مقالاتمقالات مختارة

التنوير الحداثي.. حرب مفتوحة على التراث وتحالف مع الاستبداد

التنوير الحداثي.. حرب مفتوحة على التراث وتحالف مع الاستبداد

بقلم بسام ناصر

يغلب على مقاربات التنويريين في العالم العربي إرجاع أسباب تخلف الأمة وضعفها إلى رسوخ أفكار وسلوكيات من يسمونهم بـ”التراثيين”، ويعنون بهم أتباع الاتجاهات الإسلامية المختلفة؛ الدينية التقليدية، والحركية السياسية، في الوقت الذي يغضون الطرف فيه عن مآسي السلطوية الفاسدة، وفي كثير من الأحيان يتحالفون معها ويسيرون في ركابها.

التنوير في أصل نشأته الأوروبية إنما يعني ـ حسب تعريف الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ـ “خروج الإنسان من حالة الوصاية عليه، التي هو المسؤول عنها، وحالة الوصاية هذه هي عجزه عن استعمال عقله دون إرشاد من غيره..”، ويعرفه المفكر المصري مراد وهبه في المجال التداولي “التنوير مفاده أنه لا سلطان على العقل إلا للعقل نفسه”.

ووفقا لباحثين فإن إعمال تلك الفلسفة في المجال التداولي الأوروبي أفضى إلى تحرير العقل الأوروبي بوجه عام من سلطة الدين في الحياة العامة، خاصة في الشأن السياسي، بينما اقتصرت مفاعليها في المجال التداولي العربي على النخب الثقافية، التي تحاشت إلى وقت قريب الدخول في سجال صريح ومباشر مع العقائد والشرائع الدينية، بينما خاضت بشراسة سجالات فكرية ساخنة مع “التراث والتراثيين” كما يكثر نعتهم بذلك.

وفي هذا الإطار رأى الأكاديمي المصري، الدكتور محمد مصطفى الكنز أن “خطاب التنوير الحداثي في عالمنا العربي يعيش أزمة إفلاس حقيقية، لأنه حصر معركته في ميدان واحد هو الدين، وكلما اشتد إفلاسه اشتدّت هجمته على الدين، ويدلنا تعاطيهم لهذا الميدان الذي اختاروه وجعلوه معركتهم الوحيدة على أنهم أغبياء مجتمعيا حيث فقدوا الظهير الشعبي المساند”.

وأضاف في منشورات له، أطلع “عربي21” عليها: “كما أنهم أغبياء في قراءة تاريخ الأمة وثقافتها، ففقدوا الظهير الحضاري المؤازر، وأغبياء في تبصُّر الحاضر والمستقبل فجاءت مقولاتهم متناقضة مضطربة، وأغبياء في عدم الوفاء للماضي، فظهروا في صورة اللقيط مجهول الأصل والنسب” على حد تعبيره.

                                 محمد مصطفى الكنز.. أكاديمي مصري

وعن موقف “التنويريين” من الأنظمة السلطوية في العالم العربي، وصف الكنز تلك العلاقة بقوله: “للأسف حتى الأنظمة الطاغية التي قرر العلمانيون أن يحتموا بها جعلتهم في أيديها ألعوبة سياسية قذرة ضد خصومها، لأنهم قبلوا أن يعيشوا تحت ظل الطغاة متنازلين عن مبادئهم التي صدّعونا بها في مقابل المساحة الإعلامية التي أُتيحت لهم، وهو ما عراهم تماما أمام أنفسهم ومريديهم”.

وتابع: “هذا الميدان الذي اختاروه أنشأ ضدهم جبهة رفض واسعة من العلماء والباحثين، وأثار حول أفكارهم وغاياتهم الشكوك، وأنشأ كرد فعل نحوهم جيلا من الشباب المثقف الواعي المنتمي لأمته وتراثها، وهذا يعني أنهم خسروا العوام كما خسروا الخواص”.

ولفت الأكاديمي المصري الكنز إلى أن “هذا الاختزال الفكري الذي حصروا أنفسهم فيه سدّ أمامهم التفكير في أي مشروع حضاري جاد يسهم في بناء الأمة، ويُقنع الناس بجدوى دعواهم، فصاروا يعيدون إنتاج مقولاتهم؛ إذ لا يملكون غيرها، وقد سمعت بأذني أحد زعمائهم، وهو أدونيس يقول في لقائه الأخير الذي استضافه صالون د. عبد الناصر هلال: “إن لم نتحدث عن الدين ففيم إذن نتحدث؟!”، معقبا “وهو صادق فيما يقول، لقد خنق العلمانيون والحداثيون أنفسهم في هذا المضيق، ولما لم يستطعيوا الخروج منه ماتوا بداخله”.

من جهته وبرؤية مغايرة قال الكاتب الأردني، المقيم في تركيا، أيمن خالد: “تتراوح المسألة فيما يبدو لي ما بين التفسير السياسي للدين وبين التبرير الديني للسياسة، وبحسب الظاهر لا التنويريون ذهبوا بعيدا عن الدين إلا في بعض الاستثناءات، ولا المتدينون خرجوا من عباءة السلطة”.

وأضاف في حواره مع “عربي21”: “فمسألة أسلمة المجتمع من طرف الإسلاميين أضحت بمواجهة إعادة تفسير النصوص من طرف التنويريين في وقت عجز فيه الإسلاميون عن صياغة فقه الواقع والمتغيرات التي دفعت التنويريين إلى فكرة إعادة تفسير النصوص”.

وتابع: “فالسلفية الأولى (الوهابية) ظاهرة سياسية دينية، والسلفية الثانية (الإخوان) ظاهرة بدأت اجتماعية سياسية وانتهت بالشكل الجديد للإسلام السياسي، وسوف نجد أن كليهما جير النص وفهمه بطريقته كما في قول الإمام البنا في كتاب الرسائل “نحن الإسلام”، كذلك سبقت الوهابية ذلك بعقود تناوبت فيه بين استخدام القوة إبان حركة محمد بن عبد الوهاب وصولا إلى دور السلطة لاحقا في إقرار الديني تحت مظلة السياسي”.

                          أيمن خالد.. كاتب وباحث أردني

ولفت خالد إلى أن “الأزمة ليست في ثبوت أو إنكار النصوص، ولكن في إعادة تفسير النصوص، وهذا غير ممكن لأن السلطة الدينية هي مطلب للأنظمة لإعادة الإمساك بالأمور.. نحن فقط في مرحلة الجدل والسلطة في النهاية هي التي تحدد حركة الدين، وهي في النهاية تريد تفسيرها السياسي للدين الذي يبقي الأمور بيديها”.

وواصل: “ومن ثمَّ فإن ثنائية السلطة والدين تعتمد على المؤسسة الدينية التابعة للدولة ذاتها، ولا تعتمد على أي من المدارس أو المتداول السياسي الديني في عالم السلطة” مشيرا إلى أنه “لا يوجد مشروع تنويري كامل يمكن الجدل حوله، وتبقى الفكرة التنويرية حالة أشبه بالفردية من حيث التأثير بين قوتين كبيرتين، هما سلطة الدولة ومؤسساتها الدينية، وبين الإسلام السياسي الذي تعثر في عالم السياسة وعالم الفتاوى الدينية معا”، حسب رؤيته.

بدوره رأى الباحث المغربي في الفلسفة السياسية والأخلاق، فؤاد هرّاجة أن “التيار الحداثوي حاول بكل أطرافه إسقاط الحالة الغربية على الإسلام وتحميله سبب التردي والتخلق العام، مثلما كان حال الكنيسة بالغرب، وعلى هذا النحو نُصِب العداء لكل ما هو قديم وتقليدي وماضوي”.

وواصل حديثه لـ“عربي21” بالقول: “ولأن الدين كان ولا زال يشكل جوهر الحياة في الأمة الإسلامية، بذل الحداثويون قصارى جهدهم لتحييد الدين عن الحياة العامة، ونعت كل من يحمل مشروعا إسلاميا بالماضوية و(التقليدانية)، وأنه يريد إرجاع الأمة للبداوة، وثقافة الخيمة والجمل”.

وأضاف: “لهذه الأسباب سكت الحداثويون ردحا من الزمن عن اضطهاد كل ما هو حركي إسلامي، بل منهم من كانت له اليد الطولى في التحريض عليهم، وسجنهم وإعدامهم، وها نحن اليوم، وبعد ثورات الربيع العربي المجهضة، نعيش نفس السيناريو بعد انحياز العديد من التيارات الحداثوية إلى الأنظمة العسكرية المستبدة ضد ما يسمونه بالإسلام السياسي الحركي”.

وتابع: “فباركت المجازر في الساحات والإعدامات التي تصدر عن المحاكم الصورية، وهكذا نسيت أو تناست الحداثوية العربية أن الذي كان يعيق الحداثة في الغرب هو استبداد الدولة بغض النظر عن اليافطة التي كان المستبد يختبىء وراءها، ألا وهي الكنيسة، وعوض أن يؤسس الحداثويون لمشروع ضد استبداد الدولة، واستبداد الحاكم، راحوا يُنظّرون لكيفية إسقاط القداسة عن الدين، ومحاربة كل من يحمل مشروعا تجديديا بمرجعية إسلامية، ثم ازدراء كل الرموز الدينية التاريخية في محاولة فصل الأمة عن تاريخها، وترسيخ فكرة اقتران التخلف بالماضي”.

ونبّه الباحث المغربي هرّاجة إلى أن “هذه المعارك الفكرية الثقافية دفعت بالكثير من التيارات الحداثوية إلى الارتقاء في أحضان الاستبداد، وعقد زواج المتعة معه ليس اقتناعا به وإنما استنجادا بما يمتلك من وسائل العنف لقمع التيارات الإسلامية الدعوية والسياسية، وبهذا فإن هذه التيارات حددت عدوها الاستراتيجي بأنه الإسلام، ومن يحمل مشروعه من الإسلاميين، وأن حليفها التكتيكي هي الأنظمة القمعية المستبدة”.

ولاحظ أن “التاريخ عند هؤلاء المعادين لكل ما هو إسلامي، يبدأ التاريخ عندهم – وللأسف – من لحظة الحداثة، متناسين أن أمة كانت تحكم العالم من غرب أفريقيا إلى شمال أوروبا إلى شرق آسيا، بمبادئ الإسلام وقيمه وأخلاقياته، لكن استبداد الحكم أفسدها وشتتها”.

واستدرك: “وهذا لا يعني أن كل الحداثيين على نفس الشاكلة، بل فيهم الفضلاء المعتدلون الذين أحسنوا قراءة التاريخ فميزوا بين الإسلام الذي حرر الإنسان، وما أعطاه من قوة للدولة طيلة قرون، وبين المسيحية التي استعبدت البشر وتحالفت مع الملكيات الإقطاعية، حتى رفع شعار (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)”.

وشدد هرّاجة في ختام حديثه على ضرورة التمييز بين الرمور الحداثية المختلفة “فالفضلاء منهم مبدئيون لا يقبلون التطاول على الحرية والكرامة والعدالة مع أي كان، أما الحداثويون الذين ينصبون العداء للإسلام من أجل العداء فلا يختلفون عن الإسلامويين الذين يفتون بتكفير كل من يحمل مشروعا حركيا، ويسبحون ليل نهار بحمد الحاكم المستبد ويقدسونه.. ونحن اليوم في العالمين العربي والإسلامي بحاجة إلى تحييد هذين التيارين، والتأسيس لحوار وتحالف استراتيجي بين الصادقين من الإسلاميين والحداثيين على أرضية هدم دعائم الاستبداد، وبناء دولة الحق والحرية والعدالة والكرامة”.

 المصدر: عربي21

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى