مقالاتمقالات مختارة

التربية بالإعراض

التربية بالإعراض

بقلم الشيخ محمد خير رمضان يوسف

كتبتُ في تواصلٍ مع الإخوة والأحباب أقول ناصحًا ولدي:

“يا بني، إذا بدرَ منكَ سوءٌ فقد أغلقتَ به بابَ رضايَ عنك، ولن أفتحَ هذا البابَ إلا إذا علمتُ أنكَ دفنتَ ذلك السوءَ وأحدثتَ حسنةً تدلُّ على صدقِ توجُّهك”.

فاعترض أحد الأساتذة الفضلاء وقال في أدب العلماء:

“إذا بدرَ منكَ سوءٌ أغلقتَ به بابَ رضايَ عنك” تعبير جميل، ولكن الفكرة فيها بعض القسوة أستاذنا.

فأجبته: “نعم، هو من باب الترهيب، والتأديب يأتي هكذا وهكذا”. أعني ترغيبًا وترهيبًا.

وقلت: “الترغيب والترهيب لهما أشرعة طويلة في كتبنا، وخاصة كتب الزهد والرقائق، وهما مفيدان لمن علم متى وكيف يستخدمهما”.

فأبدَى موافقته في توازنٍ مع الترغيب وقال مشكورًا: “أوافقك تمامًا… في أنه لا يمكن الاستغناء عن الترهيب كجناح يقابل الترغيب لموازنة الخطاب الوعظي ومعادلة الحياة…”.

ثم أحببت أن أتوسَّع فيه من خلال هذا المقال القصير، وأزيد فيه فوائد.

والأمر يدور حول “الإعراض”، الذي يدلُّ على عدم الرضا، ويَظهرُ في صورة الهجر أوضح ما يكون.

 وقد كُتب في “الهجر” من ناحية فقهية وعقدية، دون الناحية التربوية.

ولهذا الأسلوب أصلٌ في السنة النبوية، بحيث يعدُّ تربية عملية وليس نظريًّا وترهيبًا فقط.

فقد بوَّب البخاري في صحيحه بقوله: “باب ما يجوز من الهجران لمن عصى”.

وذلك في قصة كعب بن مالك الأنصاري وصاحبيه، حين تخلَّفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بغير عذر، فهجره الرسول عليه الصلاة والسلام، ونهى صحابته عن الكلام معه.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في بيان معنى الباب (فتح الباري 10/497): أراد بهذه الترجمة (يعني الباب) بيان الهجران الجائز; لأن عموم النهي مخصوصٌ بمن لم يكن لهجره سببٌ مشروع، فتبيَّن هنا السببُ المسوغُ للهجر، وهو لمن صدرت منه معصية، فيسوغ لمن اطلع عليها منه هجرهُ عليها ليكفَّ عنها.

ثم أورد كلام شرّاح الحديث حوله، من ذلك قول المهلب: غرضُ البخاري في هذا الباب أن يبين صفة الهجران الجائز، وأنه يتنوع بقدر الجرم، فمن كان من أهل العصيان يستحق الهجران بترك المكالمة، كما في قصة كعب وصاحبيه، وما كان من المغاضبة بين الأهل والإخوان فيجوز الهجر فيه بترك التسمية مثلاً [أي: لا يُنادَى باسمه الصريح، كأنه هُجر اسمه لا ذاته؛ لئلا يكون ذلك قطعًا للرحم]، أو بترك بسط الوجه، مع عدم هجر السلام والكلام.

كما أوردَ قول الإمام الطبري: قصةُ كعب بن مالك أصلٌ في هجران أهل المعاصي.

ثم قال ابن حجر رحمه الله: … وأجاب غيره بأن الهجران على مرتبتين:

الهجران بالقلب، والهجران باللسان.

فهجران الكافر بالقلب، وبترك التودد والتعاون والتناصر، لا سيما إذا كان حربيًّا، وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف العاصي المسلم، فإنه ينزجر بذلك غالبًا.

ويشترك كلٌّ من الكافر والعاصي في مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما المشروع ترك المكالمة بالموادَّة ونحوها .ا.هـ.

وأورد في تحفة الأحوذي (6/51) ما ذكره الخطابي أن هجر الوالد ولده والزوجِ زوجته ونحو ذلك، لا يُتضيَّق بالثلاث، واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم هجر نساءه شهرًا..

قلت: والمرء لا يهجر أخاه المسلم لأسباب واهية أو غير مشروعة، حتى لا يقع في المحذور من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحلُّ لمسلم أن يهجرَ أخاهُ فوق ثلاث”، كما رواه البخاري (6237) وغيره.

أقول: وإن إعراض الأب عن ابنه، وإعراض الشيخ عن تلميذه، بسبب اقترافه سوءًا: كذبة، أو غيبة، أو سخرية، أو جهرًا بفسق، أو إخلالًا بمروءة، كميوعة، أو لا مبالاةٍ بعملٍ شرعي.. في مثل هذا أو غيره مما يعرفه المربون.. فإن الإعراض هنا إجراء تربويٌّ فعّال… على ألّا يكون ذلك حقدًا وضغينة وتحقيرًا للمعرَضِ عنه، إنما هو معالجة كمعالجة مرض يُصبر عليه حتى يُشفى، كما حُدَّ أحدهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلعنه بعض الصحابة لكثرة ما كان يؤتَى به لشربه الخمر، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام للاعنه: “لا تفعلْ فإنه يحبُّ اللهَ ورسولَه”.

والمهم أن هجر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته كعبًا وصاحبيه أثمر، فتابوا وتاب الله عليهم، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة التوبة: 118].

وكان ذلك درسًا للمسلمين لئلّا يتخلفوا بعد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا كان مصيرهم معروفًا.

وقد كان موقف كعب رضي الله عنه مشرِّفًا، فقد صبر على المقاطعة الشرعية أيما صبر، وتحمَّل جفوة المسلمين له خمسين يومًا، بعد ما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتزال زوجته أيضًا! وزيد بلاءً عندما جاءته رسالة من ملك غسان يقول له فيها: “بلغَنا أنَّ صاحبَكَ قد جفاك، ولم يجعلكَ اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضيعة، فالحَقْ بنا نُواسِك”. قال: فقلتُ حين قرأتُها: وهذه أيضًا من البلاءِ. فتيامَمتُ بها التنُّورَ فسجَرتُها بها. (صحيح مسلم 2769).

ويكون العلاج ناجعًا إذا لم يعاند الطرف الآخر، ويتقبَّل المقاطعة لأنه يستحقها، فيصبر.

ويُفهم من هذا أن الإعراض والهجر يعنيان عدم الرضا، بل هما سبب عدم الرضا، وتركهما عودة إلى الرضا.

وهناك أمثلة أخرى من تراثنا الإسلامي في مثل هذا، مثل هجر بعض أهل العلم من ابتدع، أو شذَّ في اجتهاد وخالف المسلمين، أو كذب في رفع حديث، أو مال إلى فرقة..

فلو أُفرد مثل هذا في تأليف تربوي، ومعالجة عصرية هادفة، لأفاد.

ويؤخذ في الاعتبار عند المعالجة اختلاف طبائع الأشخاص، وظروفهم، وبيئتهم، وأعرافهم، وزمانهم، واعتبار المجتمع: هل هو في وسط إسلامي أم غير إسلامي. وهذا ما يقدِّره التربويون الإسلاميون القديرون.

وأذكِّر هنا بأن أمر الهجر خطير، وخاصة إذا ترتَّب عليه قطيعة رحم والعياذ بالله، فلا يُلجأ إلى هذا الدواء الشديد المرارة إلا عند الضرورة، حتى لا يزداد الأمر سوءًا، فللهجر شروط تُراعَى، وإلا تحوَّل الدواءُ إلى داء، والتربويون الحاذقون يدركون هذا.

والله الموفق.

(المصدر: موقع الشيخ محمد خير رمضان يوسف)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى