجتهدوا، فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين، فلم يفطروا حتى استوفوا العدد، ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعة وعشرين، فإن صومهم وفطرهم ماض، فلا شيء عليهم من وزر أو عنت، وكذلك هذا في الحج إذا أخطأوا يوم عرفة، فإنه ليس عليهم إعادته ويجزيهم أضحاهم كذلك، وإنما هذا تخفيف من الله سبحانه ورفق بعباده. ا هـ.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

والله أعلم.

……………………

(1) متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان، 656، معنى (أغبى): من الغباء وهو الغبرة في السماء.

(2) نفسه، 653، ومعنى (غم): أي أخفي وغطي بسحاب أو قترة أو غير ذلك.

(3) رواه أبو داود (2342)، والدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم، قال الدارقطني: تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة، ذكره النووي في المجموع 6/276.

(4) رواه أبو داود (2341)، والترمذي مرسلا ومسندا، وقال : فيه اختلاف (691)، والنسائي، وقال : المرسل أولى بالصواب، وابن ماجه (1652)، وفي سنده مقال.

(5) رواه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري، ورجاله رجال الصحيح، إلا الحسين بن حريق وهو صدوق وصححه الدارقطني في نيل الأوطار 4/261 ط دار الجيل بيروت.

(6) ذكره في حاشية ابن عابدين نقلا عن البحر 2/92

(7) انظر التعليق على المغني مع الشرح 3/93.

(8) انظر الاختيار في شرح المختار 1/29

(9) المجموع 6/270.

(10) انظر: فتح الباري 6/23، ط. الحلبي.

(11) المجموع 6/270، ط. المنيرة.

(12) انظر: المجموع 6/279، 280.

(13) رواه أبو داود في الطب (3905) وابن ماجة في الأدب (3726)، وأحمد في المسند (2000) وقال شاكر: إسناده صحيح، وصححه النووي في الرياض، والذهبي في الكبائر كما في فيض القدير 6/80.

(14) تلخيص الحبير مع المجموع 6/ 266، 267.

(15) رواه مسلم وغيره.

(16) رواه البخاري في كتاب الصوم. ورواه مالك في الموطأ (الموطأ 1/ 269). والبخاري ومسلم وغيرهما بلفظ: “الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له”.

(17) فتح الباري 4/108، 109.

(18) انظر: شرح القاضي أبي بكر بن العربي على الترمذي 3 /207، 208، وطرح التثريب 4/ 111 – 113 وفتح الباري 4/ 104.

(19) رسالة “أوائل الشهور العربية ” ص 7 – 17 نشر مكتبة ابن تيمية.

(20) انظر: فتاوى السبكي 1/219، 220 نشر مكتبة القدس بالقاهرة.

(21)  رسالة “أوائل الشهور العربية” للشيخ شاكر ص 15.

(22) الترمذي: وقال: حسن غريب 697.

(23) أبو داود (2324) .

(24)  رواه ابن ماجة (1660)، من طريق حماد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة، قال الشيخ شاكر: (وهذا إسناد صحيح جدا على شرط الشيخين).

(المصدر: موقع د. يوسف القرضاوي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى