مقالاتمقالات مختارة

التعاقد الإيمانيّ والتعاقد السياسيّ – عباس شريفة

بقلم الشيخ عباس شريفة

كثيراً ما يقع اللبس عند بعضهم في مباحث البراء والولاء، حيث يخلطون بين التعاقد السياسيّ مع الدولة الإسلاميّة، وبين التعاقد الإيمانيّ مع المسلمين، وينزلون العقدين منزلة واحدة.  والحقيقة أنّه لا يلزم من الدخول في التعاقد الإيمانيّ أن يدخلك هذا العقد بالتعاقد السياسيّ تضميناً أو تلقائيّاً.  لأنّ التعاقد الإيمانيّ يعني أن المتعاقد قد دخل في الإسلام ديناً، ولا يشترط دخوله في العقد السياسيّ، والخضوع لسلطان الدولة الإسلاميّة أو أن يلتحق بجماعة المسلمين، ليصبح إيمانه صحيحاً مكتملاً، فقد يدخل الكثير من الناس في العقد الإيمانيّ وهم خارج جغرافيّة دولة الإسلام.  أمّا التعاقد السياسيّ فهو تعاقد على العيش في دولة الإسلام، والخضوع لأنظمتها، والالتزام بحربها وسلمها، في شكل معاهدات الدفاع المشترك أو الحماية، أو الدخول في رعايتها وعقدها السياسيّ، وقد يكون هذا المتعاقد ليس بمسلم أصلاً، ولم يدخل في عقدهم الإيمانيّ من الأساس، وهذا لا يمنعه أن يدخل في عقدهم السياسيّ أبداً، فكثير من غير المسلمين قد يكونون من مكوّنات الدولة الإسلاميّة، ويسكنون في حدودها،  ومن هذه المقدمة علينا التمييز بشكل واضح بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمّة، فلا يشترط في الدولة الإسلاميّة أن تستوعب جميع المسلمين، وليس من شروط الإسلام أن يجتمع المسلمون في دولة واحدة، فالأمّة هي كلّ من ينتمي لهذا الدين وإن لم تجمعهم دولة واحدة.

ولتجلية هذا المعنى نقف مع قوله تعالى:  ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) (72) الأنفال.   يقول صاحب تفسير البيان محمد صديق خان:  (والذين آمنوا ولم يهاجروا) من مكّة، بل أقاموا بها (مالكم من ولايتهم) بفتح الواو وكسرها أي من نصرتهم وإعانتهم أو من ميراثهم (من شيء) ولو كانوا من قراباتكم لعدم وقوع الهجرة منهم فلا إرث بينكم وبينهم.  (حتى يهاجروا) إلى المدينة فيكون لهم ما كان للطائفة الأولى الجامعين بين الإيمان والهجرة.  (وإن استنصروكم في الدين) أي هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا إذا طلبوا منكم النصرة لهم على المشركين (فعليكم) أي فواجب عليكم (النصر).   (إلا) أن يستنصروكم (على قوم بينكم وبينهم ميثاق) عهد فلا تنصرونهم عليهم ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولئك القوم حتى تنقضي مدّته (والله بما تعملون بصير) تحذير عن تعدي حدّ الشرع الشريف. [ج5 ص 220].  نجد أنّ البيان الربانيّ يحدّد الهجرة كفعل مؤشّر على الدخول في العقد السياسيّ للدولة، وعدم الإتيان به لا ينفي عن صحبه، حكم الإسلام.  وقد أورد الشيخ السعدي في تفسيره معنىً دقيقاً في قوله تعالى ((وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ في الدِّينِ)) أي: لأجل قتال من قاتلهم لأجل دينهم ((فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ)) والقتال معهم وأمّا من قاتلوهم لغير ذلك من المقاصد فليس عليكم نصرهم. [ج1 ص 327].   كأن يكون المسلمون هم من باشر الاعتداء والظلم، فلا حقّ لهم بالنصرة.  من هذه المعاني نجد أن القرآن الكريم يؤصّل تأصيلاً واضحاً، للفصل الواضح بين مقتضيات التعاقد الإيمانيّ، ومقتضيات التعاقد السياسيّ، وما يلزم من كلّ نوع من أنواع العقود وما يترتّب عليها.

وقد كان لهذه القضيّة تطبيقات عمليّة في التصرّفات السياسيّة لرسول الله ﷺ يوم الحديبية، فمن الشروط التي وردت في هذا الصلح نذكر بندين رئيسين وردا في المعاهدة:

البند الأوّل:- ارجاع المسلمين كلّ شخص يأتي إليهم من قريش مسلماً بغير إذن قريش، وألا تردّ قريش من يعود إليها من المسلمين.   وبعد الانتهاء من كتابة وثيقة الصلح والمعاهدة، جاء (أبو جندل ابن سهيل بن عمرو) وهو في قيوده، هارباً من المشركين في مكّة، فقام إليه أبوه (سهيل) فضربه في وجهه وقال: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن تردّه إليَّ، فأعاده النبيّ للمشركين، فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين أَأُرَدّ إلى المشركين يفتنونني في ديني؟!، فقال له النبيّ ﷺ: (إنّا عقدنا بيننا وبين القوم عهداً، وإنّا لا نغدر بهم). ثم طمأنه النبيّ قائلاً: (يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإنّ الله جاعل لك ولمن معك فرجاً ومخرجاً) كما في [مسند أحمد].   في هذا السياق يتّضح تماماً أنّ (أبا جندل) لم يدخل العقد السياسيّ مع المسلمين، بناء على التزام رسول الله ﷺ ببنود صلح الحديبية، وهذا لا ينفي عن (أبي جندل) دخوله الإيمانيّ، وكونه مسلماً مؤمناً بالله ورسوله.  وفي أعقاب صلح الحديبية وعودة النبيّ إلى المدينة، استطاع (أبو بصير) أن يفرّ بدينه من التعذيب في سجون قريش في مكّة المكرّمة، فبعثت قريش اثنين من رجالها إلى النبيّ ﷺ ليعودا به تنفيذاً لشروط المعاهدة، فأعاده رسول الله ، ولم يدخله في العقد السياسيّ لدولة الإسلام.

أما البند الثاني: حريّة دخول أيّ شخص إلى عهد قريش أو عهد النبيّ محمد ﷺ، وهنا قامت (بنو خزاعة) وقالوا: نحن في عقد محمّد.  وقام (بنو بكر) وقالوا: نحن في قريش.  وكان (بنو خزاعة) على الشرك والكفر في غالبهم.  وهذا دليل آخر على افتكاك العقد السياسيّ عن الإيمانيّ مرّة أخرى، فخزاعة قبيلة مازالت على الشرك والكفر، ولم تكن تسكن المدينة، ولم يكن ذلك مانعاً من دخولهم في عقد الولاء السياسيّ من النصرة والمظاهرة عند الاعتداء عليهم، بينما مُنع (أبو جندل) وهو على الإسلام والإيمان من الدخول في هذا العقد. [انظر للتفصيل زاد المعاد ج 3/ ص 265].

وفي بيعة العقبة الثانية بين رسول الله وبين الأنصار جاء فيها بنود تتعلّق بالتعاقد السياسيّ، فكانت بيعة سياسيّة بامتياز، بينما كانت بيعة العقبة الأولى بيعة دينيّة إيمانيّة فقط.  جاء في نصّ بيعة العقبة الثانية:  “يا رسول الله! علام نبايعك؟.   فقال: بايعوني على السمع والطاعة في، النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنّة.” [مستدرك الحاكم النيسابوري، رقم 4251].

في هذا العقد الإيمانيّ والسياسيّ يتّضح تقيد الحماية والنصرة حال هجرة رسول الله ﷺ إليهم، فإنّهم يحمونه في داخل يثرب فقط.  لذلك نجد رسول الله يوم بدر لا يخرج عن مقتضى العقد السياسيّ، بدون إذن من الأنصار.  فقال يوم بدر: أشيروا عليّ أيها الناس!  وقام عدد من الصحابة وتكلّموا خيراً، ثم وقف (سعد بن معاذ) زعيم الأنصار، وقال: والله، لكأنَّك تريدنا يا رسول الله!  قال: (أجل).  قال: قد آمنَّا بك، وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السَّمع والطاعة لك، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحقّ، لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما تخلف منَّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غدًا، وإنّا لصُبُرٌ في الحرب صُدُقٌ عند اللقاء، ولعلَّ الله يُريك منَّا ما تَقَرُّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله [ دلائل النبوة للبيهقيّ ج3 /ص4].  وهكذا نرى أنّ رسول الله ﷺ لم يفرض على الأنصار معركة بدر خارج حدود المدينة، إلا بعد إذنهم، حتّى لا يتجاوز بنود العقد السياسيّ الذي أبرمه في العقبة الثانية بينه وبين الأنصار، مع أنّه رسول الله، وطاعته واجبة عليهم، وهذا يحملنا على إنعام مزيد من النظر في الفصل والتفريق بين مضمون وأثار العقد السياسيّ، ومضمون وآثار العقد الإيمانيّ، وعدم الخلط بينهما، أو جعلهما من لوازم بعضهما بعضاً، بحيث لو امتنع أحدهما امتنع الآخر، وعليه فيجب التمييز بين الولاء الإيمانيّ، والولاء السياسيّ، وكذلك بين البراء الإيمانيّ، والبراء السياسيّ، وهو ما يقع به الكثير من الجماعات الإسلاميّة. والتمييز بين عقوده الإيمانيّة وعقوده السياسيّة، وأنّ التعاقد السياسيّ داخل في الولاء والبراء السياسيّ.

 

(المصدر: رؤية للثقافة والإعلام)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى