مقالاتمقالات مختارة

التصدق بالأضحية والحج والطريق إلى “مركسة” الدين

بقلم أنس حسن – مدونات الجزيرة
مع تحول العالم كله للنظرة المادية تم اختراق الخطاب الديني بذات النظرة، خاصة الماركسية، أو ما أسميه “مركسة الدين” أي النظر للعبادات والزكوات وأعمال البر بمفهومها الماركسي الاجتماعي وليس من منطلق النظرة التعبدية التي تدمج بين القيمة الروحية الخاصة للعبادة والقيمة المادية المتفرعة عنه.

وأغلب عبادات الإسلام كالأضحية والزكاة والصدقات وإطعام الطعام هي “تجربة” يجب أن يعيشها المتعبد، وليست “ميزانا تجاريا” أو “رصيدا بنكيا” أو قضية اقتصادية متعلقة بالقيمة السوقية، بمعنى أنك مطالب كمتعبد بكل هذا أن تعيش التجربة في نفسك أولا، لأنك المخاطب الأول بالعبادة.

يتكرر خطاب “مركسة الدين” مع مواسم الحج والأضحية بشكل مستمر، ويقال: أليس الأولى من إنفاق المال في الحج والأضحية أن يتم إنفاقه على المشاريع التنموية والصدقات، وأن هذا تبديد للمال مقابل تعاظم الاحتياجات المادية للشعوب وشيوع الفقر؟ وفي هذا الخطاب خلط كبير بين ما هو دور للدولة والسلطة السياسية وبين ما هو كسب شخصي للأفراد والشخوص، وتحويل للمسؤولية السياسية والاجتماعية عن الفقر من السلطة لرميها على عاتق العبادات والممارسة الدينية الروحية التي يجب أن يعيشها الفرد.

الأصل في العبادات هو نصها المشرع لها، أي أن غاية كل عبادة هي في ذاتها تحديدا رغم ما قد يترتب عليها من فوائد متعدية للآخرين، إلا أن تجربة العبادة لها حكمة يجب أن يعيشها الشخص لتساهم في إصلاحه وتقويمه وشحنه روحيا، وهذا مالا يمكن أن تقوم به الأموال أو ترشيدها.

الأضحية مثلا هي فعل شرع لأجل أن يضحي الشخص بذاته، يشهد الدم ويباشر الذبح، ويوزع بيده على أهله وجيرانه، وهي في مدلولها عبادة رمزية على منهج أضحية إبراهيم فداء لإسماعيل، وممارسة اجتماعية متعلقة بذواتنا، حين وجه النبي للصدقة منها كانت سنته أن تكون الصدقة “منها”، لكن فعل التضحية تم بشكل كامل من قبل الشخص صاحب العبادة.

أن يتم إلغاء القيمة الروحية لعبادة الحج وتحويله فقط لقضية مالية يمكن أن تسهم في التنمية هو محاولة لعلمنة الدين و”مركسته”

أن يشهد أهلك الأضحية ويروا دمها ويفرحوا فرحتها مقصود لذاته، أن تكرر فعل إبراهيم مقصود لذاته، وفكرة تحويلها لأموال صدقة أو إلغائها تماما بأن يمر عليك العيد تلو العيد لا يرى أهلك أضحية بحجة أنك تصدقت بها هو تغيير لمقصود العبادة. في الدين صدقات لا تنتهي، لماذا تأتي لتزاحم الله في فرضه وتقول لنحول مدلول هذه العبادة؟! لو شاء الله لجعل كل عباداتنا صدقات مالية!

كذلك الحج، الحج تجربة روحية متكاملة فرضها الله على عباده ليعيشها الشخص نفسه، ولها إسهام روحي في حياة الناس، أن يتم إلغاء القيمة الروحية لعبادة الحج وتحويله فقط لقضية مالية يمكن أن تسهم في التنمية هو محاولة لعلمنة الدين و”مركسته”. يدفع الإنسان الغربي ربما ملايين الدولارات ليعيش تجربة روحية في مجاهيل إفريقيا ليستعيد ذاته التي أفقدتها إياه حضارة المال والتصنيع، وبالتالي فالهدف من العبادة في الأديان ليس قضية “تكافل اجتماعي” وفقط بل مستهدف بها إصلاح روح الإنسان، وهذا أمر لا يُقاس بالقيمة المالية للعبادة!

في المقابل فرض الدين طرائق مالية كثيرة للتعبد، منها الصدقات وإطعام الطعام والزكوات والكفارات، وهي أبواب مفتوحة لا تنتهي، فلماذا نصادر على الله حق الحكمة من التشريع، ولماذا نحاول تحويل كل العبادات لمعادلات مالية ورقمية؟! هذه من آثار الخطاب الماركسي على المتدين، والأصل في العبادات كما قال السلف “توقيفية” أي نمرها كما جاءت من غير تأويل أو تحريف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى