مركز تأصيل للبحوث والدراسات
إن منهج التجديد الإسلامي منهج يمكن استقراؤه في الكثير من شرائع الدين وفرائضه وتوجيهاته، وهو يعرض لأول مرة في الجاهلية الأولى، تلك الجاهلية التي صبغت معظم حياة العرب الأميين. فقد أخذ بيد أتباعها من وهدة التخلف والجهل والانحطاط ليكونوا قادة الأمم وسادة العالم، والنموذج الأمثل في الاجتماع البشري. ومنهج التجديد الإسلامي هو الذي يملك وحده أن يلتقط الكينونة البشرية من قاع الضلال وظلمة الظلم وحمأة الفساد، “فيرتقي بها إلى تلك القمة، رويدا رويدا، في يسر ورفق، وفي ثبات وصبر، وفي خطو متناسق موزون!
والذي يدقق النظر في هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشرية، يتجلى له جانب من حكمة الله في اختيار الأميين في الجزيرة العربية، في ذلك الحين، لهذه الرسالة العظيمة. حيث يمثلون سفح الجاهلية الكاملة، بكل مقوماتها، الاعتقادية والتصورية، والعقلية والفكرية، والأخلاقية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، ليُعرَفَ فيهم أَثرُ هذا المنهج، وليَتبَيَّن فيهم كيف تتم المعجزة الخارقة، التي لا يملك أن يأتي بها منهج آخر، في كل ما عرفت الأرض من مناهج، وليرتسم فيهم خط هذا المنهج، بكل مراحله -من السفح إلى القمة، وبكل ظواهره، وبكل تجاربه، ولترى البشرية -في عمرها كله- أين تجد المنهج الذي يأخذ بيدها إلى القمة السامقة، أيا كان موقفها في المرتقى الصاعد، سواء كانت في درجة من درجاته، أم كانت في سفحه الذي التقط منه الأميين”.
وهذا المنهج “ثابت في أصوله ومقوماته، لأنه يتعامل مع الإنسان. وللإنسان كينونة ثابتة، فهو لا يتبدل منها كينونة أخرى. وكل التحورات والتطورات التي تلابس حياته لا تغير من طبيعته، ولا تبدل من كينونته، ولا تحوّله خلقا آخر. إنما هي تغيرات وتطورات سطحية”. ومن ثم “تواجه النصوص القرآنية الثابتة تلك الكينونة البشرية الثابتة”.
ولأن هذه النصوص من “المصدر الذي صنع الإنسان، فإنها تواجه حياته بظروفها المتغيرة، وأطوارها المتجددة، بنفس المرونة التي يواجه بها الإنسان ظروف الحياة المتغيرة، وأطوارها المتجددة، وهو محافظ على مقوماته الأساسية.. مقوِّمات الإنسان. وفي الإنسان هذا الاستعداد، وهذه المرونة، وإلا ما استطاع أن يواجه ظروف الحياة وأطوارها، وهي ليست ثابتة من حوله. وفي المنهج الرباني الموضوع لهذا الإنسان، ذات الخصائص، بحكم أنه صادر من المصدر الذي صدر منه الإنسان، ومودع خصائصه ذاتها، ومعدّ للعمل معه إلى آخر الزمان. وهكذا يستطيع ذلك المنهج، وتستطيع هذه النصوص، أن تلتقط الفرد الإنساني، وأن تلتقط المجموعة الإنسانية، من أي مستوى ومن أية درجة من درجات المرتقى الصاعد، فينتهي به –وبها- إلى القمة السامقة. إنه لا يرده -ولا يردها- أبدا إلى الوراء، ولا يهبط به -أو بها- أبدا إلى درجة أسفل في المرتقى. كما أنه لا يضيق به ولا بها، ولا يعجز عن رفعه ورفعها، أيا كان مكانه أو مكانها من السفح السحيق”.
إذن فالمنهج التجديدي في الإسلامي منهج متدرج، منهج يعمل على نقل الفرد والجماعة في مراقي الصعود نحو الكمال البشري، في صورته الفردية والجماعية. وأي مجتمع يعيش حالة الجاهلية بدائيا متخلفا كان، أو صناعيا متحضرا، يجد في منهج التجديد الإسلامي مكانه، ويجد من يأخذ بيده من هذا المكان، فيرتقى به في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة، التي حققها الإسلام، في فترة حية من فترات التاريخ الإنساني.
وفي حين يقضي المنهج الإسلامي قضاء حاسما في المجال الإيماني والمسائل الاعتقادية، إلا أنه عندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي أو اقتصادي معقد، يتريث به، ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج، ويهيِّئ الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة. فالعادة والإلف تحتاج إلى علاج عميق.
فقد عالج الإسلام إدمان الخمر، في العهد الأول بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع؛ وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى. ثم جاءت الخطوة الثانية بالنهي عن الصلاة حال سكرهم: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقرَبُوا الصَّلاةَ وأَنتُم سُكَارَى حَتَّى تَعلَمُوا ما تَقُولُونَ)). ومعلوم أن الصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة. وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي؛ إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله، فإذا تجاوز هذا الوقت، وتكرر هذا التجاوز، فترت حدة العادة وأمكن التغلب عليها. حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر: ((إِنَّمَا الخَمرُ والـمَيسِرُ والأَنصابُ والأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ))”.
كما عالج علاقة المسلمين بظاهرة النفاق التي تتشكل في المدينة بما يتلاءم وطبيعة الأوضاع القائمة. فقد قصر النهي على المجالس التي يكفر فيها بآيات الله ويستهزأ بها، ولم يشمل النهي كل علاقات المسلمين بهؤلاء المنافقين. وهذا يشي “بطبيعة الفترة التي كانت تجتازها الجماعة المسلمة -إذ ذاك، والتي يمكن أن تتكرر في أجيال أخرى وبيئات أخرى. كما تشي بطبيعة المنهج في أخذ الأمر رويداً رويداً، ومراعاة الرواسب والمشاعر والملابسات والوقائع في عالم الواقع، مع الخطو المطرد الثابت نحو تبديل هذا الواقع!”.
كذلك الأمر بشأن ظاهرة الرق، والتي ارتبطت بعرف اجتماعي، ودولي عالمي، وبعد اقتصادي. فـ”كان الأمر أمر وضع اجتماعي اقتصادي، وأمر عرف دولي وعالمي.. في استرقاق الأسرى وفي استخدام الرقيق، والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبل تعديل ظواهرها وآثارها. والعرف الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية. ولم يأمر الإسلام بالرق قط، ولم يرد في القرآن نص على استرقاق الأسرى. ولكنه جاء فوجد الرق نظاماً عالمياً يقوم عليه الاقتصاد العالمي، ووجد استرقاق الأسرى عرفاً دولياً، يأخذ به المحاربون جميعاً، فلم يكن بُدٌّ أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل.
وقد اختار الإسلام أن يجفف منابع الرق وموارده، حتى ينتهي بهذا النظام كله – مع الزمن- إلى الإلغاء، دون إحداث هزة اجتماعية لا يمكن ضبطها ولا قيادتها. وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق، وضمان الكرامة الإنسانية في حدود واسعة”. فـ”بدأ بتجفيف موارد الرق فيما عدا أسرى الحرب الشرعية ونسل الأرقاء؛ ذلك أن المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترق أسرى المسلمين حسب العرف السائد في ذلك الزمان، وما كان الإسلام يومئذ قادراً على أن يجبر المجتمعات المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد، الذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي في أنحاء الأرض. ولو أنه قرر إبطال استرقاق الأسرى، لكان هذا إجراء مقصوراً على الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين، بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم السيّء في عالم الرق هناك. وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام.
ولو أنه قرر تحرير نسل الأرقاء الموجود فعلاً قبل أن ينظم الأوضاع الاقتصادية للدولة المسلمة، ولجميع من تضمهم، لترك هؤلاء الأرقاء بلا مورد رزق، ولا كافل ولا عائل، ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي الذي يفسد حياة المجتمع الناشئ. لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور لم ينص القرآن على استرقاق الأسرى، بل قال: ((فإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَربَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثخَنتُمُوهُم فَشُدُّوا الوَثاقَ * فَإِمَّا مَنًّا بَعدُ وإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الحَربُ أَوزارَها)). ولكنه كذلك لم ينص على عدم استرقاقهم. وترك الدولة المسلمة تعامل أسراها حسب ما تقتضيه طبيعة موقفها؛ فتفادي من تفادي من الأسرى من الجانبين، وتتبادل الأسرى من الفريقين، وتسترق من تسترق، وفق الملابسات الواقعية في التعامل مع أعدائها المحاربين”.
“وبتجفيف موارد الرق الأخرى -وكانت كثيرة جداً ومتنوعة- يقل العدد.. وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرد أن ينضم إلى الجماعة المسلمة، ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية. فجعل للرقيق حقه كاملاً في طلب الحرية بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيده. ومنذ هذه اللحظة التي يريد فيها الحرية يملك حرية العمل وحرية الكسب والتملك، فيصبح أجر عمله له، وله أن يعمل في غير خدمة سيده ليحصل على فديته، أي إنه يصبح كياناً مستقلاً، ويحصل على أهم مقومات الحرية فعلاً؛ ثم يصبح له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة. والمسلمون مكلفون بعد هذا أن يساعدوه بالمال على استرداد حريته. وذلك كله غير الكفارات التي تقتضي عتق رقبة، كبعض حالات القتل الخطأ، وفدية اليمين، وكفارة الظهار. وبذلك ينتهي وضع الرق نهاية طبيعية مع الزمن، لأن إلغاءه دفعة واحدة كان يؤدي إلى هزة لا ضرورة لها، وإلى فساد في المجتمع أمكن اتقاؤه”.
هذا هو المنهج الإسلامي في تهيئة الأرضية المناسبة لإعمال نصوصه وأحكامه الثابتة. فهو لا يقفز على الواقع، ولا يتركه دون حلول ومعالجات، بل يعتبر هذه الحلول والمعالجات جزءا من منهجه التجديدي المتدرج. وهو بذلك يعطي البشرية درسا في الإصلاح والتغيير للقضايا الشائكة التي ترتبط بالقيم والمبادئ، والمصالح والمنافع، والواقع المرير.
لقد نزل القرآن الكريم لحكمة إلهية، ومراعاة لهذا المنهج التجديدي، منجما، أي مفرقا على مراحل. وهو ما أثار استنكار الجاهلية وهي تتحدى هذا الدين الجديد: ((وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولَا نُزِّلَ عَلَيهِ القُرآنُ جُملَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلناهُ تَرتِيلًا))!
“لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة، وينشئ مجتمعا، ويقيم نظاما. والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع. والنفس البشرية لا تتحول تحولا كاملا شاملا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد. إنما تتأثر يوما بعد يوم بطرف من هذا المنهج، وتتدرج في مراقيه رويدا رويدا، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئا فشيئا، فلا تجفل منه كما تجفل لو قُدِّم لها ضخما ثقيلا عسيرا. وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية، فتصبح في اليوم التالي أكثر استعدادا للانتفاع بالوجبة التالية، وأشد قابلية لها والتذاذا بها”.
ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها؛ وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية والتجديد يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها. “فجاء لذلك منجما، وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة، وهي في طريق نشأتها ونموها، ووفق استعدادها الذي ينمو يوما بعد يوم في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق. جاء ليكون منهج تربية، ومنهاج حياة، لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة. جاء لينفذ حرفا حرفا، وكلمة كلمة، وتكليفا تكليفا. جاء لتكون آياته هي الأوامر اليومية التي يتلقاها المسلمون في حينها، ليعملوا بها فور تلقيها، كما يتلقى الجندي في ثكنته أو في الميدان الأمر اليومي، مع التأثر والفهم، والرغبة في التنفيذ، ومع الانطباع والتكليف وفق ما يتلقاه.
من أجل هذا كله نزل القرآن مُفصَّلا؛ يَبِينُ أَوَّلَ ما يَبِينُ عن منهجه لقلب الرسول -صلى الله عليه وسلم، ويثبته على طريقه، ويتتابع على مراحل الطريق رتلا بعد رتل، وجزءا بعد جزء: ((كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ورَتَّلنَاهُ تَرتِيلًا)). والترتيل هنا هو التتابع والتوالي، وفق حكمة الله وعلمه بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي.
ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلا متتابعا، وتأثرت به يوما يوما، وانطبعت به أثرا أثرا. فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة، وكتاب تعبد للتلاوة، فحسب، لا منهج تربية للانطباع والتكيف ومنهج حياة للعمل والتنفيذ، لم ينتفعوا من القرآن بشيء، لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير”.
وإذا أراد أحد أن يستأنف حياة إسلامية، فهو لا يستأنفها من حيث انتهت الجموع المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ، إنما يستأنفها من حيث يستمد استمداداً مباشراً من أصول الإسلام الصحيحة. وهذه الحقيقة مهمة جداً. سواء من وجهة التحقيق النظري، أو النمو الحركي، للعقيدة الإسلامية وللمنهج الإسلامي.
“إنها الحكمة الإلهية.. تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر، واحد من البشر يحس إحساسهم، ويتذوق مواجدهم، ويعاني تجاربهم، ويدرك آلامهم وآمالهم، ويعرف نوازعهم وأشواقهم، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم. ومن ثمَّ يعطف على ضعفهم ونقصهم، ويرجو في قوتهم واستعلائهم، ويسير بهم خطوة خطوة، وهو يفهم ويقدر بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم، لأنه في النهاية واحد منهم، يرتاد بهم الطريق إلى الله، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق!
وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة الممكنة التقليد، لأنه بشر منهم، يتسامى بهم رويدا رويدا، ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال، والتكاليف التي يبلغهم أن الله قد فرضها عليهم، وأرادها منهم، فيكون هو بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم، وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم ينقلونها سطرا سطرا، ويحققونها معنى معنى، وهم يرونها بينهم؛ فتهفو نفوسهم إلى تقليدها، لأنها ممثلة في إنسان، ولو كان ملكا ما فكروا في عمله، ولا حاولوا أن يقلدوه، لأنهم منذ البدء يشعرون أن طبيعته غير طبيعتهم، فلا جرم يكون سلوكه غير سلوكهم، على غير أمل في محاكاته، ولا شوق إلى تحقيق صورته. فهي حكمة الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا”.
“إنها الرسالة الأخيرة، فهي الرسالة الشاملة، التي لا تختص بقوم ولا أرض ولا جيل.. ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محلية قومية محدودة بفترة من الزمان، ما بين عهدي رسولين. وكانت البشرية تخطو على هدى هذه الرسالات خطوات محدودة، تأهيلاً لها للرسالة الأخيرة. وكانت كل رسالة تتضمن تعديلاً وتحويراً في الشريعة يناسب تدرج البشرية. حتى إذا جاءت الرسالة الأخيرة، جاءت كاملة في أصولها، قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها، وجاءت للبشر جميعاً، لأنه ليست هنالك رسالات بعدها للأقوام والأجيال في كل مكان. وجاءت وفق الفطرة الإنسانية التي يلتقي عندها الناس جميعاً. ومن ثم حملها النبي الأمي الذي لم يدخل على فطرته الصافية- كما خرجت من يد الله- إلا تعليم الله. فلم تشب هذه الفطرة شائبة من تعليم الأرض ومن أفكار الناس! ليحمل رسالة الفطرة إلى فطرة الناس جميعاً: ((قُل يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيكُم جَمِيعاً))”.
إن النفس البشرية تمل الاطراد، وتسأم البقاء على حال واحدة. وهي فطرة فطر الإنسان عليها، لحكمة عليا تناسب خلافته للأرض، ودوره في هذه الخلافة. فهذا الدور يقتضي تحوير الحياة وتطويرها حتى تبلغ الكمال المقدر لها في علم الله. ومن ثم رُكِزَ في الفطرة البشرية حُبُّ التغيير والتبديل، وحُبُّ الكشف والاستطلاع، وحب الانتقال من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، ومن مشهد إلى مشهد، ومن نظام إلى نظام. وذلك كي يندفع الإنسان في طريقه، يغير في واقع الحياة، ويكشف عن مجاهل الأرض، ويبدع في نظم المجتمع وفي أشكال المادة. ومن وراء التغير والكشف والإبداع ترتقي الحياة وتتطور، وتصل شيئا فشيئا إلى الكمال المقدر لها في علم الله.
يقول ابن تيمية –رحمه الله: ” فالعالم في البيان والبلاغ كذلك.. قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- تسليما إلى بيانها. يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)). والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به. فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه، كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه، كالجنون مثلا”. ويضيف: “وهذه أوقات الفترات.. فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا، بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا. ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين، ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان؛ كما عفا الرسول عمَّا عفا عنه إلى وقت بيانه. ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل، لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل”[1].
إنها حقيقة يغفل عنها المجددون والمصلحون -إلا من عصم الله، وعندئذ ينحرفون عن مراد الله، وعن شرط الاستخلاف، ويمضون على غير سنة الله، ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف، ويقع الفساد رويداً رويداً، وهم ينزلقون ولا يشعرون.[2]
[1] مجموع الفتاوى: ج20/59- 61.
[2] هذا الموضوع اقتباسات من كتاب الظلال: ج1/229- 231؛ وج1/555- 557؛ وج2/781؛ وج2/1037؛ وج3/1379؛ وج4/2295- 2296؛ وج5/2553؛ وج5/2562- 2563. باختصار وتصرف.