مقالاتمقالات مختارة

الحزبية: ما طبيعتها؟ وما مقومات مرجعياتها وفعلها السياسي؟ – الفصل الأول –

الحزبية: ما طبيعتها؟ وما مقومات مرجعياتها وفعلها السياسي؟ – الفصل الأول –

بقلم أ. أبو يعرب المرزوقي

كان علي قبل الكلام في تفتت الأحزاب، الظاهرة التي نراها تتكرر في تونس – وآخرها التزامن بين تفتت حزب الرئيس السابق والحالي -، أن أقدم التفتت المتقدم عليه والشارط له بعيد الثورة التي فتحت المجال للتنظيم الحر والسعي الحماسي للتعبيرعن إرادة الجماعة تعبيرا متلعثما ومتعثرا لفقدان الانتظام إلى حد الفوضى.
والأمران بحاجة للفهم للجواب عن سؤالي الدافع والمقوم
ما الدافع لتكوين الأحزاب التي تكاثرت إلى حد تجاوز المائتين بعد الحزب الواحد؟
وما بنية التحزب أو طبيعة الانتظام الحزبي الذي حكم الحركة التي حصلت بعد الثورة؟
وهل يمكن اعتبار التفتت الثاني عودة إلى طبيعة المحددات التي من المفروض أن تحكم الحزبية من حيث هي أداة سياسية؟

مسألتان إذن:
1-ظرفية تتعلق بالتفتت الاصلي الذي نشأت عنه فورة تكوين الاحزاب والتفتت الفرعي الذي نشأ عنه تحلل الأحزاب بعد الثورة
2-وبنيوية تتعلق بما يجعل الأحزاب تتكون بلاحمة بين الأفراد على أساس خيارات علينا تحديد طبيعتها وبعدي تقومها وعلل بقائها أو زوالها بمقتضى وظيفتها.

لكن المسألة الظرفية هي بدورها يمكن أن يكون لها وجه بنيوي
إذ إن الانفجارين بالتفتيت الأول الذي نشأت عنه الأحزاب والتفتيت الثاني الذي انفرط به عقدها لا يمكن أن يكون مطلق الظرفية.
فهو لم يحدث بالصدفة بعد أن كان شبه ممتنع أو ممنوع بقوة الحزب الواحد أو بـ”قيمة” الوحدة الوطنية النافية للتعدد.
فيكون الجامع بين الوجهين ذا صلة بعلاقة الوحدة بالتعدد وجوديا وبعلاقة الاتفاق والاختلاف سياسيا شرطي الجمع بين بعدي العمل الموفق بين الحرية والنظام.
وذلك هو شرط العيش السلمي المشترك في مستوى العمران (سد الحاجات) ومستوى الإجتماع (الأنس بالعشير) لعلاج العلاقة بالطبيعة والعلاقة بالتاريخ.
فالعمران علاقة عمودية بين الإنسان والطبيعة لإنتاج شروط قيامها العضوي بالتعاون لإنتاج مادة التبادل أو الحياة الاقتصادية والاجتماع علاقة أفقية بين الإنسان والتاريخ بالتفاهم لإنتاج شروط قيام الجماعة الروحي لإنتاج مادة التواصل أو الحياة الثقافية.
وذانك هما شرطا قيام الجماعة: أداة وغاية
وهما مجال العمل السياسي في أي جماعة مهما كانت بدائية.

وهذه السياسة تقتضي فعلين
أحدهما يغلب عليه الفعل الذاهب من ظاهر الإنسان إلى باطنه أو من بدنه إلى روحه وهو الحكم وينتج عنه الوازع الأجنبي بمصطلح ابن خلدون
والثاني يغلب عليه الفعل الذاهب من باطن الإنسان إلى ظاهرة أو من روحه إلى بدنه وهو التربية وينتج عنه الوازع الذاتي بنفس المصطلح

فما دور الحزبية فيهما؟

فهل البنيوي في الحزبي من حيث هو “قوة سياسة” ذو علاقة بهذين الدورين السياسيين؟
هل الحزب شبه خلية تربية وحكم يعد لوظيفة السياسي بالاستعداد لملء خانات الدولة التي هي بنية مجردة أي إنه يستعمل التربية والحكم ليكوّن نخبة ممثلة لإرادة الجماعة وساعية لخدمتها؟

نعتمد هذا التعريف للعلاج
وبهذا التعريف لا وجود لأحزاب في تونس بل عندنا شكلان مزيجان بصدد التحول: 1
-تنظيم الإسلاميين: شكل لم يصبح بعد حزبا لأنه ما يزال متأرجحا بين بداية مذهبية وغاية حزبية
و2-تنظيم البورقيبيين: شكل لم يصبح بعد مذهبا لأنه ما يزال متأرجحا بين بداية حزبية وغاية مذهبية.

أما بقية التنظميات التي تسمي نفسها أحزابا فهي فاقدة للشرطين.
مجرد لقاء سريع من أجل المشاركة في الحكم مباشرة دون مرور بما مرت به الحركات الإسلامية التي كانت تمثل معارضة مذهبية وليست حزبية والحزب الحاكم الذي كان يحكم براجماتيا وليس له مذهب محدد يعتمد عليه.
إنها بلا لحام.

واللحام إذن يكون بالبداية وهي في الغالب أعمق من اللاحمة السياسية وبالغاية وهي في الغالب سياسية بالجوهر بشرط أن تكون للغاية بداية وللبداية غاية.
والمشكل بالنسبة إلى الإسلاميين أنهم لم يعانوا مما بين البداية والغاية من مصاعب تهدد اللاحم.
البحث عن لاحم بداية بعد فقدان لاحم الغاية.

بقية الاحزاب مشكلها مضاعف:
تريد الغاية من دون البداية وتلك هي علة هشاشتها.
فهي تطلب الحكم ليكون لاحما وليس لها ما يسمك بها مثل الإسلاميين ولم تحكم مثل البورقيبيين.
فلإسلاميين قاعدة ثابتة بالبداية وللبورقيبيين قاعدة شبه ثابتة بماضي الغاية التي تريد أن تشتق منه مذهبا ليكون بداية
ذلك أن بداية البورقيبية سلبية لأنها تأسست على الانشقاق عن حزب كانت له لاحمة تجمع بين بداية الإسلاميين وغاية البورقيبيين. ولما انشق بورقيبة (حزب الدستور الجديد) عن الثعالبي (حزب الدستور القديم) صار الدستور القديم بداية فقدت الغاية وصار الدستور الجديد غاية فقدت البداية.
لكن الإسلاميين والبورقيبيين لا يمكن أن يكون أي منهما حزبا بالمعنى الحديث للحزب لأنهما ما يزالان فاقدين للوصل بين البداية والغاية في كل حزب:
فالبداية مرجعية تؤسس لوظيفتي السياسي أعني للخيارات الثقافية والاقتصادية وما تقتضيه من تنظيم سياسي هو أداة فعلي التربية والحكم لتحقيقها.

فلنتجاوز هذه الرؤية الجديدة التي توهم بأن الأحزاب ليست إلا استراتيجيات انتخابية. فصحة هذه الرؤية تخفي بظاهرها ما فيها من إيهام، مثال ذلك استراتيجية أوباما أو ماكرون وحتى ترومب التي تبدو بنحو ما خروجا عن الحزبية بمعنيي الخروج وتبدو مؤيدة لهذه الفكرة: الحزب أداة انتخابية لا غير.

وهذه علة ما ينخدع به أصحاب الماراتون الحالي في “الاحزاب” الناشئة في تونس والتي يتصور الكثير أنها قابلة لاثبات هذه النظرية. وهي وهم.
فما يسمى بحزب الرئيس -وهي بدعة فرنسية يقلدها المغاربة ربما كانت بدايتها مشروع الجنرال دوجول وطبيعة نظام الجمهورية الخامسة.
وهي على شكلين.
الشكل الأول نسبي وهو شبه ثورة في حزب ذي تقاليد.
والثاني مطلق وهو شبه ثورة في تعفن الحياة السياسية التقليدية.
ويبدو أن المسار الذي يراد له أن يحدث في تونس هو من هذا الجنس.
،والانتقال في هذه الحالة قد لا يكون سلميا بل قد يصبح انقلابا في البلدان التي ليس لها تقاليد ديموقراطية
فتعفين المناخ السياسي الذي يلعب عليه أصحاب الماراتون والاتحاد وجل النخب التي كانت تتمعش من “التلحيس” للنظام القديم مغامرة غير محسوبة قد تنهي الحياة السياسية السلمية وتقضي نهائيا على الديموقراطية كما حدث في مصر وكما قد يحدث في الولايات المتحدة بسبب حماقات ترومب.
وحتى عودة الجنرال دوغول سنة 1958 فهي شبه انقلاب بل وقد ساعد عليها انقلاب جنرالات الجزائر وعجز الأحزاب في الجمهورية الرابعة دون علاج القضية الجزائرية وما بدأ يعم من تعفن الحياة السياسية التي تحولت إلى ما يشبه بيزنطيات المجالس الرومانية لما انحطت الامبراطورية.

ولأعد الآن إلى ما يمكن أن يعتبر جمعا سويا بين مرجعية تكون بداية ولاحما للقوة السياسية التي تنتظم في شكل حزب وغاية للقوة السياسية التي تحقق قيم تلك المرجعية بترجمتها سياسيا في ثقافة هي معين التربية وفي اقتصاد هو معين الحكم.
والسياسة هي تفاعلهما المحقق لشرطي السيادة رعاية وحماية
فيكون الحزب هو القوة السياسية التي لا تعتمد على عصبية الدم (القبيلة) بل على عصبية بداية قيمية أصلا مرجعيا وغاية سياسية تحقيقا للقيم المرجعية بأداتي التربية والحكم من أجل تحقيق الرعاية والحماية الذاتيتين وهما شرطا السيادة التي هي عين إرادة جماعة الأحرار في السلم وفي الحرب.

وبذلك نكتشف أن أول شروط الحزبية هو طلب شروط إمكان السيادة رعاية وحماية.
ومعنى ذلك أن ما كان يتميز به الجنرال دوجول مثلا ليس كونه كون حزبا استعاد سيادة فرنسا في الرعاية وفي الحماية بل لإدراكه أن وحدة أوروبا باتت شرطا لسيادة دولها بعد فقدانهم دورهم العالمي في الحرب الثانية.
وهذا الشرط شبه غائب في ذهن الخارجين على الدكتور المرزوقي وهو يفضل عليهم بالوعي الشديد بهذه الضرورة وهي من عناصر احترامي له رغم كوني اعتقد أنه لا يملك استراتجية لتحقيق هذه الغاية وتلك علة اعتراضي على اختياره رئيسا .
والإسلاميون بدأوا يتنازلون عما يتجاوز القطرية.
وحتى لا أظلم أحدا منهم فلعل الامر مفروض عليهم ظرفيا.
لكن ذلك كان كذلك حتى قبل الثورة في البلاد التي حكمها إسلاميون حتى وإن كانت محاصرتهم فيها شيء من الفرض الجنيس لما يطلب من الحركات الإسلامية شرطا للقبول بهم الاقتصار على القطر مبدئيا ومن حيث المرجعية وليس في الممارسة فحسب.
وكل ما يراد فرضه على الحركات الإسلامية بخصوص المرجعية مبني على مغالطتين عند من يحاول تحديد دور الديني في السياسي وتحديد دور الفلسفي فيه فعلا وانفعالا للتوهم بأن الديني والفلسفي من حيث جوهر الوظيفة المرجعية التي تحيل عليهما وخلطها بالوجه التعبدي في الأول واللاتعبدي في الثاني.
ما يعني أن الإسلامي والعلماني كلاهما لا يدرك حقيقة علاقة السياسي بمرجعيته سواء كانت منتسبة إلى الديني أو إلى الفلسفي من حيث وعيه بطبيعة رجوعه إلى النظام القيمي المتعلق بالتربية وبالحكم أداتي تحقيق تلك القيم بوصفها شروط الوجود الجمعي رعاية وحماية فيتصور المرجعي فيهما متنافيا.
لم ينتبه صاحب المرجعية العلمانية أنها لم تمنعه من أن يكون مستبدا وفاسدا ولم ينتبه صاحب المرجعية الدينية أنها لمن تمنعه من أن يكون مستبدا وفاسدا ومن ثم أن ما ينفي عن السياسي حقيقة دوره ليس طبيعة المرجعية الدينية والعلمانية بل هو ما ينافي ما لو كان منهما حقا لكان واحدا عندهما.

وهذا هو سر دستور الرسول:
فهو معاهدة تحدد شروط العيش المشترك بمعناه السياسي الذي يمكن أن يتأسس على ما تستمده المرجعيات المختلفة من مرجعيّ في الوظيفة السياسية التي هي تحقيق شروط الرعاية وشروط الحماية الواحدة للجميع دون اعتبار ما تتميز به في ذاتها خارج ما يستمده السياسي منها.
ذلك أن دستور الرسول معاهدة سياسية تشترك في الوظيفتين السياسيتين:
1-نظام الرعاية أو التعاون على تحقيق شروط القيام العضوي للجماعة من حيث انتاج مقومات العيش بالتعاون والتبادل والتعاوض العادل وشرطه التواصل بين المتعاونين في نظام الرعاية والاعتراف بمستويي التعدد العقدي.
فالمعاهدة فيها المستوى الأول من التعدد العقدي ويتقابل فيه المؤمن والمشرك.
وفيها المستوى الثاني من التعدد العقدي حيث التقابل بين نوعين من الإيمان. ومن ثم فالمسألة الدينية بمستوييها محيدة في التعاون والتواصل ونظاميهما بين المتعاهدين لتحقيق شروط الرعاية للجميع.
2- وهي محيدة كذلك في البعد الثاني من المعاهدة المتعلقة بوظيفة الدولة من حيث هي شرط الحماية مثلما هي محيدة في وظيفتها من حيث هي شروط في الرعاية.
وإذن فلا بد أن يكون المشترك في التأسيس المرجعي هو المشترك الذي لا يتغير في مستويي العقد اللذين لا يتغيران تربية وحكما ويحققان الوظيفتين

فما الذي يجعل التربية والحكم يحققان شروط الرعاية والحماية دون أن يكون ذلك مشروطا بوحدة العقيدة إيجابا أو سلبا؟
أو ما الذي يحيّد الاختلاف العقدي وجودا وعدما (وعدم العقد وهم لا يمكن أن يعيش الإنسان من دونه مهما ادعى الالحاد لأنه عقد في نظام الطبيعة على الأقل)؟:
جوهر دستور الرسول.

ويمكن ترجمة هذين المسألتين بلغة ما تقتضيه التربية والحكم ليحققا دورهما في الرعاية والحماية.
ففي الحماية لا بد أن تكون التربية تكوينا يجهز الإنسان للمشاركة في توزيع العمل الذي ينتج شروط بقاء الجماعة من حيث هي كائنات عضوية (الاقتصاد والتبادل) وكائنات روحية (الثقافة والتواصل) كبشر
وهي إذن قضية التكوين النظري والعملي للإنسان حتى يكون مشاركا في الإنتاجين المادي والروحي الذي يحقق شروط التعاون لعلاج العلاقة العمودية بالطبيعة وشروط القيام المادية والعلاقة الافقية بالتاريخ وشروط القيام الروحية:
التربية العلمية والتربية الخلقية المشروطة في كل عقد حتى السلبي
والتربية العلمية والخلقية (أساسهما التربية الذوقية لأن النظر والعمل كلاهما ذوقي بالأساس إما ذوق الوجود عامة وهو أساس المعرفة أو ذوق الاشتراك فيه عامة وهو أساس الأخلاق فيكون الذوق هو وحدة المعرفي والخلقي وهو ذوق الحياة من حيث هي وجود ووجود مشترك دائما) وهما شرط الرعاية والحماية

ولو قرأ الإسلامي دستور الرسول لفهم أن توهمه أن الدولة لا تكون إسلامية إلا إذا تحولت إلى الرؤية الشيعية فصار دور الرجوع إلى قيم القرآن مشروط بمرجعية تكون وسيطة روحيا ووصية سياسيا ليس دليل فهم للإسلام لأنه تخلى عن الحريتين اللتين انبنى عليهما: روحية بلا وساطة وسياسية بلا وصاية.

ولأنه لم يفهم ذلك لم يفهم علة تحرير الإسلام الإنسان من سلطة وساطة روحية بين المؤمن وربه وتحريره من سلطة وصاية سياسية بينه وبين أمره.
نفي الوساطة (الكنيسة) والوصاية تكون صاحبة الأمر بديلا من الجماعة تديره عوضا عنهم (أمرهم شورى بينهم): وذلك شرط مستويي التعدد العقدي.
فحتى يتعاهد المؤمن والمشرك ويتعاهد المؤمنون بأديان مختلفة – وهذا هو مضمون دستور الرسول – لا بد أن يكون مضمون التعاهد متعلقا بشروط البقاء رعاية وحماية وهما التربية والحكم اللذين يعدان الإنسان من حيث هو كائن حي وكائن ذو روح للتعاون على شروط البقاء رعاية وحماية عموديا وأفقيا.
وكلاهما ينتسب إلى الأبستمولوجي والأكسيولوجي أو شروط المعرفة العلمية التي تمكن من إنتاج شروط البقاء المادية والرمزية التي من دونها لا معنى للتعاون والتبادل والتعاوض أو شروط السلوك الخلقي الذي يمكن من جعل التعاون والتبادل والتعاوض يتم بقيم التعاقد أو التعاهد المشروط بالقيم الخمس
فلا تعاقد ولا تعاهد إلا إذا توفرت القيم الخمس:
أن يكون المتعاهدون أو المتعاقدون على تحقيق شروط الرعاية والحماية كما وصفنا لهم القيم التالية:
أن تكون إرادتهم حرة
وأن يكون علمهم صادقا
وأن تكون قدرتهم خيرة
وأن تكون حياتهم جميلة
وأن يكون وجودهم جليلا:

تلك هي صفات الإنسان الحر والكريم.
وهذه الصفات هي التي يسميها ابن خلدون “معاني الإنسانية” وبها يكون الإنسان في تعريفه الخلدون “رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”.
ومعنى ذلك أن دستور الرسول مشروط بهذه القيم حتى لو لم تكن موجودة لأنها منشودة.
فهي تنطلق من القدر الموجود إلى القدر المنشود:
اجتهاد الفضيلة

ويصف ابن خلدون نقيض هذه الوضعية بـ”فساد معاني الإنسانية” الناتج عن انعدام الحرية الروحية بسبب التربية العنيفة وانعدام الحرية السياسية بسبب الحكم العنيف.
ويقابل بين الإنسان الرئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له والإنسان الذي فقد الرئاسة ورد أسفل سافلين.
وهكذا فقد عدنا إلى ما انطلقنا منه:
هل النخب العربية تقبل الوصف بكونها:
حرة الإرادة ؟

وصادقة العلم؟
وخيرة القدرة؟
وجميلة الحياة؟
وجليلة الوجود؟

ولما كان موضوعي الأحزاب أعني أداة السياسة الاولى:
فهل المحرك هو الحرية أم العبودية – الجري وراء المال؟
هل هم يفعلون ما يقولون أم سفهاء؟
وهل لهم قدرة فعلية وخيرة أم هم يتظاهرون بها وهم دمى لا حول لهم ولا قوة؟
وهل لهم حياة جميلة أم هي من أقبح ما عرفت البشرية كذبا ونفاقا وانحطاطا؟
وأخيرا كيف يمكن أن يكونوا ذوي وجود جليل وهم يعتبرون السياسة أسرع طريق للإثراء لكونهم مخلدين إلى الارض من الماء إلى الماء؟
هل يوجد من تبلغ به السذاجة إلى تصديق أن خدمة الصالح العام والجماعة هي التي تعلل هذه الحمى السياسية التي تجعل كل مجموعة تكفي دراجة “بسكلات” لتنقلهم أن يكوّنوا أحزابا لوجه الله بحيث تصل تونس إلى تكوين 200 حزبا وعدد سكانها لا يتجاوز سكان بلدية عادية في ما يقبل اسم الدولة في العالم؟

هبنا تساذجنا فاعتبرنا كل ذلك من حماسة الالتزام بقيم الثورة.
لكن كيف التفسير حينها أن يرنو جل المتحزبين ذات اليمين وذات الشمال بحثا عن ممول لأحزابهم من أجل الوصول السريع ولو بالتحالف مع الثورة المضادة وبالانقلاب من أجل تأسيس “فون دو كومارس” للإثراء السريع مثل من أطاحت بهم الثورة؟
من يصدق أن من يسمون أنفسهم “ديموقراطيين” يحالفون امراء بعض القبائل وبعض العسكر ممولي الثورة المضادة بحماية إسرائيل وأمريكا أو يحالفون بعض القبائل وبعض العسكر محاربي الثورة بحماية ملالي إيران وروسيا لمنع نشأة الإنسان الحر والكريم في بلادنا من الماء إلى الماء؟

ذلك هو ماراتون العسكر المكسيكي الذي تكلمت عليه سابقا والذي كانت أحداثه منطلقي في الكلام على مفهوم الحزب وطبيعة دوره من حيث هو عصبية ذات لواحم أصلها في مرجعية وفرعها في وظيفة وكلتاهما لا علاقة لها بما جعلوه منطلقا للصراع الذي لا صلة له بشروط السيادة حماية ورعاية.
وهكذا يتبين أنه:
1-لا وجود لأحزاب فعلية بما في ذلك النهضة والنداء.
2-أن المعركة التي تقابل بين الإسلامي والعلماني والتي تلطف زورا وبهتانا بالمقابلة بين الديمقراطيين والإسلاميين لكأن الأولين ديموقراطيون بالجوهر والثانون لا ديموقراطيون بالجوهر لا علاقة لها بالتقابل المرجعي.
فالإسلام لا يوجب على الدولة أن تتحول إلى كنسية وسيطة بين المؤمن وربه ولا إلى وصية تحكم بإحدى صيغ شرع الله (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) كما يبينه دستورالرسول.
فالسياسي كما بينا يتعلق بشروط القيام تبادلا وتواصلا لتحقيق شروط الرعاية والحماية ثمرة لتعاقد بين أحرار
ويبدو أن الإسلاميين بدأوا يفهمون أكثر من العلمانيين.
فهؤلاء هم المتشبثون بفهم عقيم للعلاقة بين السياسي وما يستمده من المرجعي فيكونوا هم الأكثر انتسابا لنزعة كنّست الدولة وجعلتها وسيطا روحيا ووصيا سياسيا ثم يصفونها بعكس ما يترتب على هذين التحريفين للسياسي بجعل الدولة وسيطة ووصية
والتفسير التاريخي معلوم. وهو ذو مصدرين.
الأول هو العلمانية اليعقوبية التي لم تفصل بين الدولة والكنيسة بل استحوذت على ما كان للكنيسة من دور أي إنها صارت هي الوسيطة الروحية على ما في الأذهان وهي الوصية السياسية على ما في الأعيان لوجود الجماعة.
عبارة الفصل كذبة تجلت في الماركسية.
وذلك هو المصدر الثاني لهذا التحريف:
فالحزب الشيوعي وسيط كنسي فعلي لأنه يتحكم بما في الأذهان طبعا بعنف الدولة وهو وصي يحكم بحق الطبيعة وليس بالحق الإلهي أي إن سلطان الحزب هو بعد هذا النوع من التربية المأخوذة عن الكنسية التي يدعى أنها حذفت والحكم الوصي الذي يفرضها بعنف الدولة.
ومعنى ذلك أن العلمانية اليعقوبية تجلت حقيقتها في العلمانية الماركسية:
ليس فصلا بين الدولة والدين بل استحواذ الدولة على وظائف الدين في فهمه الكاثوليكي والأورثودكسي واليهودي خاصة.
علمانيو العرب – كذبة رائجة لأن العسكر والقبائل ونخبهما التابعة ليس لها فكر ديني ولا فلسفي بل غباء المقلدين.

ما فهمه الرسول وطبقه في دستوره هو أن العقد السياسي الاجتماعي – أو الدستور – معاهدة بين المختلفين في المرجعيات سواء كانت مؤمنة أو مشركة – هدفها تحقيق شرطي الرعاية الاقتصادية والثقافية والحماية في الداخل والخارح مع تعدد الشرائع والعادات والمرجعيات التي تتعايش بمقتضاهما بالتربية والحكم
وذلك كله مشروط بأن يكون الإنسان حر الإرادة (شرط التعاقد) صادق الوعي خيّر القدرة جميل الحياة وجليل الوجود.
ومعنى ذلك أن الإسلام يعتبر هذه الخصائص هي ما ينبغي أن يستمده الإنسان من المرجعية سواء كانت دينية أو فلسفية لأنها هي القيم المشتركة للإنساني دينيا وفلسفيا من حيث هما ما هما.

وإذن فمجرد ابقاء أصحاب الماراتون هذه المقابلة الدعيّة والزائفة بين “الديموقراطيين” والإسلاميين أو التنويريين والظلاميين أو الحداثيين والرجعيين كل ذلك يفيد العكس تماما.
ديموقراطيتهم فترينة أقوال عكس الأفعال يعتبرون أنفسهم وسطاء وأوصياء بتنوير ظلامي وحداثة استعمارية مع “الانديجان”

لذلك فليس عجيبا أن يندفع هؤلاء في “راش” إلى صف الثورة المضادة بحثا عن شروط الوصول إلى الحكم ليأسهم من الوصول إليه بالديموقراطية لأن الشعب لم يعد أنديجان ولأن مطلوبهم ليس تحقيق شروط الرعاية والحماية بل الوصول إلى “فرصة” النهب والسلب التي تحكم الثورة المضادة وحماتها.

وليس عجيبا أن تراهم من صناع الإرهاب الذي هو الوسيلة الوحيدة لإلقاء التهم على الإسلاميين وإرضاء حماتهم حتى يسندوهم في معارك يعلمون أنهم أعجز الناس عن ربحها سلما أو حربا.
ومن علامات سخف الماراتونيين ما احتجوا به على المرزوقي.
خيانتهم دليل سوء تحليل:
الثورة المضادة لم تربح المعركة
انحيازهم ضد من يتهمون المرزوقي بالانحياز إليهم ليس دليل ذكاء سياسي ولا بعد نظر:
فإذا كانت إيران وكل مليشياتها ومساعدة بوتين وسكوت الغرب وخيانة الانظمة العربية كلها قد عجزت مدة أكثر من سبع سنوات في هزيمة ثورة سوريا وليبيا واليمن وتونس فهذا دليل على أن المستقبل للثورة وليس لأعدائها
والدليل الأقوى هو أن الشعب السوري خاصة عاد إلى ما بدأ به ثورته ولو في ما بقي تحت سلطان الثورة بحماية تركية:
المظاهرات السلمية التي تعبر عن نفس المطالب التي ما تزال حية وتزلزل الانظمة العسكرية والانظمة القبلية والنخب العميلة وهي ما يخيف إيران وإسرائيل وحاميهما.

(المصدر: موقع أ. أبو يعرب المرزوقي)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى