بقلم الأستاذ عباس شريفة
لا تزال مسألة أن يتوجه الإنسان إلى طبيب نفسي ليتأكد من صحته النفسية، أو أن يطلب العلاج لاضطراب نفسي أصابه، ثقافة مرفوضة في مجتمعاتنا العربية.
حتى كتب التزكية والتصوف لم تنجح في إيجاد حلول مناسبة للصحة النفسية، فغالب جرع المعالجة الموجودة في كتب التزكية والتصوف هي جرعات زائدة، من وصفات الزهد في الدنيا، والغلو في التواكل، والتواضع إلى درجة محق الذات، ومحاسبة النفس إلى درجة جلد الذات، وغالبها لا يعدو عقاقير عامة لأمراض شتى، مما تؤدي بمن يطالعها بمفعول عكسي تماماً.
وكثير من الناس قد يستسهل تحت الألم والضغط أن يلجأ لمن يرقيه من السحرة أو المشعوذين، باعتبار أن ما أصابه ليس أكثر حالة من مسّ من الجن أو السحر، لا تحتاج أكثر من حرز أو بخور، بينما يستثقل الدخول للعيادة النفسية.
ويعود سبب الرفض للعيادات النفسية في غالبه، لتلبس الأمر عند الكثيرين بالجنون، الذي يعتبره البعض طعناً في شخصيته، وما يترتب على الإنسان من الحجر في الحياة العامة والأموال.
من هنا تتولد فكرة الخوف، ولا يعلمون أن الجنون مغاير تماماً للمشكلة النفسية، ناهيك عن أن معظم الأدوية المستخدمة للحالات النفسية هي مخدرة ومنومة تخفف العرض ولا تعالج المرض.
وبذلك بقيت هذه الانحرافات النفسية، تتستر بكمٍّ من الثقافات والشهادات التي يتحصل عليه الشخص المنحرف، مما تمنحه غطاء يتزيَّ به وكأنه من صفوة الأسوياء، ولم ندرك الخطر المستطير الذي نجنيه من إهمال هذه المسألة الحساسة للغاية.
اليوم هناك مطالبات واضحة في مجال التوظيف ومنح الشهادات الأكاديمية، تُطالب بخضوع المتقدِّم للوظيفة والشهادة للاختبار النفسي قبل أن يُترك له الزمام ليحقن المحيط الذي يعمل به بالطاقة السلبية المتولدة من عقده النفسية المركوزة في أعماق اللاشعور.
فلكم أن تتصوروا عندما نضع خمسين طالباً تحت رحمة معلم أو معلمة أو دكتور في الجامعة أو خطيب منبر أو داعية.. ليفرغ في هؤلاء الطلاب والمستمعين المساكين سيلاً من عُقده النفسية، التي تؤثر على سلوكهم وتربيتهم، وربما تُلحق الضرر بمجتمع بكامله.
خصوصاً أننا بذلك نجعل من هؤلاء المنحرفين قدوات فكرية واجتماعية لأبنائنا.
والأمر الأخطر عندما يكون هذا المريض هو أمير لتنظيم أو لجماعة إسلامية مقاتلة مدججة بالسلاح، وتحت قيادته آلاف الأتباع، ثم يتخذ هذا الأمير قرارات هذه الجماعة المصيرية تحت هذه تأثير هذه الضغوط النفسية والعقد السلوكية، مع ما يتمتع به من فائض القوّة الزائدة التي غالباً ما تقوده إلى الانتحار والدمار المحقّق، وقد ينجرف إلى الغلو والتطرف، فليس للغلو علاقة بكثرة العلم وعلوّ الشهادات، فكثير من الأحيان يكون منشأ الغلو هو انحراف نفسي وليس نقصاً معرفياً.
ففي مثل هذه الحالة قد يصل الإنسان لجنون العظمة وربما (تضرب معه الفيوزات) كما يُقال بالعامية.
وكنت قد لاحظت ذلك عندما أقرأ منشورات على الفيسبوك أو التويتر، لشخصيات مرموقه قد اتخذهم الشباب قدوة لهم، يتابعونهم في كل ما يقولون وما يكتبون، تجدهم عندما ينشرون بعض الزفرات التي تخرج من تحت حالة من التوتر والضغوط النفسية والظروف القاسية، فتخرج الكلمات وكأنها السمّ الزعاف.
ولكم أثَّرت على نفسي وشحنتني بطاقة سلبية تلك الكتابات المفخخة بعقد مُعدية، ولربما تؤثر على المتلقي من خلال علاقته مع الأولاد والعائلة وزملاء العمل، فتشحنها بشيء من الانفعال والسلبية.
وقد أشار تقرير لخبراء وأطباء سوريين أن جميع السوريين قد أصيبوا باضطرابات نفسيه خفيفة وقسم باضطراب حادّ.
لذلك أتمنى على الإخوة السوريين أن يترفقوا في العتاب على بعضهم البعض، فالإنسان في ظروف الغربة والظلم والحرب والدمار مع مرارة الخذلان وجنون العالم من حوله يفقد أكثر من نصف صحته النفسية وتوازنه الشخصي، فمثلنا في هذه الحالة بحاجة للعلاج والترفق أكثر منه للتعنيف والجلد.
(المصدر: رؤية للثقافة والإعلام)