مقالاتمقالات مختارة

التطبيع العربي الصهيوني.. قبلة الحياة لإسرائيل أم رصاصة الرحمة؟

التطبيع العربي الصهيوني.. قبلة الحياة لإسرائيل أم رصاصة الرحمة؟

بقلم إيناس عامر

كان لدي رأي قد يصل إلى اليقين بأن الكيان الصهيوني هو من رسخ فكرة تجريم التطبيع معه، وكان لي بعض الأسباب التي تدعو لهذا الرأي الذي قد يبدو غريبا فضلا عن أنه قد يساء فهمه ويضعني في موضع الاتهام بالترويج لجريمة التطبيع التي أستنكرها بالطبع، من ضمن هذه الأسباب: أنني أؤمن أن كل بلادنا العربية محتلة بصورة ما، وأن زرع الكيان الصهيوني في هذه المنطقة وإثارة الحروب معه عسكرية كانت أم مجرد خطابات رنانة واصطناع حالة من الهزيمة العامة والهم «الفلسطيني» اليومي لدى الإنسان العربي المسلم هو من قبيل الإلهاء عن قضية كبرى بحجم الأمة الإسلامية كافة، ألا وهي قضية الاستيلاء على هذه الأمة كلها وليست فلسطين فقط.

وأن إثارة مشكلة فلسطين بصورة يومية ترسخ في ذهن الإنسان المسلم أن هناك أمرا يخص دولة اسمها فلسطين، في حين أن ما يسمى بالنظام العالمي الذي نعيش داخل إطاره الآن وجد في مطلع القرن العشرين ليؤسس لوجود كيانات لم تكن موجودة بالفعل وفق هذا النظام العالمي الذي وجد أصلا ليضع أسس وقوانيين تدعم النفوذ الصهيوني فوق أشلاء أمة الإسلام، وتقسم العالم كله لحساب هذا النظام الصهيوصليبي، وتعرضت أمة الإسلام كلها للتقسيم والابتلاع من قبل القوى العظمى التي تنازعت فيما بينها على تركة «الرجل المريض» كما كان يطلق على دولة الخلافة الإسلامية وهي الدولة العثمانية التي كانت فلسطين تابعة لها.

 لم تكن فلسطين دولة بالصورة الحالية التي عليها بلادنا «المستقلة» شكلا والتي نتصور أنها تمثلنا كشعوب في هذا المجتمع الدولي الذي أطلق عليه اسم «الأمم المتحدة» التي سميت بهذا الاسم تعبيرا عن الاتحاد في حرب واحدة تجاه عدو واحد أي الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية وقد سماها بهذا الاسم فرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، ولا أعرف ما هو المقصود الآن من كلمة «المتحدة» فكيف اتحد نحو 193 دولة من عرقيات وأديان وألوان ولغات شتى في كيان واحد وهدف واحد، وما هو التصور الذي يجمع فعليا هذا الاتحاد في وقتنا الحالي بعيدا عن شعارات المنظمة التي هي أبعد ما تكون عما يحدث على أرض الواقع؟

على كل حال، نعود لقضيتنا الأساسية والتي وعينا كجيل وقبله وعيت أجيال سابقة على مشكلة أزلية اسمها «قضية فلسطين» هذه القضية وإن كانت هي حق شعب بعينه إلا أنها لا تخص هذا الشعب وحده وإنما تخص الأمة كلها، وأن التفتيت الذي أصاب هذه الأمة لم يستهدف فلسطين وحدها أو مقدسات فلسطين وحدها وإنما استهدف هذه الأمة كلها، لكن تم إيهام شعوب كل الدول التي كانت تابعة للدولة العثمانية بأنهم ينتمون إلى دول مستقلة لها كيانات فاعلة فيما يسمى بالأمم المتحدة ولها سياسات وأنظمة وجيوش تابعة لهذه الأنظمة تمثل شعوبها وتمثيل عقيدتهم وحريتهم وثقافتهم وشئون حياتهم!، لم يلتفت أحد أن الكيان الدولي ذاته أسس على مغالطات عديدة تطوي كل هذه الأمم تحت لواء أمة واحدة وضعت يدها على العالم بأسره،

ومن هنا كان لدي قناعة بأن إزكاء فكرة أن «فلسطين» دولة محتلة وهي بالفعل كذلك هو من قبيل شحذ العقول والأفئدة صوب قضية واحدة يصور لنا أنها خارج هذا الكيان الإسلامي والعربي وبالتالي فمع مرور الوقت ستشعر الأجيال الجديدة التي لم تعش بدايات القضية والتي نمى وعيها على فكرة الدولة القومية الحديثة والانتماء للنظام العالمي وما يسمى بالأمم المتحدة ستشعر هذه الأجيال يوما بعد يوم أنها أرهقت تفكيرا وألما في قضية لا تخصها وبالتالي عليها أن تهتم بشئونها الداخلية أكثر، وكرس لذلك آلة إعلامية استمرت على مدى قرن من الزمان تشكل وعي الإنسان العربي المسلم.

السبب الآخر الذي جعلني أؤمن بفكرة أن التطبيع جريمة ابتكرها الكيان الصهيوني ذاته، هو أن اليهود أمة حذرة بطبعها غير قابلة للانفتاح على الآخر وهي تفضل التحصن والتقوقع، ولديها هاجس أمني كبير خاصة تجاه المسلمين كما أنها تملك خططا استيطانية وتهويدية وأهدافا لطمس المعالم الإسلامية على هذه الأرض، وبالتالي فإن هجرة العنصر الإسلامي عن هذه الأرض وتباعد المسافات والأزمنة بين هذه الأرض وبين القدم واليد والعين والقلب واللغة والصوت العربي المسلم سيحيل هذه الأرض يوما بعد يوم إلى أرض يهودية خالصة كما هي تصوراتهم التي أظن أنها نجحت إلى حد كبير، فقد شاهدت في أحد الأفلام التسجيلية أحد الفلسطينين الذي قرر أن يسير في طرق أجداده ويمشي في شوارع أحد المدن الكبرى داخل الكيان الصهيوني التي كانت قبل سبعين سنة تنطق كلها بالعربية ولا يسكنها سوى أهلها الفلسطينيون وحينما اقترب من أحدهم وتحادثا بالعبرية تبين له أنه عربي مثله لكنه يخفي ذلك وهرب منه سريعا وذاب مع الكتلة العبرية اليهودية التي انتزعت هذه الأرض وأصبحت هي الغالبية العظمى في هذه المدن.

 لذلك أرى أن أي تواجد عربي مسلم قد يشكل خطرا وجوديا على السكان المغتصبين لهذه الأرض ليس من الناحية الأمنية فقط، ولكن من ناحية الهوية والثقافة والعقيدة، لأن هذه الأرض ليست ككل البلاد التي يأتيها سائحون من كل مكان، فهي لها خصوصية كبيرة لدى كل مسلم يؤمن بأن هذه الأرض مسرى رسوله الكريم وأولى القبلتين كما أنها أسيرة لدى شراذم من البشر أتت من كل بقاع الدنيا، ولدى المسلم قناعة بفكرة الجهاد من أجل تحرير هذه الأرض، خاصة بعد أن تبين دور الحكومات والأنظمة العربية إزاء هذه القضية … لذا كان لدي هذه القناعة بأن الكيان الصهيوني ذاته هو الذي لا يقبل التطبيع خاصة فيما يخص التواجد العربي المسلم على أرض فلسطين، بدليل أن النظام المصري الذي بدأ بالتطبيع مع الكيان الصهيوني منذ أربعين عاما ما زال حتى الآن يضع اعتبارات أمنية دقيقة حول المسافرين إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي حسبما رأيت في بعض التقارير المتلفزة.

لكن الهرولات العربية المتسارعة نحو إعلان التطبيع مع الكيان الصهيوني، ربما أحدثت لدي قدر كبير من الارتباك في فهم المشهد، فهل نحن أمام تحولات كبيرة جدا تكاد تؤسس لنظام عالمي جديد آخر وفق قوانين أخرى؟ وزعامة أمم أخرى، ستكون فيه دولة الاحتلال الصهيوني على رأس هذه المنظمة العالمية؟ أم أن النظام العالمي الجديد المزمع إنشاؤه يفترض فشل هذا الكيان في التعايش كدولة يهودية داخل منطقة عربية مسلمة وعليه فإن العيش كأفراد كما كانوا من قبل أسهل من العيش كدولة وهذا ما يؤمن به أغلب اليهود بالفعل؟ أم أن كشف الأقنعة للأنظمة العربية تنذر بانهيار هذه الكيانات وظهور كيانات أخرى أكثر تفتيتا؟ أم أن ذلك كله هدفه قطع الطريق على تركيا في محاولتها استعادة إرثها التاريخي والعقائدي؟

لقد أظهرت نتائج الانتخابات المتوالية في هذا الكيان المحتل منذ نشأته، أن الأحزاب الإسرائيلية الكبيرة تتآكل بمرور الزمان والزعامات الصهيونية الفذة التي أنشئ هذا الكيان على يديها تختفي يوما بعد يوم دون وجود بديل يرثها، وكلنا نتذكر حزب «كاديما» الذي أسسه آرئيل شارون ليعيد ضخ دماء الزعامات الكبرى في الحركة السياسية الإسرائيلية، ثم ما لبث أن أصيب بجلطة دماغية أودت بحياته بعد سنوات طويلة من الغيبوبة، خلال هذه السنوات لم يعد «كاديما» له وجود فعلي في الحياة السياسية الصهيونية، وتراجع دور حزب العمل الذي أسس الكيان الصهيوني ذاته حتى اختفى تماما، وغيره وغيره من الأحزاب والتكتلات السياسية، التي أصبحت تسمى بالفقاعات السياسية وتشير بعض الدراسات أن نسبة «الحيرديم» أي اليهود المتدينون في إسرائيل تتزايد بشكل كبير، لكن هذه الفئة نفسها تهدد وجود الكيان الصهيوني، حيث إن «الحيريديم» لا يؤمنون بقيام دولة يهودية، وفي ذات الوقت لا يتفاعلون بصورة كبيرة مع معطيات واقعهم، فلا يؤدون الخدمة العسكرية ولا تطالبهم الدولة بذلك، ويعيشون في مجتمعات منعزلة عن المجتمع الإسرائيلي العلماني وتتزايد أعدادهم إلى حد انحسار المجتمع العلماني شيئا فشيئا ولكنهم إلى حد ما مؤثرون في الحياة السياسية وأصوات الكتل الانتخابية، إلا إنهم يكلفون الدولة العبرية أكثر مما يقدمون لها.

 وفي ذات الوقت تتصاعد الكتل الانتخابية العربية بمرور الوقت حتى حصلت في الانتخابات الأخيرة على نحو 15 مقعدا في الكنيست، مما يدل على أن الحياة السياسية الإسرائيلية تعاني معاناة شديدة في سبيل استمراريتها، خاصة بعد ملاحقات تهم الفساد لنتنياهو الذي يعد الرجل القوي الذي ليس له بديل حتى الآن على نفس المستوى من الحضور السياسي إذا ما اختفى فجأة من المسرح السياسي الصهيوني كما حدث مع شارون، بالإضافة إلى أنه لم يحصل في الانتخابات الأخيرة على أصوات كافية لتشكيل الحكومة منفردا.

في رأيي الشخصي أن دولة الكيان الصهيوني تحتاج إلى محاولة إنعاش هذا الكيان بأي قضية، كما أن ضخ مال الخليج في الاستثمارات الصهيونية بعد حالة التطبيع المستعر الذي تهرول إليه دول الخليج وتوابعها هذه الأيام قد تشكل ضخ دماء جديدة داخل الاقتصاد الصهيوني الذي يعتمد بدرجة كبيرة على دعم الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا، كما أنه قد يخلق انتصارا وهميا يروج له الإعلام الصهيوني بين الإسرائيليين،

لكن من ناحية أخرى هذه الكيانات العربية المطبعة ذاتها تحاول جاهدة أن تثبت وجودها، وفي تصوري أنها قابلة للسقوط في القريب العاجل لأنها ستخضع لابتزازات يهودية مستمرة قد لا تستطيع الوفاء بها لاحقا، بالإضافة إلى أنها لا تتمتع بظهير شعبي كبير وهذا ما يفسر لنا سعي الحكومات الخليجية خاصة حكومة أبوظبي إلى بث فيديوهات يقال إنها لمواطنين إمارتيين تظهر احتفاء الشعب الإماراتي بهذا التطبيع، وهي محاولة في رأيي لإظهار قدرات لا وجود لها على أرض الواقع في دعم هذه الأنظمة، حيث إن المستهدف من عملية التطبيع الصهيوخليجية هذه هو الشعوب أكثر منها الأنظمة التي أصبحت امتدادا صهيونيا داخل المنطقة العربية وأصبحت تشكل ما أطلق عليه الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله «الدولة الوظيفية» وهي القيام بدور الكيان الصهيوني بدلا عنها.

فهل نحن أمام حالة علو فعلي للكيان الصهيوني؟ أم أن ما يحدث من تسارع نحو التطبيع غير المشروط ومن طرف واحد ما هو إلا قبلة الحياة تمنحها هذه الأنظمة الوظيفية للكيان الصهيوني؟ أم أننا نرى نهاية وأفول ما يسمى بدولة «إسرائيل» لعدم قدرتها على الاستمرار في صورة دولة وما التطبيع المتسارع إلا رصاصة الرحمة للقضاء عليها وقيام أنظمة المنطقة كلها بوظيفة هذا الكيان الصهيوني بعد أن قامت الأنظمة العسكرية من قبل بوظيفة الاستعمار؟!، الواقع أن تسارع الأحداث يصعب من فكرة التنبؤ بها، إلا أنني أرى عودة المنطقة كلها للخلف قرن من الزمان.

(المصدر: ساسة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى