مقالاتمقالات مختارة

الثورة السورية .. وقصة البشرية على الأرض

بقلم أ. وائل مرزا

 

{وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماء ونحنُ نُسبّحُ بحمدك ونُقدّس لك قال إني أعلمُ ما لاتعلمون}

بغضّ النظر عن التفاصيل الموجودة في التفاسير التقليدية للقرآن الكريم بخصوص الآية المذكورة أعلاه، يكفينا أن نعرف من الآية أن ثمّة جانباً في طبيعة الإنسان يتعلق بالإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها، وأن البشرية عاشت وستعيش آثار هذا الجانب إلى أن يشاء الله. لكن ثمة مؤشرات في الآية، ومايتلوها من آيات في سورة البقرة، على معنىً آخر لوجود هذا الإنسان على الأرض، مقرونٌ بالعلم، بكلّ معانيه وتجلّياته.

لانريد الدخول في جدلٍ فقهي أو فلسفيٍ في هذا المقام، وإنما حسبُنا أن نُذكّر كل من يلطمُ نفسه ويندبُ حظّه ويجلدُ نفسه وغيره من السوريين، ثم يمتدُّ بعمليات اللطم والنّدب والجلد إلى الثورة السورية، خاصة في مرحلة مابعد (الغوطة).. نُذكّرُه بأن مايجري في سوريا منذ أعوام هو جزءٌ من قصة البشرية على هذه الأرض. وأن لديه واحداً من ثلاث خيارات: فإما أن يستقيل من هذه القصة البشرية بطريقةٍ ما، أو يصمتَ وينزوي في عزلةٍ تمنعهُ من القيام بممارسات التخذيل والتيئيس، قصداً أو عن غير قصد، أو يتماسكَ بشكلٍ يليق بإنسانيته وبنفخة روح الله فيه، ويستفرغَ الوسع ليحاول أن يكون جزءاً من الحلّ بأي طريقة.

وحتى لا نُفهم بشكلٍ خاطىء في مثل هذا الموضوع الحسّاس، وفي هذه المرحلة الحسّاسة من تاريخ الثورة السورية، نؤكد على أن كلامنا السابق موجهٌ تحديداً للسوريين الموجودين خارج سوريا، ولنقل أيضاً خارج مخيمات اللاجئين السوريين هنا وهناك.

أما أبناء سوريا الأبرارُ المرابطون على أرضها، من الصابرين على الثغور في كل مجال، فما من كلمةٍ تُقال لهم يمكن أن تفيهم ولو جزءاً يسيراً من حقّ تضحياتهم وبطولاتهم.

بل إن حديثنا أعلاه يُمثّلُ دعوة للملمة الصفوف نفسياً وفكرياً وعملياً، وعلى جميع المستويات، للتركيز على خدمة ثورةٍ كان مصيرُها منذ البداية أن تكون تمهيداً لصفحةٍ جديدةٍ في التاريخ الإنساني. بمعنى أنه يهدف في الحقيقة لإكمال مايقوم به أولئك الرابضون على الثغور.

لايعني كلامنا السابق أيضاً رفضَ الحديث عن أخطاء الثوار صغيرةً كانت أو كبيرة، مدنيةً أو عسكرية أو سياسية، وفي أي مجال من المجالات، وعلى أي مستوىً من المستويات. فمثلُ هذا الرفض لن يكون بحدّ ذاته سوى خطيئةٍ هي أكبرُ من كل تلك الأخطاء. لأن من ملامح مسيرة الثورة السورية نحو كمالها أن تُراجع نفسها وتنفي عنها الخبَث في الأفكار والممارسات والأشخاص والمواقف. وما أكثر حصول هذا خلال الأعوام الماضية..

لايهمّنا هنا أيُّ تفسيرات تُحيل كلامنا في هذا المقال إلى الأحلام أو التفكير الرغائبي، ولن نقف لحظةً عند أي تحليلات تضعه في خانة (عدم الواقعية) و(العاطفية)، وما إلى ذلك من المقولات.

لن نتزحزح، أيضاً، عن يقيننا الجازم بخصوصية الثورة السورية، وبأنها خطوةٌ على طريق تغييرٍ تاريخي، سيكون طويلاً، وسيكون مليئاً بالتحديات، لكن الإنسانية لم تعد فقط بحاجةٍ إليه، بل إنها صارت جاهزةً له وتنتظره بلسان الحال وبلسان المقال.

لهذا، يبدو طبيعياً، وطبيعياً جداً، أن نرى قصة البشرية تتجسّدُ في أحداث الثورة السورية بشكلٍ لايراه ولن يراهُ إلا أصحاب البصائر.

ففي هذه الثورة، تتكرر قصة قابيل وهابيل.. من حمص إلى الغوطة، مروراً بحلب والرقة ودرعا وحماة والساحل.

وفي أجوائها نعيش قصة نوحٍ يدعو قومه تسعمائة عاماً للخير والحق والعدل! وهم مُعرِضون، فلا يكون الحلُّ معهم إلا بـ (الطوفان). وظهور جيلٍ جديد مختلف وجميل..

نعيش في الثورة السورية نماذج من صبر أيوب على بلائه. ومن رحلات خليل الرحمن إبراهيم بين الشك والإيمان. ومراجعة كل ماهو سائد. وإعادة التفكير بكل ماهو مألوف.. وصولاً إلى يقينٍ يدفعهُ لتحطيم الأوثان.. كل الأوثان.. ثم نعيش معه رحلته اللاحبة إلى حيث يجب أن تُوضع اللبنة الأولى للبيت الحرام. للمستقبل القادم..

نعيش مع هاجَر (تسعى). وحدها. باحثةً لصغيرها عن نقطة ماءٍ لم تشأ إرادة السماء أن تتفجّر من أصابع الرضيع، إلا من خلال ذلك السعي الإنساني الطويل الشاق..

نرى بأم أعيننا قصة الصدّيق، وهو الذي سماه ابن عمر: “الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسُف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم”. نرى كيف يفعل به إخوتُهُ مايفعلون. ليُلقى في السجن (بضع سنين). ثم يعود فيكون له المُلك والسلطان.. ولاننسى حزنَ أبيه يعقوب. لكننا نستحضر أيضاً يقينهُ الذي لم يفارقه لحظةً من اللحظات..

نتذكر قصة يونس، النبي الصالح من نينوى، (ذا النون) الذي (ذهب مُغاضباً). فلم يجد نور الحقيقة ويُدرك طبيعة مهمته إلا عندما أصبح في بطن الحوت. لينبثق الفجر في نفسه وهو في أحلك الظلمات..

نتأمل في قصة هود مع قومه عاد {إرمَ ذات العِماد، التي لم يُخلق مثلها في البلاد}. قومٌ استكبروا واستعلوا بغرورهم وظُلمهم حتى صار بهم ماصار. ليأتي بعده صالح إلى قوم ثمود الذين خلَفوا عاداً في الأرض، وكان المفروض أن يتعلموا منهم الدرس، لكنهم لم يفعلوا.. فكان ماكان..

نعيش في الثورة السورية مع عجائب رحلة كليم الله موسى والدلالات الكبرى لقصته مع فرعون من جانب، ومع قومه بني إسرائيل من جانبٍ آخر. من تلك اللحظة التي ألقتهُ فيها أمهُ في اليمّ، إلى خروجه من مصر ثم عودته إليها، وقصته مع (السّحرة).. الذين يحرفون الأبصار عن الحقائق. ويتلاعبون بالعقول والألباب. ويوظفون الكهنوت لخدمة الطغيان.. لكنهم في نهاية المطاف ينقلبون (صاغرين).

نعيش صبره على قومه ودعاءه لربه بلسانٍ خجول متواضع يعبر عن رُقيّ الإنسان: {ربِّ لو شئت أهلّكتهم من قبلُ وإيايَ أتُهلكنا بما فعل السُّفهاءُ منّا}..

نُحلّق في أجواء قصة عيسى بإشاراتها التي لاتكادُ تنتهي، صبراً ومعاناةً وتضحيةً وعطاءً لايعرف الحدود.

نراه يلقى من (قومه) مالاقى، رغم تمكين الله له حتى بات يخلق من الطين كهيئة الطين فيكون طيراً، ويُبرىء الأكمه والأبرص، ويُخرج الموتى، وتنزل مائدةٌ من السماء استجابةً لدعائه.. آياتٌ (ملموسةٌ) و(حسية) تأبى الأبصار العليلة والبصائر المريضة أن تراها، غارقةً في (أيديولوجيتها) و(آبائيتها) التي أصابتها بالصم والعمى..

لنصل في نهاية المطاف إلى محمد، عليه وعلى الرسل كلهم السلام.

فنعيش معه في الثورة السورية كيف يُحاربه قومهُ ويحاصرونه ويجوّعونه وينشرون عنه الأكاذيب ويُشوّهون سمعته، لأنه جاء يهدم كل الأصنام الفكرية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تُحقّقُ مصالح زعماء قريش.

وكم من مصالح أظهرتها الثورة السورية؟! وكم من زعماء ركبوا موجتها؟!.. وكم من (قريش) وُلِدت فيها كالأرانب..

يذهب إلى مكان اسمه (الطائف) ليعرض على أهله دعوته، فيلاقوه بالسخرية والاستهزاء والإيذاء حتى يُضطرّ إلى ذلك الدعاء العجيب: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهَوَاني على الناس….. إلى من تكِلُني؟ إلى عدوٍ يتجهّمُني، أو إلى قريبٍ ملّكتهُ أمري…”.

يُرسل القلّة المؤمنة إلى مكانٍ آخر اسمه (الحبشة) لأن فيها ملكاً نصرانياً عادلاً “لا يُظلم عنده أحد”. فيجدون الأمن والأمان لفترة من الزمان.. يتعلمون ويجتهدون.. ليكونوا عند عودتهم لَبِنات أساسية في البناء الجديد.

ثم نعيش في الثورة السورية أجواء قصة الهجرة الكبرى.

يخرج الرسول من مكة (مهاجراً)، لكنه يخرج منها كارهاً. ينظر إليها حزيناً ويخاطبها قائلاً: “والله إنك لأحبُّ بلاد الله إلي، وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ماخرجت”. لكنه يتوجه بعدها إلى حيث يبني (المدينة). مدينة النظام والميثاق مع الآخرين. مدينة المدنيّة بمعانيها الإنسانية الكبرى. المدينة التي يبنيها مع (الأنصار)، لتكون خطوةً أولى على طريقٍ إنساني طويل في اتجاه صناعة الحضارة..

لكننا نعيش أيضاً كل ملامح محاولات (سرقة) ذلك المشروع.. وأحياناً باسمه نفسه.. إسلاماً هناك.. وثورةً هنا.. حتى نصل بعدها إلى مرحلة يبسَت خلالها جذور تلك الحضارة. وأصاب العفنُ ملامحها الثقافية والاجتماعية والروحية والاقتصادية والسياسية..

ثم يدور الزمن دورةً أخرى، لتبدأ رحلةُ الاستعادة.

وليس كثيراً على الله، ولا على الإنسان الذي نفخ فيه من روحه.. أن تبدأ، ولو جزئياً، ولو بشكلٍ من الأشكال، رحلةُ استعادةٍ حضارية تنتظرها البشرية من سوريا. بكل مايحملهُ تاريخُها من خبرةٍ وتجارب، وإبداعٍ وجمال، وهمَّةٍ على العمل والإنتاج، وتآلفٍ إنسانيٍ بين مكونات شعبها لايمكن أن تمحوه الأيام والأحداث.. في نهاية المطاف..

تلك هي قصة الثورة السورية، تختصرُ التجربة البشرية على هذه الأرض.

فليفهم من يريد أن يفهم.

وليعمل من يريد أن يعمل.

أما اليائسون والمخذّلون والسلبيون من كل نوعٍ ولون..

فليُهدوا سوريا وأهلها العاملين صمتَهم في أقلّ الأحوال.

منقول عن موقع رابطة العلماء السوريين -بتصرف يسير-

(المصدر: هيئة علماء فلسطين في الخارج)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى