الحرية للدكتور (ذاكر نايك)
بقلم د. عطية عدلان
عندما سأَلَتْهُ فتاة نصرانية: هل أنا سأدخل الجنة أم سأدخل النار؟ جاءت إجابته على هذا النحو: إن كنت مسيحية حقاً وتتبعين المسيح عليه السلام حقَّ الاتباع فستدخلين الجنة إن شاء الله؛ مشيراً إلى أنّ اتباعها للمسيح سيقودها إلى الإيمان بمن بَشّر به المسيح – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – هذا الأسلوب في المحاورة مع قوة الحجة وسطوع البرهان هو أبرز ما يميز دعوة الدكتور ذاكر نايك، وهو منهج قرآنيّ غاية في القوة والرّقّة، وما أجمل أن تجتمع القوة مع الرقة في خطاب لداعية إلى حقّ! وهذا المنهج هو سرُّ نجاح دعوة الرجل وهو كذلك سرّ تكالب قوى الطغيان عليه وتنافسهم في النيل منه.
“ذاكر نايك” طبيب هنديّ وداعية إسلاميّ كبير، انشغل عن مهنة الطب بممارسة الدعوة للإسلام، متأثرا بعض التأثر بأسلوب أحمد ديدات في مناظراته، لكنه صار أوسع تأثيرا من ديدات بسبب شدة حضوره ولين خطابه، وبسبب التزامه الشديد بتعاليم القرآن في الدعوة والجدال: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل 125) (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت 46).
وليس بين “ذاكر نايك” أيّ خصومة مع أيّ نظام أو دولة أو شعب أو أهل ملة من الملل، وليس في دعوته أيّ تحريض أو تحريش على أيّ بلد من البلاد أو أمّة من الأمم، ولا يوجد ما يؤخذ عليه إلا نجاحه الباهر في نقل الناس بالدعوة الرشيدة والحجة السديدة إلى الإسلام؛ فأين هو الجرم الذي استفزّ الأنظمة في الغرب والشرق ضده؟! فإذا بدولة كبريطانيا – التي كانت يوما من الأيام موطناً لدعاة الحرية – تمنعه من دخول أراضيها في حزيران 2010م متهمة إياه بالترويج للإرهاب! وإذا بحكومة الهند تطالب بتسليمه بزعم ازدراء الأديان والحض على الكراهية، أمّا حكومة بنغلاديش فقد اتهمته من دون أدنى دليل بالتحريض على هجوم وقع في العاصمة دكا وأسفر عنه مقتل 22 دبلوماسيا، والكلّ يضغط على ماليزيا من أجل تسليمه، والأقوال تتضارب حول اعتزام الحكومة الماليزية تسليمه، ليس هذا وحسب بل إنّ جماعات هندوسية وأخرى شيعية رصدت أموالاً ضخمة كمكافأة لمن يبادر لقتله!
إنّ لِهذا الحدث الكاشف دلالاتٍ تشع منه في كل اتجاه، كل دلالة منها لها وزنها في تقييم الأفكار، وفي تقييم أوضاع هذا العالم الذي يستظل بما يسمى بالنطام العالميّ الجديد، أول وأظهر هذه الدلالات أنّ الحق يملك قوة ذاتية مزلزلة؛ تمنحه – لو اتبع الدعاة إليه السبيل القويم – الظفر والظهور، هكذا كان الحق على مَرِّ الدهر وكرِّ العصور، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يملك سوى الدعوة بالقرآن، ومع ذلك كانت دعوته بالقرآن على هذا النحو المزلزل الذي اضطر المعارضين إلى الفرار الدائم من مواجهته: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)) (المدثّر 49-51)، وإلى استنفار القوى والطاقات لمواجهة الخطر الداهم: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) (ص 6).
وقد كان “برونو” أحد كبار رواد الحرية الفكرية، وأنكر ربوبية المسيح وجهر بذلك، ولما دعي لفكر الإغريق قال: “دعوا الموتى يكفنون موتاهم” وطورد من بلد لبلد، وفي الأخير قبض عليه ومكث ست سنوات يحقق معه، وفي سنة 1600م حكم عليه بالإعدام حرقاً، فمضى لحتفه ثابتاً وهو يقول للقضاة: إنني على يقين من أن الرعب والفزع الذي يتملككم الآن أشد من مما يتملكني، وبعد 300 سنة نصب الإيطاليون له تمثالاً في المكان الذي أحرق فيه! “([1]).
ولو كانت دعاوى الباطل تثبت للبرهان لما اضطر إلى مواجهة البيان بالطغيان، وهذه دلالة أخرى ظاهرة وبادية، فقد كان أولى أن يواجهوا الحجة بالحجة والدليل بالبرهان، لكنهم لم يفعلوا؛ لأنّهم لا يملكون ما يواجهون به في ميدان البحث العلميّ، ولقد ذكرونا بصنيعهم المشين هذا، ذكرونا بسلوك الكنيسة في بواكير عصر النهضة تجاه العلماء ودعاة التنوير، حيث واجهت التفكير بالتكفير، والعلم بالظلم، والدعوة إلى الحرية بالقمع والاضطهاد والسادية، وإنّ مباشرة النظام العالميّ الإشراف على تتبع كل داعية حر وملاحقة كل لسان ينطق وكل بنان يكتب ليذكرنا بنظام التفتيش المهيمن الذي أحكم قبضته على عقول الناس وأخيلتهم، إلى حدّ أنّه “لما اكتمل نظام التفتيش وتم نموه بسط على العالم المسيحي الغربي شبكة كان من العسير أن ينفذ من عيونها “ملحد” واحد … ولم يعرف الناس نظاماً أبرع من ذلك النظام الذي ابْتُدع لاستعباد شعوب بأكملها وتعطيل تفكيرها وإخضاعها خضوعاً أعمى، ذلك النظام الذي رفع الوشاية والنميمة إلى أسمى مراتب الواجب الدينيّ”([2]).
هذا هو منهج الطغيان في كل زمان ومكان، ولقد لفت نظري تعبير فرعون عن إفلاسه تجاه الحجج المتوالية لنبيّ الله موسى عليه السلام، حيث تتدرج من الاستخفاف والاستهزاء إلى التشهير والتحذير ثم إلى التهديد والوعيد، بينما موسى عليه السلام ماض على الحقّ ثابت على البرهان: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)) (الشعراء 23-29).
أمّا الدلالة الأقوى فهي تلك التي لم يعد بمقدور أحد إخفاؤها، إنّ حرية الكلمة التي كفلها الإسلام ثم من بعده كفلتها العهود والمواثيق الدولية في خطر حقيقيّ؛ وذلك بسبب ذلك الانقلاب الأكثر نعومة وخداعاً ومخاتلة، والأطول نفساً والأعمق أثرا، وهو الانقلاب الذي جرى متتابعا على ثورات الشعوب في العصر الحديث، بدءاً من الثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر ومرورا بالثورتين الأمريكية والفرنسية في القرن الثامن عشر، وانتهاء بثورات الربيع العربيّ في بدايات القرن الحادي والعشرين، إنّ جميع هذه الثورات إنّما قامت لغرض واحد وهو أن تنال الشعوب حريتها، وأن تستمتع بممارسة الحريات وعلى رأسها حرية الكلمة، هذه الحرية كانت نداء وحداء الثورة في كل مكان، لكنّ الثورة المضاة كانت بالمرصاد لثورة الشعوب في كل مرحلة من مراحلها، فإذا بطغاة العالم يشغلون الشعوب بحريات شخصية محصورة في زاوية الجنس، بينما يفسحون الحرية لمن يملكون تمويل الإعلام الذي يصنع الرأي العام؛ من أجل أن يحكموا قبضتهم على ثروات الأرض؛ حتى غدت الحرية مركبا ذلولاً وموطئاً سهلا تحت أقدام الرأسماليين، إلى الحدّ الذي استثار الأحرار من المفكرين، فهذا أحدهم (راينهارد فيندريش) يصيح: “إلا أنّ الحرية تعني أيضاً – وهذا أمر ينساه الكثيرون – أن القويّ يفترس الضعيف”([3]).
إنّ اعتقال لسان وبنان عالم ومفكر هو بمثابة خنق قمريّ يهوى الشدو والغناء، وتقليم عصفور يعشق التحليق في علياء السماء؛ لذلك نطالب بإطلاق لسان وبنان كل عالم ومفكر حرّ، ونطالب برفع هذا الحصار المفتعل وغير المبرر عن الدكتور ذاكر نايك، وننادي بأعلى صوتنا: “الحرية لأرباب الفكر”.
([1]) راجع: حرية الفكر وأبطالها في التاريخ – سلامة موسى – مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة – مصر – بدون تاريخ – صــــــــــ119-120
([2]) حرية الفكر – جون بانيل بيوري – ترجمة محمد عبد العزيز إسحاق – الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية – مصر – ط 2010م المركز القومي للترجمة – صــــــــ54
([3]) اقتصاد يغدق فقرا – هورست أفهيلد – ترجمة د. عدنان عباس علي – عالم المعرفة 335 – الكويت – ط 2007م صــــــ159
(المصدر: الجزيرة)