مقالاتمقالات مختارة

الحركة الإسلامية في الصومال بين التعثر والاستمرارية .. «الإخوان، والسلفية، والتبليغ» نموذجا

الحركة الإسلامية في الصومال بين التعثر والاستمرارية .. «الإخوان، والسلفية، والتبليغ» نموذجا

بقلم د. عبد الرحمن بشير

نحن يجب أن نفرق بادئ ذي بدء ما بين العمل الإسلامي المنتمى إلى عالم التنظيم والتخطيط، والعمل الإسلامي المنبثق من الفكر الارتجالي، أو القائم على الاجتهادات الفردية، أو المبني على التاريخ كالحركات الصوفية، والعلماء التقليديين الذين يخرجون من محاضنهم سنويا العشرات من العلماء، فنعنى بالحركة الإسلامية ذلك العمل الذي يُؤْمِن بالإسلام عقيدة وأخلاقا، فكرا وسلوكا، منهجا وقيادة، تربية وتغييرا، ويعتقد بأن ذلك لا يمكن تحقيقه بدون عمل تنظيمي، فالزمن ليس لصالح الأعمال العفوية، أو الارتجالية، والآخرون ينظمون أنفسهم للوصول إلى الغايات من خلال تنظيمات فكرية، أو سياسية، أو حقوقية، ومن هنا نجد أن العمل الحركي في الصومال ينقسم إلى توجهات ثلاثة، توجه فكري وسياسي منبثق من القراءة الإخوانية، وعليه جماعة الإصلاح التي أسسها الشيخ محمد چريري الموجود في كندا، وجماعة آل الشيخ المتأثرة بأفكار ودروس الشيخ المفسر محمد معلم رحمه الله، وجماعة الوحدة في شمال الصومال «الصوما لاند»، والتوجه الثاني يكمن في الاتجاه العقدي، والقائم على الفكر السلفي، ولكنه في وقت متأخر تأثر بالفكر التنظيمي الإخواني من خلال الشيخ محمد بن سرور السوري، والشيخ محمد قطب المصري الذي انحاز في وقت متأخر من حياته إلى الفكر السلفي دون أن يترك الأفكار التي بلورها من خلال تأثره بشقيقه سيد قطب رحمهما الله، ويعرف في الصومال باسم «الإتحاد» حينا، أو «الاعتصام» حينا آخر، أما الاتجاه الثالث فهو اتجاه روحي، ولديه بساطة التدين الهندي، ولكنه يحمل في طياته مشروعا تنظيميا، ولديه طموح عالمي، وخطط في نشر التدين الروحي المتأثر بالفكر الهندي الصوفي الذي يجمع ما بين الروح والعمل والدعوة، ويعرف هذا الاتجاه باسم «جماعة الدعوة والتبليغ».

كتب المفكر الإسلامي الدكتور محمد بن المختار الشنقيطي كتابه حول الحركة الإسلامية في السودان، مدخل في فكرها الإستراتيجي والتنظيمي، وذكر في هذا الكتاب معايير ستة تدل على نجاح الحركات، والتنظيمات والأحزاب بعيدا عن أفكارها الأيديولوجية، أو مرجعيتها الدينية أو الوضعية، وهذه المعايير هي، المرونة، والاستيعاب، والتماسك، والإيجابية، والاستقلالية، والتركيب، وقد أضفت من جانبى إلى معايير ثلاثة وهي، الاستمرارية وعدم التوقف، والتجدد، والجمع بين التزكية والعمل، ذلك لأن الحركة كالشخص تولد، وتشب، وتشيخ، وتمرض، فتموت، وتخرج من الحياة، وبهذا يمكن أن تناضل في إطالة عمرها بسبب الاجتهاد الدائم، وإعمال العقل، كما أن التجدد يتطلب دوما إلى أمرين، تجديد الأفكار، وتجديد الدماء، وذلك يتطلب أيضا إلى مزيد من الدماء الجديدة، والتي من شأنها تمدّ بالحركة حيوية وعطاء، أما المعيار الثالث فهو يجمع ما بين التكوين «التزكية» بالمفهوم الشرعي، والعمل فلا فائدة من تربية لا تنتج عملا، ولا فائدة من عمل لا يأتي من خلال تربية وخطة، ومن هنا نعرف أن العمل الناجح لا ينزل من السماء، بل يأتي من خلال خطة محكمة تؤمن بالمنهج الرباني، وتعتقد بالعمل الإنساني، ومن خلال هذه المعايير التسعة، ومن خلال التحليل المحكم نسأل، هل الحركة الإسلامية في الصومال مستمرة؟ أم هي في تعثر؟ ولماذا؟

قد يسأل إنسان سؤالا مهما، ماذا نعنى بالصومال؟ الصومال السياسي هي الجمهورية الصومالية، وهناك الصومال الثقافي، ونعنى بذلك في الأقطار الخمسة التي يقطن بها الإنسان الصومالي مع غيره من أبناء القرن الأفريقي، والحركة الإسلامية انتشرت في كل هذه الأقطار الخمسة، وتواجدت بشكل مكثف وملحوظ، كما أننا لا نعنى بالحركة الإسلامية توجها معينا، أو تيارا بعينه، فكل عمل إسلامي منظم هو بالنسبة لنا حركة إسلامية، ذلك لأن الحركة تعنى عملا تطوعيا منظما له قيادة وقواعد، وبرامج وخطط، وأهداف ووسائل، وليس من العيب أن تأتى الحركة كفكرة من وراء الحدود، ذلك لأن الأفكار من شأنها أن تعبر الحدود، فكيف إذا كانت الفكرة تنطلق من الإسلام، وهو دين عالمي، ولكن المشكلة تكمن في طغيان العالمية على المحلية، وهذا هو الملحوظ كما سوف نرى في الحركة الإسلامية في الصومال، ولن يكون حديثي منصبا في التفاصيل، بل في الكليات، لأن المقال لا يتسع بالدخول في التفاصيل، بل سيكون حديثا كليا، ومن هنا يمكن أن نقسم تاريخ الحركة الإسلامية في المنطقة إلى مراحل ثلاثة:

أولا: مرحلة النشأة، وتبدأ من وسط الستينيات، حتى نهاية الثمانييات من القرن العشرين، فهذا هو الأصل، وقد ذكر الأستاذ البنا رحمه الله في مذكراته بأن أول شعبة إخوانية تم افتتاحها في خارج مصر كانت في جيبوتي، وذلك في بداية الأربعينيات من القرن العشرين، ولكن هذه الشعبة لم تتطور، ولَم تتحول إلى عمل مستمر، بل انقطع خبرها، وخبر أفرادها، ولكن العمل الحركي من جميع الاتجاهات بدأ كقوة فكرية في بداية الستينيات حتى الثمانينات من القرن المنصرم، وسبب نشوء الحركات في المنطقة هو رجوع الكوادر المتعلمة من العالم العربي، وخاصة من مصر والسعودية والسودان، وحاجة الشباب المثقف إلى فكرة إسلامية من شأنها مواجهة الأفكار العالمية، والفلسفات الغربية التي غزت المنطقة كالشيوعية.

ثانيا: مرحلة الازدهار، وتبدأ هذه المرحلة من وسط الثمانينات حتى وسط بداية الألفية الثالثة، أي عام ٢٠٠٥م، فهذه المرحلة تمثل بالنسبة للحركة الإسلامية في الصومال المرحلة الذهبية، وخاصة الاتجاه السلفي، والتوجه الإخواني، في هذه المرحلة سقطت الدولة، ودخل الشعب في مرحلة الفوضى السياسية، ولحسن الحظ، مثل الإسلاميون في هذه المرحلة سفينة النجاة، وأسسوا جمعيات خيرية، ومدارس نظامية، بل وجامعات علمية، ومن هنا نجحت الحركة الإسلامية ملء الفراغ بقدر، وتوجه الشعب الصومالي نحو التدين، وأصبح الحجاب ظاهرة مجتمعية، والتدين السلفي تحوّل إلى ظاهرة مجتمعية، بل وفكّر بعض الإسلاميين في ملء الفراغ السياسي في إنشاء المحاكم الشرعية في جنوب الصومال، وظهر في الساحة رموزا إسلامية من جميع الاتجاهات، وفي جميع المستويات.

ثالثا: مرحلة التعثر، والتشرذم، والاختلافات، فهذه المرحلة بدأت مع بداية التعافي للمجتمع الصومالي بعد مؤتمر «عرتا» وبداية دخول الإسلاميين في السياسة بعيدا عن التخطيط، ولهذا وجدنا كثيرا من وجوه السلفيين، ومن رموز الإخوان يتسابقون في الدخول في معمعة السياسة، ولكن بدون تخطيط مسبق، وبدون إعداد القواعد للمرحلة اللاحقة.

إن العمل السياسي يحتاج إلى ثقافة نوعية، وإلى إعداد كوادر سياسية من شأنها الخوض في هذه المسألة الدقيقة، والتي تتطلب إلى الرشاد الفكري من جانب، وإلى الذكاء السياسي من جانب آخر، ونحن نعرف أن أبناء الحركة الإسلامية تربّوا على الصفاء العقدي، والوضوح المنهجي، ومن هنا رأينا بعد ذلك خلافات شديدة حول ممارسة الحركة  للعمل  السياسي، والعمل السياسي جزء أساسي من مهام الحركة، ولكن لأسباب منهجية تخلف العمل السياسي في الصومال، وبدأ في وقت متأخر، ولكن المشكلة ليست في هذا، بل هو في غياب التربية السياسية، وإعداد القيادات، وصناعة الكوادر، ومن هنا رأينا تهافت الجميع على العمل السياسي، وبدون تخطيط حركي، بل رأينا قيادات إسلامية كبيرة تدخل العمل السياسي من خلال القبيلة، أو من خلال العمل الاجتماعي، بل ولاحظنا كثيرا من القيادات تتبرأ من انتماءها الحركي، وتفتخر بتاريخ العمل الاجتماعي الذي كان رافدا من روافد الحركة.

في هذه المرحلة انشطرت حركة الإصلاح، الحركة ذات التوجه الإخواني الدولي إلى تيارين، تيار الشرعية، وتيار وصف نفسه بالدم الجديد، ثم انشطر التيار الشرعي إلى تيارين، فتيار يقوده الدكتور على باشا، ومن وراءه الدكتور علي الشيخ أحمد، وهو من مؤسسي الحركة، والدكتور عبد الرحمن باديو، أحد منظري حركة الإصلاح، وتيار يقوده الشيخ محمد چريري، مؤسس حركة الإصلاح، وهذا التيار الأخير انشطر إلى تيارين، تيار يقوده الشيخ محمد چريري، وتيار يقوده الدكتور محمد يوسف المقيم في الكويت، والشيخ حنفي المقيم في كندا، وهما من مؤسسي حركة الإصلاح، وبهذا نستطيع أن نفهم أن هذا التيار الإخواني في الصومال الثقافي يعيش في الأزمة، أزمة التعثر والاختلاف، بينما أصبحت حركة الإتحاد الإسلامي «الاعتصام» إلى ظاهرة مشيخية، وتحولت من فكرة التنظيم إلى فكرة المشيخة، فهناك ظاهرة كينيا المتمثّلة في الشيخ الدكتور شبيلي، والشيخ أمل، وهناك ظاهرة جنوب الصومال المتحالفة مع الدولة «الشيخ بشير» نموذجا، وهناك ظاهرة بونت لاند، وليست بعيدة عن ظاهرة كينيا، ومع هذا فالتيار السلفي يبدو أنه متماسك فكريا، والسبب هو أن التيار السلفي التنظيمي سابقا، ما زال مهيمنا على التدين الصومالي، وهو ما زال مكونا أساسيا للتدين في الصومال، ولكنه كحركة تنظيمية، قد دخل في مرحلة الترهل الفكري والتنظيمي.

ذكرت في بداية المقال وجود معايير من شأنها صناعة النجاح للحركات، وفي متابعتي الدقيقة وجدت أن جلّ هذه المعايير تكاد تكون غائبة، ولهذا أضحت الحركة الإسلامية في الصومال شبه جامدة، بل ولاحظت أن معيار الاستمرارية، وعدم التوقف غاب عن هذه الحركة، كما أن عنصر الشباب الذى كان رافدا من روافد الحركة أصبح غير مهتم بالانتماء، بل بدأ يشق طريقه بعيدا عن الحركة، ومن الملاحظ أن جلّ المنتمين يتجاوزون الأربعين من العمر، وهذا يدل كذلك على أن معيار التجدد أيضا ليس له نصيب قوة كما كان في الثمانينات والتسعينيات من القرن العشرين، ويغيب عن الحركة الإسلامية معيار التماسك ما بين القيادة والقاعدة، وما بين الأجيال، والمرونة الفكرية والتنظيمية، وهذا هو الذي أدى إلى الشلل الفكري والتنظيمي، كما أن معيار التركيب مغيب عن ساحة الحركة، ذلك لأن معظم أبناء الحركة الإسلامية يعملون بكل بساطة وتسطيح في عالم شديد التركيب والتعقيد، وفي منطقة تشكو من مشاكل مركبة فكريا وسياسيا، فغياب هذه المعايير أدت إلى تعثر أعمال الحركة الإسلامية، وتراجع مواقعها الريادية.

ماذا بعد؟

إن تعثر الحركة الإسلامية لا يعنى تعثر الفكر، ولكن التجربة دخلت في امتحان صعب، وليس من الممكن أن تعود الحركة بشخوصها إلى التاريخ مرة أخرى، فقد انتهى دور هؤلاء، وقد مضوا طريقا أخر، أو هكذا يبدو من أكثريتهم، بل وشق بعضهم طريق التجارة، والبحث عن المال، كما اختار البعض طريق التدريس، والعيش في عالم البحوث بعيدا عن همّ الحركة، وقيادة المجتمع باسم الإسلام، وذهب آخرون إلى طريق الحلقات، وتدريس الكتب بعيدا عن همّ الفكر القيادي ومعاناته، وهذا يدل على شيء واحد، وهو ما ذكره الباحث الكويتي الدكتور عبد الله النفيسي ناقلا من رجل أمن إسرائيلي بأن الشعوب العربية شعوب ملولة، ونحن أيضا بما أننا نتقاطع مع العرب بعض الصفات، لأننا نشترك معهم بالخصائص الرعوية، فنحن شعب ملول، وبهذا نجد قياداتنا يتحولون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.

ليس هذا هو نهاية الطريق، فإني ألاحظ في وسط الساحة جيلا من أبناء الحركة، ولكنهم يتميزون بالعطاء الفكري، والوضوح المنهجي، ولديهم طموح سياسي مباين لطموح الجيل السابق، ولهذا أحسب بأن هذا الجيل، وهو يحمل تجربة الجيل السابق وتعثره، ويقرا نجاحات التجارب في العالمين العربي «تركيا» نموذجا، وتجارب الإسلاميين في المغرب، وماليزيا، وإندونيسيا، وتعثر العمل الإسلامي في بعض المناطق، كل ذلك يمثل بالنسبة لهذا الجيل كنزا فكريا، وبنكا للخبرات، يمكن الاستفادة من ذلك في هذا الزمن، لأننا نعيش لحظة وصل، ولسنا في لحظة فصل، فلا بد من فتح العيون لصناعة خبرة جديدة تتجاوز مرحلة التعثر، وبناء مرحلة الوصل مع النجاح، والفصل مع الفشل والتعثر، وهذا ما حاول صناعته الأستاذ رجب طيب أردوغان حينما اختلف مع شيخه أربكان، فواصل المسيرة، ولكنه حاول فصل المسيرة من بعض التجارب الفاشلة، أو المتعثرة، ومن اعتقد بأن الزمن توقف، فقد خرج من التاريخ، فالزمن ماض، والاجتهاد تفاعل مع النصوص، والزمان، والمكان، ومن هذه العملية يخرج التجديد.

إن الإسلام كتصور وفكرة ومنهج لا يتوقف عن العطاء، ولكن المشكلة هي نحن، هل يمكن لنا أن نصيغ أفكارا جديدة من شأنها صناعة حركة إسلامية تنبثق من الأفكار الخالدة، والقيم الأساسية، وتتفاعل مع المستجدات بروح مرنة، وهذا هو سر النجاح لرجال التاريخ.

وفي مقال خاص، سوف أتناول عن جماعة التبليغ والدعوة، وحضورها القوي في المنطقة وامتدادها في العقود الثلاثة الأخيرة، ومدى نجاحها وتعثرها بإذن الله.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى