مقالاتمقالات مختارة

البُوطي.. وأُعطِيَات حافظ الأسد

البُوطي.. وأُعطِيَات حافظ الأسد

بقلم محمد خير موسى
من القضايا المهمّة التي أسهمَت في تشكيل قناعة الدّكتور البوطي تجاه حافظ الأسد، إلى جانب بروباغندا التديّن الشّخصي والتبتّل التّعبّدي؛ ما قدّمه حافظ الأسد للدّكتور البوطي من أُعطيات، واستجابةٍ لمطالب وتنفيذٍ لمقترحات رسّخت قناعته بصلاح حافظ الأسد وحرصه على خدمة الدّين والحقّ.

صاحبُ اليد الخفيّة

كان أوّل طلبٍ استجابَ حافظُ الأسد للدّكتور البوطي في تنفيذه عقب إلقائه الكلمةَ على مدرّج جامعة دمشق، هو إعادة السّماح ببعض الكتب الإسلاميّة الفكريّة والشرعيّة التي تمّ منع الكثيرِ منها عقب احتدام الصّراع بين الأسد وجماعة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي.

وخرج الدّكتور البوطي على التّلفزيون السّوريّ شاكرا وواصفا إيّاه بـ”صاحب اليد الخفيّة”، فتحوّلت العديد من الأصوات التي أشادت بالدّكتور البوطي عقب خطابه القويّ في مدرّج جامعة دمشق إلى اتّهامه بالمهادنة والمداهنة.

يتحدّثُ الدّكتور البوطي عن هذا الموقف وتداعياته وموقفه من انتقاد المنتقدين في كتابه “هذا ما قلته أمام بعض الملوك والرّؤساء”، فيقول:

“ثم شاء الله أن أخطو الخطوة الثّانية على هذا الطّريق، فتحدّثت في التّلفزيون السّوري من خلال ندوةٍ رمضانيّة كان يديرها الأستاذ مروان شيخو، وكان الرّئيس رحمه الله، قد استجاب آنذاك لتحقيق سلسلة من الإصلاحات الدينيّة الهامّة رجوتُه إنجازَها في كتابٍ خاصّ رفعته إليه؛ منها رفع الحظر عن طائفةٍ كبيرةٍ من الكتب الإسلامية، كانت قد منعت بقرارٍ من وزارة الإعلام آنذاك.

عدتُ مرَّة أخرى إلى والدي رحمه الله، فحدّثته بسلسلة تلك الإصلاحات، واستشرته في التّنويه بها وشكر الرّئيس عليها.

فقال لي: بل صرّح بها وبشكره عليها، عملا بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: “لم يشكرِ الله من لم يشكر الناس”، وتشجيعا له في السّير على هذا الطريق.

ولما فعلتُ ذلك وشكرت من سمّيته “صاحب اليد الخفية” على إنجاز تلك الإصلاحات؛ رأيت في النّاس من قد صنّفني من جرّاء ذلك في قائمة الممالئين والمداهنين للدّولة!

ولما بلغ الأمر والدي؛ أقبل إليّ قائلا، وقد تصوّر أنّني متألّم من حديث هؤلاء الناس: “بوسعك أن تسلك سبيلا تنال به رضا النّاس كلّهم عنك، ولكن فلتعلم أنّه لن يكون إلا سبيل النّفاق! فالمنافق هو وحده الذي يملك أن ينالَ رضا النّاس كلّهم في كلّ الأحوال”.

برنامج دراسات قرآنيّة

في زمن ما قبلَ الفضائيّات، كان الحضور الدّينيّ في القناة الأولى “الرسميّة” في التّلفزيون السّوري مقتصرا على حديثِ ما قبلَ الإفطار في رمضان، أو ندواتٍ دوريّة في المناسبات الدّينيّة يديرُها مروان شيخو، الخطيب الدّينيّ الأكثر حضورا في زمن حافظ الأسد، وكان الضّيوف من المشيخة الرّسميّة من المفتين الرّسميين ومدراء الأوقاف، من أمثال الشّيخ أحمد كفتارو مفتي سوريا، وبشير عيد الباري مفتي دمشق، ومحمّد صهيب الشّامي مدير أوقاف حلب، وغيرهم.

كانت المفاجأة مع بداية التّسعينيات من القرن الماضي بأن أُفرِدَ برنامجٌ في التّلفزيون السّوري باسم “دراسات قرآنيّة” خاصّ بالدّكتور البوطي، لمدّة نصف ساعة من مساء الأربعاء من كلّ أسبوع، وكان إحداثُ هذا البرنامج بأوامر مباشرة من حافظ الأسد.

المُلاحَظ أنّ هذا البرنامج جاء بعد أكثر من سبع سنواتٍ من العلاقة الشّخصيّة المباشرة بين الدّكتور البوطي وحافظ الأسد، وهذا يعطي انطباعا عن أنّ حافظ الأسد ما كان ليقدم على هذه الخطوة الخطيرة (إعطاء نصف ساعة أسبوعيّة في وسيلة الإعلام الحصريّة لأحدٍ)؛ إلا بعد استقرار القناعة التّامّة والطّمأنينة المطلقة إلى أنّ ما سيقدّم عبر هذه النّافذة لن يكون خارج السّياق الفكري والسّياسي، أو نشازا عن النّظام العام لما يرادُ تطبيع المجتمع السّوريّ عليه من أفكار وتوجّهات.

ومن المهمّ قوله: إنّ برنامج “دراسات قرآنيّة” الذي كان يقدّم فيه الدّكتور البوطي وقفات موضوعيّة وتربويّة وفكريّة مع قضايا ومفاهيم القرآن الكريم كان من أكثر البرامج مشاهدة، وكان في عمومه ينأى عن الحديث السّياسيّ المباشر، إلّا في مناسباتٍ محدّدة ويسيرة؛ بخلاف مرحلة ما بعد الثّورة عام 2011م، حيث غدا البرنامج منبرا لتقديم قناعات الدّكتور البوطي السّياسيّة المتوافقة مع رغبات وإرادة النّظام.

وممّا يجدر التّنبيه إليه أنّ برنامج دراسات قرآنيّة هو أحد النّوافذ التي أسهمت بشكلٍ حقيقيّ في صياغة العقل الدّعوي في سوريا، في مرحلة ما بعد القضاء على الإخوان المسلمين في البلاد.

ومن الطّبيعيّ أن يرى الدّكتور البوطي في هذا البرنامج الذي منحه إيّاه حافظ الأسد عنوانا من عناوين حرقة الأسد على الإسلام وحرصه على خدمة الدّين والدّعوة؛ فيتضاعف إعجابه به وإيمانه بصدقه وصلاحه.

معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم

في النّصف الأوّل من تسعينيات القرن الماضي اقترحَ الدّكتور البوطي على حافظ الأسد إنشاء معاهد لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم على نظام الكتاتيب القرآنيّة في المساجد، وأن تُسمّى باسمه. وراقت الفكرة لحافظ الأسد، فأصدر تعليماته لوزارة الأوقاف بإطلاق “معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم” التي انتشرت في كلّ أنحاء سوريا، وكانت عنوانا رئيسا لعودة الحياة إلى النّشاط المسجديّ في سوريا عقب سنواتٍ عجافٍ غاب فيها العمل المسجديّ سنواتٍ عديدة.

وقد خرَّجَت هذه المعاهد عشرات آلاف الحفّاظ ومئات آلاف المجازين بالقرآن الكريم، ولم تقتصر على تعليم القرآن الكريم، بل كانت لافتاتُ هذه المعاهد غطاء للعمل الدّعوي والتّعليم الشرعيّ الواسع في المساجد.

كان الأطفال والنشءُ يترعرعون في هذه الكتاتيب والمعاهد القرآنيّة الموسومة باسم الأسد، كما ترعرع موسى عليه السّلام في كنفِ فرعون وتحت أنظاره ليكون عنوانَ غيظه فيما بعد. وهكذا كان خريجو هذه المعاهد مادّة رئيسة في الثّورة على آل الأسد ونظامهم.

كانت معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم من أكبر وأهمّ الإنجازات التي حقّقها حافظ الأسد للدّكتور البوطي، واستجاب له إذ طلبَها فأثمرَ ذلكَ مزيدا من ترسيخ قناعات الدّكتور البوطي بحافظ الأسد، وتعاظم إعجابِه به.

أعطيات شخصيّة

كان الدّكتور البوطي يرى أنّ صلتَه بحافظ الأسد هي لخدمة الدّعوة والإسلام، ولهذا كان حريصا على الابتعاد عن أيّة مطالب شخصيّة وذاتيّة.

وقد عبّر عن طبيعة هذه العلاقة بقوله: “لا أبدأ فأطرق أبوابهم ابتغاء أي مغنم، أو بحثا عن أيّ مصلحةٍ دنيويّة خاصّة أو عامّة. إن دعاني رئيس الدّولة إليه لمشورةٍ أو مهمّة استجبتُ، إذ لا يسعني في حكم الشريعة الإسلامية إلا ذلك، ولكنّي لا أصطحب معي – انتهازا لتلك المناسبة – أيّ حاجةٍ شخصيّةٍ أرجوها منه أو أعرضُها عليه”.

وفعلا كان الدّكتور البوطي زاهدا بما يتقاتل عليه غيره من مناصبَ أو أعطياتِ الحُكّام؛ فرفضَ هدايا الأسد من القصور والسيّارات، وبقي يركب سيّارته المتواضعة التي قدّمتها له الجامعة بسبب عمله استحقاقا لا تفضّلا، كما بقي في منزله منزل العائلة العاديّ المتواضع الذي عاش فيه عمره كلّه في حيّ ركن الدّين.

ولكن بعد حافظ الأسد؛ ما هو دورُ اللّواء محمّد ناصيف في تشكيل قناعات الدّكتور البوطي؟ هذا ما سنجيبُ عنه – بإذن الله تعالى – في المقال القادم.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى