مقالاتمقالات مختارة

الجزائر والسودان: هل ثارتا على الدين أم على المستبدين؟

الجزائر والسودان: هل ثارتا على الدين أم على المستبدين؟

بقلم نزار بولدية

من استمع إلى آلاء صالح أو كنداكة السودان، كما باتت تسمى وهي تنشد قصيدها الشهير أمام المعتصمين، بالقرب من مقر وزارة الدفاع السودانية، أياما قليلة فقط قبل الإطاحة بالبشير، ولم يكن له أدنى فكرة عما كان يجرى يومها في السودان، فلاشك أنه كان سيظن أن الحديث كان يدور عن بلد مازال يعيش تحت وطأة القمع الكنسي الرهيب لعهد القرون الوسطى.

لقد قالت آلاء في واحدة من تلك الأبيات الشعرية التي ألقتها بحماسة «سرقونا باسم الدين.. قتلونا باسم الدين.. حرقونا باسم الدين.. سجنونا باسم الدين»، قبل أن تستدرك بعدها وتضيف بأن «الدين بريء يمة». ولعل ذلك اللبس الذي حصل للبعض بين الاستبداد والدين، كان في حد ذاته مقصودا، وربما كان هو السبب المباشر وراء شهرة القصيد وتحول صاحبته إلى نجمة وأيقونة للثورة السودانية، بنظر كبرى وسائل الإعلام العالمية.

ولم يكن الأمر يحتاج لذكاء خارق حتى يدرك الغرض من وراء ذلك، ففضلا عن أن نظام البشير ظل يوصف بأنه نظام عسكري إسلامي، ودون أن مثل ذلك الوصف دقيقا في الغالب، فإن الثابت، أن الدين صار العدو الأكبر للثورات العربية المضادة، التي باتت لا ترى فيه أكثر من شكل من الفولكلور الشعبي، لا مكان له سوى في أن يساعد على تثبيت عادات قديمة تكرس الظلم والاستبداد، تحت مسمى الطاعة العمياء لأولي الأمر.

وهذا ما قد يفسر في جانب تلك الازدواجية التي تعاملت بها جهات رسمية وإعلامية في الغرب، وبعض الأنظمة العربية التي ترعى تلك الثورات المضادة، كالنظام المصري، في ما يتعلق بالحالتين السودانية والجزائرية بالذات، إذ لم تجد أبواق السيسي بدا من أن تصف ما جرى في السودان بالثورة الشعبية، في حين أنها بقيت مرتبكة ومتوجسة من حراك الجزائر، ولم يكن بوسع النظامين الإماراتي والسعودي أن يفعل شيئا آخر، غير أن يسارعا لإعلان «الدعم للخطوات التي أعلنها المجلس العسكري الانتقالي، والوقوف إلى جانب الشعب السوداني» بإرسال أدوية ومشتقات بترولية وقمح مثلما أعلنته السلطات السعودية، نقلا عن وكالة الأنباء الرسمية، في حين أنهما ظلتا متحفظتين ومترددتين في التعليق عما حصل في الجزائر، خصوصا بعد أن هتف المتظاهرون هناك أكثر من مرة بشعارات قوية ضد محاولاتهما التدخل بشكل ما في حراكهم.

ولكن ما الذي تعنيه محاولات إقحام الدين والزج به بطرق ملتوية في الحراكات الشعبية للجزائرـ وبدرجة أكثر وضوحا في السودان، وتصويره على انه العدو القديم الجديد للشعوب العربية بدلا من الحكام؟
إن ما نشهده اليوم صورة معكوسة لما حصل قبل ثماني سنوات.

ففيما لم تطلق حينها التحذيرات من التوسع والتمدد غير المقبول، لما عرف بالإسلام السياسي، بفعل موجة الانفتاح الديمقراطي التي شهدتها وقتها دول مثل تونس ومصر، دقت هذه المرة بشكل باكر نواقيس الخطر من اقتراب الإسلاميين، أو حتى من مجرد مشاركتهم في أي سباق، أو استحقاق انتخابي مقبل، مثلما لوحت بذلك بالخصوص بعض الأطراف السياسية في السودان. ورغم أن لا أحد باستطاعته أن يعتبر ذلك تعديا على الإسلام، أو إقصاء له أو أن يحصر وجوده أو بقاءه في حزب أو حركة أو تنظيم سياسي واحد، فإن وضع الخطوط الحمر، والفرز السياسي والأيديولوجي على الهوية، لطيف قد يكون واسعا من الشعب، سيكون ضربة قاصمة للثورة والديمقراطية قبل أي شيء آخر.

وربما لا يبدو وسط غبار التحولات المتسارعة في العاصمتين الجزائرية والسودانية، وما تثيره من اهتمام واسع، أن النظر طويلا للسطح قد يكون مفيدا في معرفة خبايا القاع. فرغم أن تغيير الوجوه قد يبدو مرات مؤشرا على تبديل السياسات، ومعرفة الكفة التي سيميل لها الميزان السياسي، ثم الشخصية التي ستقدر في مقبل الأيام في هذه العاصمة وتلك، على امتصاص غضب الشارع من جانب، وتهدئة مخاوف الحرس القديم في الوقت نفسه من الجانب الآخر، قد تكون مهمة لاستشراف طبيعة المرحلة الجديدة فيهما، إلا أن الأهم من تلك التفاصيل، أن تتضح الصورة التقريبية للمآلات التي ستستقر عليها انتفاضة الشعبين أو ثورتهما بعيدا عما يقدمه الإعلام المحلي والعالمي من وقائع ومعطيات، قد لا يكون تركيزه على بعضها دون الآخر بريئا وخاليا من التوجيه.

ولعل ما قد ينساه الكثيرون في زحمة ما جرى هو أن غلاء المعيشة في السودان، كان السبب الأول لتدحرج كرة الغضب الشعبي، وانزلاقها السريع، بفعل عدة اعتبارات لعل أولها سوء إدارة النظام للأزمة، فيما كانت العهدة الخامسة لبوتفليقة هي المفجر الحقيقي لمظاهرات الثاني والعشرين من فبراير، غير المسبوقة في الجزائر. ولكننا لا نعرف الكثير عن تلك المرحلة القصيرة التي فصلت بين بقاء الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية في البلدين في حدها الأدنى، أي دون المطالبة بإسقاط كل النظام، وبين تطور الشعارات والمطالب، حد الوصول إلى حالة الرفض القطعي والتام لبقاء أي رمز من رموز المرحلة السابقة في السلطة.

هل كانت أخطاء النظامين وحدها مسؤولة عن ذلك؟ أم أن هناك في الداخل أو حتى في الخارج من أراد تأجيج الأوضاع وتسخينها، وتهيئة الفرصة حتى يركب طرف ما موجة الاحتجاجات ويوجهها نحو أهداف أخرى غير تلك التي حملتها الشعارات التي رفعها الجزائريون والسودانيون في مظاهراتهم؟ لم يكن هناك في كل الأحوال أي منطق أو مبرر لبقاء نظامين فاشلين قمعا الحريات، وخنقا كل صوت معارض، ولم يأبها بأي نقد داخلي أو محاولة للإصلاح، ولم يفتحا الطريق أيضا حين كانا قادرين على فعل ذلك، حتى يتحقق تداول سلس وسلمي على السلطة.

وكان واضحا أيضا أنه لم يكن بوسع الدين أن يبرر شيئا من ذلك الإخفاق، بل كان المتوقع أن يكون هنا بالذات هو المحرض والمحرك للتغيير. وهذا ما لم تكن تريده قطعا لا الثورات المضادة ولا قوى الاستعمار القديم والجديد، فالديمقراطية بنظرهم ليست سوى فسحة قصيرة لا تسمح للشعوب التي تطالب بها إلا بتجربة الفوضى والدوران في الفراغ بدون أن تستطيع المس بأي قطعة من قطع الشطرنج، أو تحريكها عكس إرادتهم وهي لا تتسع لمن يرغبون بربط الدين ووصله بالحياة، حتى لو منحتهم الشعوب أصواتها واختارتهم . إنهم يرغبون باختراع صراع وهمي بين تلك الشعوب ودينها، وحصر الاستبداد لا في طبيعة الأنظمة، بل في جوهر الدين وتحويل الثورة من هبة فكرية وروحية وثقافية لتحقيق الحرية والكرامة، إلى جنوح فوضوي عن قيم الروح.

ومع انهم يعلمون جيدا انهم في حالة الجزائر والسودان بالذات يطرقون الباب الخطأ، إلا أنهم لا ييأسون من تكرار محاولتهم لفرض ما وصفها السفير الإماراتي في واشنطن ناصر العتيبة، ذات مرة، بالأنظمة أو الحكومات «العلمانية المستقرة والمزدهرة « في الشرق الأوسط، حتى لو كان المدخل لذلك هو استغلال الثورات الشعبية، أو التشويش عليها أو تحويلها لانقلابات، أو تصويرها على أنها ثورات على الدين لا على المستبدين.

(المصدر: صحيفة القدس العربي / عربي21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى