مقالاتمقالات مختارة

التعليم في الحضارة العربية الإسلامية: بين حوانيت الوراقين ومنازل العلماء

التعليم في الحضارة العربية الإسلامية: بين حوانيت الوراقين ومنازل العلماء

 

بقلم د. يسري عبد الغني عبدالله

 

أولًا- التعليم في حوانيت الوراقين:

     لعله من الممكن أن نربط بين أسواق العرب في الجاهلية: عكاظ، و مجنة، وذي المجاز، وبين دكاكين أو محالّ بيع الكتب في الإسلام.

     في تلك الأسواق المشهورة كان العرب يجتمعون للقيام ببعض الصفقات التجارية، ولكنهم كانوا ينتهزون فرصة هذا الاجتماع ليقوموا بنشاط رائع في الناحية الأدبية، فينشدون الأشعار، ويعقدون المناظرات، ويلقون الخطب الرنانة(1).

     لقد حاكت دكاكين الوراقين الأسواق في بيع الكتب، هذه الدكاكين التي فتحت في الأصل لأعمال تجارية بحتة، ثم إذ هي تصير صرحًا للثقافة والحوار العلمي، عندما أمّها المثقفون والأدباء، واتخذوا منها مكانًا لاجتماعهم وأبحاثهم.

     ولم تكن دكاكين بيع الكتب محاكاة تامة لأسواق العرب في الجاهلية؛ بل كانت هناك نقاط خلاف بين هذه وتلك، ومن أبرز هذه النقاط أن الاجتماعات الثقافية كانت شبه يومية في حوانيت بيع الكتب، ولكنها في أسواق العرب كانت ترتبط بعمران هذه الأسواق التي ما كانت تعمر إلا في مواسم خاصة.

     هذا، وقد ظهرت دكاكين بيع الكتب منذ مطلع الدولة العباسية(2) (132-656هـ)، ثم انتشرت بسرعة انتشارًا ملحوظًا في العواصم والبلدان المختلفة في العالم الإسلامي، وحفلت كل مدينة بل كل محلة بعدد وافر منها.

     يذكر لنا اليعقوبي في جملة كلامه عن أرباض بغداد قائلًا: «… ثم ربض وضاح مولى أمير المؤمنين… وبه أكثر من مئة حانوت للوراقين»(3).

     وكان في مصر على أيام الطولونيين (254-292هـ) والإخشيديين (323-358هـ) سوق عظيمة للوراقين، تعرض فيها الكتب للبيع، وأحيانًا تدور في دكاكينها المناظرات والمحاورات العلمية و الفكرية(4).

     وقد تعرض المقريزي في مواضع كثيرة من كتابه (الخطط)، للحديث عن هذه المحالّ التي كان يجتمع فيها أهل العلم والأدب والفكر، ومن يرغب في شراء الكتب أو بيعها(5).

     ولم يكن باعة الكتب مجرّد تجار ينشدون الربح أو المكسب المادي، وإنما كانوا في أغلب الأحايين أدباء ذوي ثقافة واسعة عالية، يسعون للذة العقلية من وراء هذه المعرفة التي كانت تتيح لهم القراءة والاطلاع، وتجذب لمحالّهم أهل العلم والأدب، وعلى هذا فقد حفلت أسماء الوراقين بشخصيات لامعة كابن النديم صاحب كتاب الفهرست المشهور(6).

     وكذلك علي بن عيسى المعروف بابن كوجك، وقد ذكر عنه ياقوت الحموي أنه كان وراقًا، بالإضافة إلى كونه أديبًا فاضلًا، وقد ألّف عدة كتب صالحة(7).

     والمعروف لنا أن ياقوت الحموي مؤلف (معجم البلدان)، و (معجم الأدباء)، عمل وراقًا، بالإضافة إلى كونه أديبًا وشاعرًا وباحثًا جادًا(8).

     ونحب أن نشير هنا إلى أنه رغم تغير الظروف والأحوال، فإنه مازالت في كثير من البلاد العربية والإسلامية علماء أفاضل يشتغلون بهذه المهنة، وقد تحدّث السندوبي وهو يقدم لكتاب المقابسات لأبي حيان التوحيدي عن واحد من هؤلاء، فقال: عرفت رجلًا يبيع الكتب في حيّ خان الخليلي (بالقاهرة القديمة) يسمى الشيخ/ عبد الملك الفشني، وكان على علم ومعرفة وسعة اطلاع، وكان يدلني بصدق وإخلاص على ما يلزمني من الكتب القيّمة والأسفار النافعة، وقد كان يذاكرني في المعارف العلمية والأدبية، وينبّه ذهني إلى حقائق الأشياء، ودقائق الأمور، ويشير عليّ بما يجب أن أقرأ من الكتب، ويدلني على الكيفية التي توصلني إلى الانتفاع بها انتفاعًا ناجحًا مثمرًا(9).

     وقد قابلنا في شبابنا أو في أول رحلتنا مع العلم والمعرفة رجال أفاضل من باعة الكتب على أرصفة حي السيدة زينب وحي الحسين وحي الأزبكية وبجوار الجامع الأزهر الشريف في القاهرة القديمة، باعة كتب أفاضل وجّهونا إلى أمهات الكتب كي نطلع عليها وندرسها، ومنها عرفنا الكثير، فجزاهم الله خيرًا عن حسن عملهم.

     نقول: إن مهنة الوراقة في عهد الدولة العباسية لم تقف عند حد الصفقات التجارية وبيع الكتب، وإنما كانت تتعدى ذلك إلى مهام ثقافية بالغة الأهمية في ذلك الوقت إذ كان الوراقون هم الذين ينسخون الكتب المهمة ويعرضونها للراغبين في اقتنائها، ويتقاضون على ذلك أجرًا متواضعًا متوسطه دينار عن كل كتاب.

     وكان الجاحظ (شيخ العربية الأكبر)، وكما يحدثنا أبو هفان الراوية، يكتري دكاكين الوراقين، ويبيت فيها للقراءة والدراسة، وقد قيل: إنه توفي في إحدى هذه الدكاكين عندما سقط عليه أحد أرفف الكتب وهو في شيخوخته(10).

     والذي يعنينا هنا التأكيد على أن حوانيت الوراقين كانت منتدىً ومجتمعًا وملتقىً للطلاب وللعلماء ولكل محبّ للعلم والأدب والمعرفة، يتذاكرون فيها ويتناقشون ويتحاورون فيفيدون ويستفيدون، وقد أشرنا إلى ذلك في السطور السابقة، ولكننا سوف نحاول أن نجلي الأمر أكثر  فنذكر بعض الأمثلة القليلة في هذا السياق:

     1- كان ياقوت الحموي يتاجر في الكتب، ويزور أسواق الوراقين من أجل أن يعرض تجارته، ويقال: إنه كان متعصبًا على الإمام/ عليّ بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وكان قد اطلع على بعض كتب الخوارج، فاشتبك في ذهنه من ذلك طرف قوي، فتوجه إلى دمشق السورية في سنة 613هـ، و قعد في بعض أسواقها، وحاور بعض من يتعصب للإمام/ علي..(11)، وبالطبع أي حوار بين أهل العلم والفكر يجب أن يكون على قدر كبير من سعة الأفق والتسامح واحترام الآخر مهما اختلفنا معه في أي رأي أو فكر، فالتعصب آفة تقتل الحوار البناء، وتدمر النقاش الواعي الفاعل.

     2- كان من عادة العالمين الشهيرين/ أبي الفرج الأصفهاني، وأبي نصر الزجاج أن يلتقيا كثيرًا في سوق الوراقين، وفي إحدى جلساتهما كان أبوالحسن علي بن يوسف الشاعر والأديب جالسًا عند أبي الفتح بن الحراز الوراق، وهو ينشد أبيات إبراهيم بن العباس الصولي التي يقول فيها:

رأى خلتي من حيث يخفى مكانها

فكانت قــذى عينيـه حـين تجلت

     فلما بلغ إليه استحسنه وكرره، حدث أبو نصر الزجاج قال: قال لي أبو الفرج الأصفهاني: قم إليه وقل له: قد أسرفت في استحسان هذا البيت، وهو كذلك، فأين موضع الصنعة فيه؟ فقمت فقلت له ذلك، فقال: قوله «وكانت قذى عينيه»، فعدت إلى الأصفهاني وعرفته ذلك، فقال: عد إليه فقل له: أخطأت، الصنعة في قوله «من حيث يخفى مكانها»(12)، والحوار هنا أمر لا ضرر ولا ضرار فيه طالما كان قائمًا على احترام جميع الأطراف.

     3- ووصف العلامة/ ابن الجوزي (597هـ) سوق الوراقين ببغداد في زمنه، بقوله: إنها سوق كبيرة، وهي مجالس العلماء والشعراء(13).

     4- أما سوق باعة الكتب أو الكتبيين بمصر فنقتبس الحديث عنه من كلام المقريزي في كتابه (الخطط)، حيث يحدد مكان هذا السوق فيما بين الصاغة (الحي الذي يصنع ويباع فيه الذهب في القاهرة القديمة) والمدرسة الصالحية، ويبدو أن المقريزي وصف هذا السوق سنة 700هـ تقريبًا، وكان سوق الكتب قبل ذلك تجاه الجانب الشرقي من جامع عمرو بن العاص (رضي الله عنه) جنوب القاهرة أو مصر القديمة كما يقال عنها الآن، وما برح هذا السوق أن أصبح مجمعًا لأهل العلم والمعرفة يترددون إليه، وينقل المقريزي ما أنشده أحد الشعراء عن هذا السوق، حيث يقول:

     مجالســة السـوق مذمـومـة

 ومنهـا مجـالس قـــد تحتسب

     فلا تقـربن غـير سـوق الجياد

وسوق السلاح وسوق الكتب

     فهــاتيــك آلــة أهل الـوغى

وهاتيك آلـة أهل الأدب (14)

     نقول: لقد كان لحوانيت الوراقين في الحضارة العربية الإسلامية أثر عقلي ملحوظ، كثيرًا ما تعدى الوراقين إلى أسرهم، ومن أمثلة ذلك: زينب وحمدة ابنتا زيد الوراق، الذي كان يعيش في وادي الحمى من غرناطة الأندلسية، فقد برعتا في الآداب والعلوم، وكانتا على قدم المساواة مع أساتذة العصر، ولعل ذلك دليل على مشاركة المرأة في الحضارة العربية الإسلامية في شتى مجالات العلم والمعرفة؛ بل ونبوغها وتفوقها في هذه المجالات(15).

     هذا، ولم يقف النشاط العلمي بالدكاكين على حوانيت الوراقين؛ بل انتقل منها إلى غيرها من مجال البيع والشراء، فإلى الحانوت المتواضع الذي كان الشاعر العباسي/ أبو العتاهية يبيع فيه الجرار والفخار كان يتوافد الشباب والمتأدبون فينشدهم أبو العتاهية أشعاره، ثم يأخذ هؤلاء ما تكسر من الخزف فيكتبون عليها أشعاره(16).

     وكان أبو بكر الصبغي المتوفى سنة 344هـ، يصنع الصبغ بنفسه ويبيعه في حانوته، وكان هو من أعيان فقهاء الشافعية، كثير السماع والحديث، وكان حانوته مجمع الحفاظ والمحدثين، وكان عبد الله بن يعقوب يجلس على باب هذا الحانوت يقرأ للناس(17).

     ويروي أبو الحاج عن بعض شيوخه: أن رجلًا رحل في طلب العلم إلى بغداد، فقرأ ما شاء الله له أن يقرأ، ثم أراد الانصراف إلى وطنه، فاكترى دابّة يركبها ليخرج من البلدة، ولكنه وقف ليشتري صاحب الدابة بعض حاجاته، فسمع الطالب نقاشًا علميًا يدور بين اثنين من أصحاب الحوانيت المتجاورة فطلب الطالب من صاحب الدابة إعادته إلى بغداد قائلًا: إن بلدًا باعته في هذه المنزلة من العلم لا ينبغي أن يرحل عنه(18).

     ومازالت في بعض العواصم العربية والإسلامية حوانيت لبيع وشراء الكتب وبالذات في الأحياء القديمة منها، ورغم أنها لا تلعب الدور الرائع والمتميز الذي كانت تلعبه حوانيت الكتب في العصور الذهبية للحضارة العربية الإسلامية، إلا أن بعض أصحابها مازالوا يتمتعون بقدر لا بأس به من العلم والمعرفة فيستطيعون الحوار المفيد مع كل من يذهب لشراء أحد الكتب أو يسأل عن كتاب يهمّه..

ثانيًا- التعليم في منازل العلماء:

     لم يعد المسلمون المنازل مكانًا صالحًا للتعليم العام، إذ إن السكان والطلاب جميعًا لا يجدون الراحة واليسر في التوفيق بين هدوء المنزل وجلاله، وبين حلقة الدرس وما تستدعيه من حركة ونشاط.

     وإلى ذلك يشير المولى جل وعلا في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نٰظِرِينَ إِنٰهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ…﴾(19).

     والمعنى هنا: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبيّ إلا أن يدعوكم إلى طعام، وإن أذن لكم لغير طعام فلا تتعمّدوا المكث حتى ينضج الطعام، ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا أكلتم فتفرقوا، ولا طالبين الائتناس بحديث بعضكم بعضا أو بحديث أهل البيت بالتسمع له، إن ذلكم كان يؤلم النبي فيخجل أن ينهاكم عنه، والله لا يبالي أن يقول الحق تأديبًا لخلقه، وهداية لهم إلى الفضائل(20).

     وقد شرح العبدري أيضًا في كتابه (المدخل) هذه القضية ذاكرًا أن مواضع التدريس هو المسجد، لأن الجلوس للتدريس إنما فائدته أن تظهر به سنة، أو تخمد به بدعة، أو يتعلم به حكم من أحكام الله تعالى والمسجد يحصل فيه الغرض متوفرًا؛ لأنه موضع لاجتماع الناس، رفيعهم ووضيعهم، وعاليهم وجاهلهم (أي أنه يضم جميع فئات وطبقات المجتمع دون أدنى تفرقة بينهم)، بخلاف البيت، فإنه محجور على الناس إلا من أبيح له، والبيوت تحترم وتهاب حتى لو أبيحت للجميع(21).

     ويقرر ابن الحاج العبدري في مكان آخر من كتابه: إن المنازل مكان للدرس عند الضرورة فقط (مع مراعاة الاحترام الكامل والتام للمنازل)(22).

     وعليه فاستجابةً لإلحاح الضرورة، وتحت ضغط أحوال معينة قامت حلقات علمية بالمنازل الخاصة، كما سنحاول التوضيح خلال سطورنا هذه.

     لقد جرى التعليم الإسلامي بالمنزل في عهد الإسلام المبكر، وقبل نشأة المساجد، فقد اتخذ الرسول الكريم محمد -عليه الصلاة والسلام- دارالأرقم بن أبي الأرقم مركزًا يلتقي فيه بأصحابه ومن تبعه، ليعلمهم مبادئ الدين الجديد، ويقرئهم ما نزل من آيات الذكر الحكيم، كما كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يستقبل في هذا المنزل من جنحوا إلى الإسلام ومالوا إليه، ليعمر الرسول الهادي البشير قلوبهم بإرشاده وتعليمه، فيعتنقوا الإسلام، وينضموا إلى جماعة  المسلمين(23).

     بالإضافة إلى دار الأرقم كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- قبل إنشاء المساجد أيضًا يجلس بمنزله بمكة والمدينة، ويلتفّ حوله المسلمون ليعلمهم ويزكّيهم، وقد ظلّوا كذلك إلى أن نزلت بالمدينة الآية رقم 53 من سورة الأحزاب التي ذكرناها من قبل.. وكان نزولها بعد إنشاء المساجد، وقد خفّف الله بها عن الرسول ما كان يعاني من تدفّق الجموع على بيته تدفقًا يكاد يكون متصلًا، مما لا يدع وقتًا للراحة والاستجمام.

     ومن الواضح لنا أن منزل الرسول الكريم هو فقط الذي أشارت إليه الآية الكريمة، وقد فهم من هذا عدم الرغبة في اتخاذ البيوت مكانًا للدرس والتعليم، غير أن ذلك لم يرق إلى درجة المنع، ولظروف خاصة أصبحت بيوت متعددة ملتقىً للطلاب والمدرسين، ومركزًا علميًا مهمًّا على الرغم من انتشار المساجد(24).

     ومن أهم هذه المنازل منزل الطبيب الفيلسوف والشيخ الرئيس/ابن سينا، حيث يقول الجرجاني (كان من أصدقائه المقربين): كان يجتمع كل ليلة في دار ابن سينا طلبة العلم، وكنت أنا وزملائي نقرأ معه (كتاب الشفاء)، وكان يقرأ غيرنا (كتاب القانون)، وكان التدريس بالليل لتفرغه لخدمة الأمير/ شمس الدولة، وقضينا على ذلك زمنًا(25).

     وكان أبو سليمان السجستاني (وهو محمد بن طاهر بن بهرام، توفي بالعقد الأخير للمئة الرابعة الهجرية)، أعور وفي وجهه بعض البقع، فكان ذلك سبب انقطاعه عن الناس، ولزومه منزله، فلا يأتيه إلا مستفيد وطالب علم، ولذلك كان منزله تجمعًا لأهل العلوم القديمة، فكان يتصدّى لقراءتها ويقصده الرؤساء والأجلّاء(26).

     وفي ترجمة أبي الحسن عبد الله المنجم، يذكر لنا القفطي: أن أبا الحسن كان صديقًا لأبي سليمان السجستاني وملازمًا له، وكان كثيرًا ما يجتمع بمنزل أبي سليمان بجماعة من سادة العلماء، فيأخذون في المذاكرة والمناظرة.

     وكان لأبي سليمان السجستاني الكلمة الفاصلة. وممن كانوا يحضرون هذا المجلس العلمي الرائع: أبو محمد المقدسي، وأبو الفتح النوشجاني، وأبو زكريا الصيمري، وأبو بكر القومسي، وغلام زحل، وأبو حيّان التوحيدي(27).

     ويذكر الأديب الفيلسوف /أبو حيان التوحيدي(28) أن كل واحد من هؤلاء السابق ذكرهم كان فريدًا في علمه، وقد سأل الوزير/ ابن سعدان مرة أبا حيان التوحيدي أن يحدثه بما أفاد في يوم معين، فأخذ أبو حيان ينقل للوزير صورة ما دار في منزل أبي سليمان وآراء الأخير في النفس(29).

     وكثيرًا ما نقل أبو حيان التوحيدي للوزير مما كان يدور في هذا المجلس العلمي المحترم من موضوعات شتى(30).

     فقد كانوا يتعرضون كثيرًا إلى آراء القدماء من الفلاسفة بالبحث والدرس والنقاش والشرح والتعليق، فيتفقون معهم أو يختلفون عنهم(31).

     وعلى سبيل المثال: إذا قال سقراط: الكلام اللطيف ينبو عن الفهم الكثيف، وافق أبو سليمان السجستاني على ذلك، وزاده شرحًا بما ينقله عن فيلسوف آخر، من أن المريض يفرح بالطبيب ويقبل نصيحته، لأنه عالم بما عنده أما الجاهل فلا يفعل هذا مع العالم لعدم علمه بما عنده(32).

     ومثال آخر: إذا روى قول أفلاطون: العلم مصباح النفس، قال أبو سليمان السجستاني: ما أحسن المصباح إذا كان زجاجه نقيًا!(33).

     وإذا قال أفلاطون: من يصحب السلطان فلا يجزع من قسوته، كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر، قال أبو سليمان: هذا كلام ضرره أكثر من نفعه، قوّاه صاحبه بالمثل، والمثل يستجيب للحق كما يستجيب للباطل، ولا يبعد عن السلطان إلا إذا جار(34).

     كما حفل كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي بما دار في هذه الجلسات الغنية بالعلم والمعرفة، في نفس الوقت الذي حفل بها كذلك كتابه المقابسات(35).

     ومن الدور المهمة التي كان يلجأ إليها الطلاب والمدرسون وعشاق العلم و المعرفة، فيستفيدون منها أعظم استفادة، دار الإمام/ أبي حامد الغزالي (توفى 504هـ) حيث كان يستقبل تلاميذه في داره بعد أن اعتزل العمل بالمدرسة النظامية بنيسابور، على إثر رحلته التي قام بها لأداء فريضة الحج والاعتكاف في الجامع الأموي بالعاصمة السورية دمشق، حيث كتب كتابه الشهير (إحياء علوم الدين)(36).

     وعندما اتهم العالم /علي بن محمد الفصيحي (توفى 516هـ) بالميل إلى الشيعة، وسئل عن ذلك الاتهام فلم ينكر، فتمّ فصله من المدرسة النظامية حيث كان من مشاهير مدرسيها، ولكن أفواجًا من المتعلمين راحوا يقصدونه في داره ليواصلوا القراءة عليه(37)، وبالطبع ما اتخذه أهل السلطة في تلك الآونة من فصل للرجل من عمله يدل أكبر دلالة على ضيق الأفق والتعصب الأعمى الذي يضرّ بنسيج المجتمع، فالإسلام دين الوحدة والتسامح، لا يعرف الطائفية أو الحزبية المقيتة التي تعصف بوحدة الأمة وتؤدي إلى ضعفها وتراجعها.

     وكان الوزير الفاطمي/ يعقوب بن كلس، وزير الخليفة/ العزيز بالله (الخليفة الفاطمي الخامس في سلسلة الخلفاء الفاطميين، تولى 365هـ، وتوفي 386هـ) على معرفة واسعة للمذهب الإسماعيلي، وقد كتب في الفقه الإسماعيلي كتابًا ضخمًا ضمنه ما سمعه من الخليفة الفاطمي/ المعز لدين الله محمد أبي تميم (توفي 365هـ)، والخليفة الفاطمي/ العزيز بالله نزار أبو منصور (ابن الخليفة/ المعز لدين الله، توفي 386هـ)، وكان منزله كل يوم جمعة مأوى للعلماء والطلاب ليقرأ لهم من هذا الكتاب ومن سواه من الكتب(38).

     أما السلفي أحمد بن محمد أبو طاهر (توفى 576هـ) كان من العلماء الفقراء، وطاف بلاد الله، وقابل خلق الله حتى وصل إلى مدينة الإسكندرية المصرية، فتزوج امرأة ذات مال واتخذ من بيته بالإسكندرية مكانًا للتعليم، وفي الجزء الثالث من منتخباته من أصول سماعات أبي الحسن علي بن المشرف يقول: بلغت من أوله قراءة وسماعًا ومعي إسحاق وحمد ابنا أحمد بن موسى المروزاني، وصح لنا ذلك في منزله بالإسكندرية(39).

     تلك أمثلة تعدّ نماذج فقط لسواها مما حفلت به كتب الأدب والتاريخ، وهي تبين بوضوح أن منازل العلماء أسهمت بنصيب وافر في نشر الثقافة والعلم في أرجاء المعمورة الإسلامية، وبخاصة قبل انتشار المدارس.

     ولما كان البيت مكانًا له خصوصيته التي لا يصح أن تنتهك بأي حال من الأحوال فمن الطبيعي أن يحسّ رواده بالوحشة والانقباض، ومن هنا كان على صاحب البيت – وقد جعل منه ملتقىً للطلاب والتلاميذ – أن يقابل رواده ببشاشة وترحيب ويسري عنهم قدر الطاقة والإمكان، وإلا فقد يتسبب عن ذلك انقطاعهم عن الحضور(40).

     بالطبع هذا مما يجعل الدرس قليل الجدوى، ويتحتم على الطلاب كذلك أن يتسموا بالوقار والهدوء حفاظًا على حرمة البيت وجلاله.

والله تعالى ولي التوفيق،،،

*  *  *

الهوامش:

(1)      أبو الفرج الأصفهاني، كتاب الأغاني، طبعة الساسي، 4/35 .

(2)      فليب حتى، تاريخ العرب، لندن، 1949م، ص 414.

(3)      اليعقوبي، كتاب البلدان، ليدن، هولندا، بدون تاريخ، ص 17.

(4)      ابن زولاق، أخبار سيبويه المصري، مخطوطة محفوظة بمكتبة تيمور باشا بقسم المخطوطات في دار الكتب المصرية (تاريخ)، الصفحات 33-44.

(5)      المقريزي، الخطط، القاهرة، 1170هـ، 1/361، 2/96، 102.

(6)      ياقوت الحموي، معجم الأدباء، نشرة مارجليوث، لندن، بدون تاريخ، 6/408.

(7)      ياقوت الحموي، معجم الأدباء، مرجع سابق، 5/179.

(8)      ابن خلكان، وفيات الأعيان، القاهرة، 1275هـ، 2/311-312.

(9)      أحمد شلبي، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1987م، ص 67.

(10)    ياقوت الحموي، معجم الأدباء، مرجع سابق، 6/56.

(11)    ابن خلكان، وفيات الأعيان، مرجع سابق، 2/311.

(12)    ياقوت الحموي، معجم الأدباء، مرجع سابق، 5/157-158.

(13)    عبد الرحمن بن الجوزي، مناقب بغداد، بغداد، 1343هـ، ص 29.

(14)    المقريزي، الخطط، مرجع سابق، 2/102.

(15)    أحمد شلبي، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1987م، ص 69.

(16)    أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، طبعة الساسي، 3/129.

(17)    السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، القاهرة، 1324هـ، 2/168.

(18)    أبو الحاج، الألف باء للألباء، مخطوطة مصورة ، بقسم المخطوطات بدار الكتب المصرية، عن الأصل المحفوظ بمكتبة بايزيد، بإستنبول، تركيا، تحت رقم 5336، ص 147.

(19)    سورة الأحزاب: الآية: 53.

(20)    محمد فريد وجدي، المصحف المفسر، دار الشعب، القاهرة، 1977م، ص 558- وكذلك تفسير الفخر الرازي، 7/347- وأيضًا: تفسير أبي السعود، على هامش تفسير الفخر الرازي، 6/552-553.

(21)    ابن الحاج العبدري، المدخل، دار التراث، القاهرة، بدون تاريخ، 1/85.

(22)    ابن الحاج العبدري، المدخل،  المرجع السابق، 2/97.

(23)    الطبري تاريخ الأمم والملوك، طبعة ليدن، هولندا، 1881م، 3/1335.

(24)    أحمد شلبي، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي، مرجع سابق، ص 72 وما بعدها.

(25)    ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، نشرة: أوجست موللر، 1881 م، 2/4- وكذلك: القفطي، إخبار العلماء بأخبار الحكماء، ليبسك، 1320هـ، ص 420.

(26)    القفطي، إخبار العلماء بأخبار الحكماء، المرجع السابق، ص 181-183.

(27)    القفطي، إخبار العلماء بأخبار الحكماء، المرجع السابق، ص 114-115.

(28)    أبو حيان التوحيدي، المقابسات، القاهرة، 1929م، ص 130.

(29)    أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، المرجع السابق، 1/40.

(30)    نراجع على سبيل المثال: أبو حيان ااتوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، نفس المرجع السابق، 2/18 و23 و24 و43- وكذلك: 3/99، 124، 125.

(31)    أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة،  المرجع السابق، 2/43 و49.

(32)    أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة،  نفس المرجع السابق، 2/44.

(33)    أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، نفس المرجع السابق، 2/45.

(34)    أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، نفس المرجع السابق، 2/47- 48.

(35)    نراجع على سبيل المثال: أبو حيان التوحيدي، المقابسات، القاهرة،  1929هـ، الصفحات: 120-138-292-293-301-319 – 327-355- 358.

(36)    من أراد المزيد عن شخصية الإمام / أبي حامد الغزالي، يمكنه مراجعة: الغزالي، إحياء علوم الدين، القاهرة، 1306 هـ، 1/3 حيث نجد ترجمة له.

(37)    ياقوت الحموي، معجم الأدباء ، مرجع سابق، 5/415.

(38)    المقريزي، الخطط، مرجع سابق، 2/431.

(39)    شمس الدين محمد الذهبي، تذكرة الحفاظ، دار الكتب العلمية، بيروت، 2007 م،  4/93.

(40)    ابن الحاج العبدري، المدخل، مرجع سابق، 2/97-98.

(*)  باحث وخبير في التراث الثقافي، 14 شارع محمد شاكر، الحلمية الجديدة، بريد القلعة (11411) القاهرة، مصر.

(المصدر: مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى