مقالاتمقالات مختارة

التصرف السياسيّ .. بين المبادئ والمصالح (2)

التصرف السياسيّ .. بين المبادئ والمصالح (2)

بقلم د. عطية عدلان

 لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

يعترض البعض على المقابلة بين المبادئ والمصالح؛ لكونها توهم أنّهما أمران متضادان أو متنافران أو حتى مختلفان، بينما المعلوم المؤكد أنّه لا تضاد بينهما في ديننا، ولا تنافر بينهما في شريعتنا، ولا اختلاف بينهما في تراثنا الفقهيّ، ولولا أنّني أعالج إشكالية واقعية قائمة في تصور الناس لأخذت بمشورته، ولاسيما أنّه رجل متخصص في المقاصد وضالع في معرفة كلياتها وجزئياتها.

إنّ الحقيقة التي يجب أن نتملاها جيدا في زماننا هذا أنّ المبادئ والقيم هي التي تكسب المصلحة هويتها، وهي التي تعطي التصرف السياسي وغير السياسي وصف المصلحة، وهي التي تسلبه عنه أيضاً، فلا يُعرف التصرف بأنّه مصلحة أو مفسدة إلا بعرضه على المبادئ والقيم المعيارية، وفي المقابل نجد أنّ المصالح ترعى المبادئ وتعمل على تحقيقها واستمرارها؛ ومن هنا وجدنا أَجِلَّة فقهاء الشريعة يَعُدُّون المصلحة حسنة وخيرا ويَعُدُّون المفسدة سيئة وشرا، ولا يفرقون بين المصلحة والطاعة، ولا بين المفسدة والمعصية، يقول العزّ ابن عبد السلام: “ويُعَبَّرُ عَن الْمصَالح والمفاسد بالمحبوب وَالْمَكْرُوه والحسنات والسيئات وَالْعرْف والنكر وَالْخَيْر وَالشَّر والنفع والضر وَالْحسن والقبح [1].

 بل إنّ المصالح عندنا دين وشريعة وتكاليف يجب على الفرد وعلى المجتمع وعلى الدولة القيام بها، يقول الإمام ابن عبد السلام: “التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم والله غني عن عبادة الكل، ولا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين”[2]، ويقول الإمام ابن القيم: “ثم جاءت الشريعة الكاملة الفاضلة المحمدية التي هي أكمل شريعة نزلت من السماء على الإطلاق وأجلها وأفضلها وأعلاها وأقومها بمصالح العباد في المعاش والمعاد بأحسن من ذلك كله وأكمله وأوفقه للعقل والمصلحة؛ فإن الله سبحانه أكمل لهذه الأمة دينها، وأتم عليها نعمته”[3]، ويقول: “فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل”[4].

فالشريعة التي أرست المبادئ والقيم قبل كل شيء مبنية على جلب مصالح العباد في المعاش والمعاد، بما يعني وحدة المصدر؛ وبما يترتب عليه عدم إمكان التنافر أو الاختلاف بينهما، والدولة بسياستها وتصرفها السياسيّ مسئولة عن تحقيق ذلك؛ لأنّ “خصائص الدولة الإسلامية هي أنّها ترعى مصالح الناس الحقيقية، بعد أن تقيم العدل فيهم، ومصالح الناس الحقيقية تعني حفظ الدين والنفس وما اقترن بهما من عقل وعرض ومال”[5].

وما فُصِلَت المصالح عن المبادئ ولا أُعْطِيَتْ تلك الصبغة النفعية الكمّية المادية؛ إلا في ظل الفكر المعاصر الذي فصل السياسة عن الأخلاق، وفصل الدين عن الحياة، وفصل الواقع عن المثال، وفصل الحقيقة عن القيمة، وفرق بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وأخضع الخلق دوما إلى ما هو كائن في واقع الحياة ولو كان شاذا، وأخضع المبادئ والقيم والأخلاق إلى قانون التطور بإطلاق، ورفض بإصرار أن يكون هناك مصدرا للقيمة والمبدأ والمصلحة والمنفعة سوى العقل.

إنّ الأصول التي قامت عليها الفلسفة النفعية فرقت بحسم بين المنفعة والأخلاق، وحتى بعدما تطورت هذه الفلسفة من النفعية الأنانية عند توماس هوبز إلى النفعية العامّة عند جيرمي بنثام بقيت مرتبطة باللذة والألم، واستمرت تحوم وتحلق في الفضاء الماديّ الكمّيّ الضيق الحرج [6]؛ فلا عجب إذَنْ أن تصل الحضارة الغربية بالإنسانية إلى هذا الحضيض، وأن تصل بسمعتها إلى هذا المستوى الذي عبر عنه عالم الاجتماع الأمريكي “إدوين م ليميرت” بقوله: “إنّ اكتشاف الغرب وبقاءه تأسَّسَا على الإنكار الكبير لحقيقة عدوانه وشره”[7].

وبناء على ما سبق؛ فإنّ المصلحة التي لا تتحقق إلا بإهدار المبدأ ليست على وجه التحقيق مصلحة شرعية ولا عقلية ولا واقعية، وإنّما هي مصلحة متوهمة أو مرجوحة، أو مقابَلة بمفسدة أَرْبَى منها، وإنّها لا تتحقق في الواقع حتى تكون قد أهدرت مع المبادئ التي أهدرتها مصالح كبرى وعامّة وكلية، وإذا كان المقال يزداد وضوحا بالمثال؛ فإنّنا نضرب أمثلة تطبيقية لذلك الذي قدمناه من الواقع ومن الشرع أيضاً.

فالخطاب السلفيّ الذي شرعن لحزب النور بمصر موقفه من الشرعية والثورة وبَرَّرَ له وقوفه إلى جانب السيسي وانحيازه إلى الثورة المضادة؛ ذلك الخطاب الذي تجاهل المبادئ الكبرى كالوفاء بالعهد ووجوب حماية الشرعية، وضرورة حماية الحقوق والحريات، وصيانة أمانة البلاد والعباد، ذلك الخطاب جادل عن التصرفات السياسية تلك بدليل المصلحة؛ حيث تضمن ادعاء رعاية الحزب لمصلحة الدعوة، ومصلحة حقن دماء المصريين والحيلولة دون وقوع الفتن والاحتراب الأهليّ.

وقل مثل ذلك أو قريبا منه في تبرير موقف شيخ الأزهر؛ حيث ينبني على رعاية مصلحة الأزهر وضمان استقراره ليبقى مصدر هداية وإرشاد للمسلمين، إضافة إلى حماية مصر من الانقسام وحماية المصالح الوطنية من الضياع في مصطرع القوى السياسية، وإلى أدنى من هذه المصالح بكثير توجهت خطابات المكونات السياسية الأخرى من يسارية وليبرالية ومستقلة.

وكل هذه الجهات أهدرت بمواقفها تلك جملة عظيمة من المبادئ التي طالما صَخَّتْ آذانَ الخلق بالدعوة إليها، فهل حققت بالفعل المصلحة الشرعية؟ أم إنّها أطلقت العنان لخيال التبرير فسبح بها في عالم الأوهام السرابية؛ فلم تحقق شيئا مما كانت تصبو إليه من مصالح متوهمة أو مظنونة أو مرجوحة؟ وضيعت إلى جانب ذلك المصالح الكبرى التي إن وزنت معها تلك المصالح لطاشت كما تطيش كومة من القش اليابس إذا وزنت بأطنان الحديد.

إنّ المصالح التي بنيت على المبادئ والتي – في الوقت ذاته – ترعى هذه المبادئ هي التي أُهْدِرت وضاعت وتبددت بسبب الانقلاب العسكريّ، وهي التي كان من الواجب رعايتها والحفاظ عليها، فلا مصلحة بعد الثورة وبعد صعود الإسلاميين للحكم في مصر أعظم من حماية الشرعية، ورعاية الحقوق والحريات العامة للشعب المصريّ، والحيلولة دون عودة العسكر لحكم البلاد، وسد الذريعة إلى تسلل الثورة المضادة إلى مواقع التأثير ودوائر صناعة القرار، والخروج بمصر والمنطقة كلها من قبضة ذلك المارد الذي طوقها دهرا طويلا فدمر مواردها البشرية والطبيعية وربطها بالغرب بروابط العبودية والتبعية، لا مصلحة أعظم من انتهاز الفرصة السانحة للقضاء على عهد الاحتلال بالوكالة، والتمهيد لمرحلة جديدة تنال فيها الأمة استقلالها وحريتها وكرامتها، وتبدأ مسيرتها الحضارية وتشق طريقها نحو التمكين الموعود.

وإذْ تبددت هذه المصالح الحقيقية وتبددت معها جملة من المبادئ الكبرى؛ فهل تحقّق شيئ من المصالح التي توخاها هؤلاء جميعا؟ هل حقنت الدماء؟ أم سالت أزكى وأطهرُ الدماءِ على يد الداخلية والجيش والقضاء والبلطجية؟ هل سلمت مصر من الاحتراب الأهليّ أم غاصت في الحرب الأهلية بخوض شعب السيسي في دماء وأشلاء وأعراض شعب الإسلاميين وأصحاب الشريعة؟ هل نجت البلاد واستقرت وعمّها الرخاء؟ أم ضاعت في متاهات حكم العسكر وصارت ألعوبة في يد صبية الخليج ومعهم دحلان ومَن وراءه مِن الصهاينة؟ وهل بقي للمصريين في مصر ما يعتزون به؟ أم ضاع كل شيء حتى النيل شريان الحياة فيها؟ وهل سلم الأزهر؟ أم تسلطت عليه ألسنة وأنياب الذئاب والكلاب؟ وهل تحقق لحزب النور وغيره من فصائل الدعوة ما كان مأمولا أم إنّ الكبت والقمع والبخس والوكس قد حلّ بهم كما حلّ بغيرهم وإن بدرجة أقلّ، وهل تمكنت القوى (المدنية!) من تنفيذ شيء من مشروعها أم كان نصيب رجالهم السجن أو المكث أبداً بين السرير والمطبخ؟!!

وخذ مثلا آخر، عندما لم تستطع حماس أن تكفكف من اندفاعها في كيل الشكر والتقدير والعرفان والتوقير لقادة الشرّ في المنطقة العربية كلها، أهدرت من المبادئ الكبرى والقيم العظمى ما لا يمكن لمثلها أن تهدره ولو تحت وابل الرصاص وجحيم القنابل، وأهدرت مع تلك المبادئ والقيم جملة عظيمة من المصالح الشرعية التي ترتبط بتلك المبادئ ارتباط الفرع بأصله والزرع بجذره، فخسرت – أو أوشكت أن تخسر – عمقها الاستراتيجيّ الكبير في قلب الأمة الإسلامية والعربية، وخسرت الشعوبُ العربية والإسلامية – أو أوشكت أن تخسر – أنموذجا يحتذى في المقاومة، كان – وربما لا يزال – مصدر إلهام لجميع الشعوب المقهورة، ولا يبعد أن يؤدي هذا – ونسأل الله لهم العافية – إلى بداية الانشقاق وفقدان الثقة بين القيادات والجيل، أو بين السياسيين والعسكريين، أو بين القيادة والهيئة الشرعية.

مع أنّ خوفهم من ضياع المصالح الآنية – إن لم يفعلوا ذلك ويبالغوا فيه – يغلب عليه الوهم الكبير، وربما أسلمهم هذا الخوف إلى ما يفرون منه؛ لكون الأشرار يغريهم بالطغيان مسارعة الناس في شكرهم والثناء عليهم، فإنّهم أشرار فجار، وغاياتهم لن تكون إلا غايات شريرة فاجرة، فإذا اقتصد القادة في توقيرهم والثناء عليهم كان ذلك أحفظ لوقارهم وأصون لمكانتهم في نفوسهم.

وقل مثل هذا في الدول والأحزاب التي كان لها يوم من الأيام شيء من الانتساب إلى العمل الإسلاميّ كحزب العدالة والتنمية في المغرب وحكومة السودان في عهد البشير؛ ما المصالح التي حققتها بالتطبيع مع إسرائيل؛ إذْ أهدرت المبادئ وأهدرت معها المصالح العامّة والكلية والعليا للأمة العربية والإسلامية؟ وقل مثله أيضاً في جماعة الإخوان المسلمين بعد الانقلاب؛ حيث قدمت مصلحة موهومة  – بل مزعومة – مفادها حماية الجماعة من تسلل العنف والإرهاب إلى صفوفها، فقبلت بالانشقاق والتمزق واستسلمت للتشتت وتفرق الكلمة، وذلك بالمخالفة لمبادئ الجماعة وقيمها المستمدة من الإسلام، وبالمخالفة لما تقتتضيه المصلحة العامّة؛ ما الذي تحقق لها هي من المصالح التي توختها؟ فضلا عن مصالح الأمة العربية والإسلامية، وفضلا عن مصالح الدين الإسلاميّ نفسه؟!

ولو أنّ تركيا وقطر وغيرهما من القوى التي ترعى المبادئ والقيم استرسلت مع التماس المصلحة واستسلمت لابتزاز النظام الانقلابي المجرم في مصر؛ فصادرت حرية الكلمة، أو أهملت حقوق الإنسان؛ لأهدرت – مع جملة المبادئ التي تقوم عليها سياستُها – جملةً عظيمة من المصالح الاستراتيجية التي لا يمكن أن تقاس بمصلحة آنية مهما بلغت؛ فإنّ الشعوب العربية والإسلامية – بل والأفريقية المستضعفة والآسيوية الضائعة بين الذئاب الضالة – كل هذه الشعوب تنظر إلى تركيا على أنّها المخلص الذي سينقلها إلى حيث تبلغ أمنها وكرامتها، وترى فيها الأنموذج الفذّ والمحور المتين الذي يجب أن تلتفّ حوله الأمة، وهذا بعد استراتيجيّ كبير يجب الحفاظ عليه؛ لأجل الدين والدنيا معاً.

أمّا الأمثلة الشرعية فهي أكثر من أن تحصى، ويكفينا فقط أن نقف وقفة سريعة عند قول الله تعالى: (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل: 94)، إنّ الوفاء بالعهود والعقود مبدأ عظيم وقيمة راسخة، فإذا اتخذ المسلمون أيمانهم دخلا بينهم، وخديعة يخدعون بها من عاهدوهم؛ فإنّهم يهدرون مبدأ الوفاء، ويهدرون معه مصلحة عليا هي من صميم وظائف الدولة في الإسلام، وهي مصلحة هداية الخلق إلى الحقّ، وذلك بصدهم عن سبيل الله؛ حيث يقدمون بهذا الصنيع قدوة سيئة للناس.

إنَّ من يفرق بين المصالح والمبادئ يهدر المصالح الحقيقية التماسا لمصالح موهومة أو مظنونة أو مرجوحة، وربما التماسا لمصالح ملغاة شرعا؛ لمخالفتها لمنهج الله تعالى؛ لذلك يجب أن ينهدم هذا الجدار الوهميّ الذي أقمناه بأوهامنا بين المصالح والمبادئ.


الهامش

[1] الفوائد في اختصار المقاصد – العزّ ابن عبد السلام – دار الفكر المعاصر , دار الفكر – دمشق – ط: أولى، 1416ه صـــ 38 ، وراجع: قواعد الأحكام في مصالح الأنام – العز بن عبد السلام – مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة – ط 1991 م – (1/ 5).

[2] قواعد الأحكام في مصالح الأنام – العز بن عبد السلام – مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة – ط 1991 م – (2/ 73).

[3] إعلام الموقعين عن رب العالمين – ابن القيم – دار الكتب العلمية – ييروت – الطبعة: الأولى، 1411هـ – 1991م- (2/ 57).

4] إعلام الموقعين عن رب العالمين – ابن القيم – دار الكتب العلمية – ييروت – الطبعة: الأولى، 1411هـ – 1991م- (3/ 11.

[5] أصول الفكر السياسي في القرآن المكيّ – د. التيجاني عبد القادر حامد – دار البشير – عمان – الأردن – ط أولى 1995م صـــــ114.

[6] راجع: مذهب المنفعة العامة في فلسفة الأخلاق – د. توفيق الطويل – مكتبة النهضة المصرية – القاهرة – مصر – ط أولى 1953م – صــــ60.

[7] راجع: إعادة التفكير في الحداثة – جيرمندر ك بامبرا – ترجمة ابتسام علام وحنان حافظ – المركز القومي للترجمة – ط أولى 2016م – صـــ 121.

المصدر: المعهد المصري للدراسات

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى