مقالاتمقالات مختارة

البوطي وفلسفتُه في العلاقة بين العالم والحاكم

البوطي وفلسفتُه في العلاقة بين العالم والحاكم

بقلم محمد خير موسى
من أكثر القضايا التي أثارت عواصف حول الدّكتور البوطي هي قضيّة علاقته مع الحكّام، وتحديداً مع حافظ الأسد ومن بعده مع بشّار الأسد، ولفهمٍ أعمق لطبيعة العلاقة السّلوكيّة لا بدّ من فهم المنطلقات الفكريّة والشرعيّة التي ينطلق منها الدّكتور البوطي في بناء هذه العلاقة.

منهج البوطي في العلاقة بين العالم والحاكم

يقيم الدكتور البوطي منهجه في علاقة العالم والحاكم على خمس قواعد ذكرها في مقدّمة كتابه “هذا ما قلته امام بعض الملوك والرّؤساء”، وهي:

“أولاً: لا أبدأ فأطرق أبوابهم ابتغاء أيّ مغنم أو بحثاً عن أيّ مصلحةٍ دنيويّةٍ خاصّة أو عامّة.

ثانياً: إن دعاني رئيس الدّولة إليه لمشورةٍ أو مهمّة؛ استجبت، إذ لا يسعني في حكم الشّريعة الإسلاميّة إلّا ذلك، ولكنّي لا أصطحب معي – انتهازاً لتلك المناسبة – أيّ حاجةٍ شخصيّةٍ أرجوها منه أو أعرضها عليه.

ثالثاً: لا أدّخرُ وسعاً في نصحه وتذكيره بالله، وبعظم المسؤوليّة التي يحملها لهذه الأمّة، بالأسلوب المحبّب البعيد عن التّصنّع، والمغموس بمشاعر الغيرة والحبّ، كلّما سنحت الفرصة لذلك، إنْ في لقاءٍ شخصيّ مغلق، أو في كلمةٍ ألقيها على رؤوس الأشهاد.

رابعاً: أثني عليه بكلّ ما عرفته فيه من صلاحٍ وخير، سواء عرف النّاس ذلك معي منه أم لم يعرفوا، حملاً له على المزيد، وتحذيراً له من التحوّل إلى النّقيض، وإحقاقاً للحقّ.

خامساً: لا أتألّى على الله بحكمٍ غيبيّ أقطع به، لا في حقّ حاكم ولا في حقّ أيّ من عباد الله، مهما كان شأنه، ولكنّي أجنحُ دائماً إلى حسن الظنّ بالله، في حقّ نفسي وفي حقّ سائر عباده، وهو الأمر الذي يحملني على الترفّع عن الخوض في حقّهم ويحفّزني على حسن الظّنّ بهم”.

وأمّا ما يستندُ إليه الدّكتور البوطي في منهجه هذا كما بيّن في أكثر من موضع ومحاضرة، فحديثان من السنة النبويّة هما:

قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “الدّين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”.

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: “أنزلوا الناس منازلهم”، أي اعرفوا أقدارَهم في خطابكم لهم وتعاملكم معهم.

وكان الدّكتور البوطي يؤمن بأنّه بهذا المنهج يسير على خطى السّلف الصّالح والأئمة الأعلام. وكان كثيراً ما يستشهد ليدلّل على صواب منهجه هذا بموقف الإمام النّووي من الحاكم في زمانه، فهو يقول في ختام كتابه “هذا ما قلته أمام بعض الملوك والرّؤساء”:

من الملاحظ في هذه المنهجيّة أنّ الدّكتور البوطي يرفض رفضاً واضحاً الشّدّة في النّصح للحاكم ولو كانت سرّاً، بل يؤكّد على أنّ النّصح ينبغي أن يكون في غاية التلطّف والليونة، وعلى الانتقاد أن يكون في غاية الرّفق سرّاً كان أو علانية

“وقد عدتُ أكثر من مرّة قبل إلقاء هذه الكلمات وبعدها – يقصد الكلمات التي ألقاها أمام الحكّام – إلى نصّ الرّسالة التي وجّهها الإمام النّووي ‏إلى الظّاهر بيبرس، والتي أوردتها الحافظ السخاوي في كتابه الممتع ترجمة الإمام النووي وسيرة حياته. وتأمّلت كيف جمع فيها هذا الإمام العظيم الذي لا أعرف له نظيراً في عصره؛ بين هاتين الوصيّتين لرسول الله على خير وجه، فلم يذهب في نصحه له مذهب تَسَامٍ عليه أو تجريحٍ له أو إغلاظٍ له في القول، ولم يذهب في مجاملته والثناء عليه مذهب مداهنةٍ له أو ثناءٍ عليه بما ليس فيه”.

ومن الملاحظ في هذه المنهجيّة أنّ الدّكتور البوطي يرفض رفضاً واضحاً الشّدّة في النّصح للحاكم ولو كانت سرّاً، بل يؤكّد على أنّ النّصح ينبغي أن يكون في غاية التلطّف والليونة، وعلى الانتقاد أن يكون في غاية الرّفق سرّاً كان أو علانية.

تشنيعٌ وتناقض

يشنّع الدّكتور البوطي على فريقين من العلماء والدّعاة؛ الأوّل: فريقٌ يعلن انتقاده للحاكم على المنبر، ويتّهم هذا الصّنف بأنّه ينافق للشّعب والجمهور على حساب الحاكم، والثّاني: فريق ينافق ويداهن للحاكم علانيةً أو سرّاً لأجل مصالح شخصيّة وضيّقة؛ فيقول:

“في النّاس اليوم من إذا ساقتهم الظّروف إلى محادثة الحكّام، وإبداء المشورة لهم؛ لم يبالوا برضاهم بل تكلّفوا لسخطهم، في سبيل أن يرتفع لهم شأن بين الدّهماء وعامّة النّاس.

وفيهم من إذا ساقتهم الظّروف إلى الأمر ذاته لم يبالوا برضا النّاس ولم يهتمّوا بسخطهم، في سبيل أن يرتفع لهم شأن عند الحكّام

أولئك شأنهم مداهنة النّاس ولا يبالون بالثّمن الذي يدفعونه لذلك، وهؤلاء شأنهم مداهنة الحكّام ولا يبالون هم الآخرون بالثّمن الذي يدفعونه لذلك.

وتبحثُ عمّن لا يبالي برضا النّاس ولا الحكّام في سبيل رضا الله وحده؛ فلا تقع منهم إلّا على النّزر اليسير”.

البوطي قد وقع في تناقض مع كلا الفريقين. فهو قد شنّع على الذين يداهنون الحكّام ويواجهون الجمهور؛ غير أنّه وقع فيما شنّع عليه فقد انحاز انحيازاً لا لبس فيه في الموقف إلى حافظ الأسد إبان أحداث الثمانينيات من القرن الماضي في سوريا، وانحاز انحيازاً فجّاً لبشّار الأسد في مواجهة الثّورة الشّعبيّة

وأمام هذا التّشنيع على هذين الفريقين نجد أنّ الدّكتور البوطي قد وقع في تناقض مع كلا الفريقين. فهو قد شنّع على الذين يداهنون الحكّام ويواجهون الجمهور؛ غير أنّه وقع فيما شنّع عليه فقد انحاز انحيازاً لا لبس فيه في الموقف إلى حافظ الأسد إبان أحداث الثمانينيات من القرن الماضي في سوريا، وانحاز انحيازاً فجّاً لبشّار الأسد في مواجهة الثّورة الشّعبيّة ابتداءً من عام 2011م.

وأمّا تناقضه مع التّشنيع على من ينصحون الحكّام بشدّة سرّاً وعلانيةً فيتجلّى في مقالة نشرها في كتابه “من الفكر والقلب”، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1972م، وعنوانها “ليسَ حكمةً؛ بل نفاقاً”. ويسوق في المقالة قصّة لقاء الخليفة سليمان بن عبد الملك مع العالم سلمة بن دينار “أبو حازم” الذي دعاه الخليفة لزيارته حين وصل مكّة فأبي أبو حازم قائلاً: “ليسَ لي إلى أمير المؤمنين حاجة، فإن كانت له إليّ حاجة فليأت”.

ثمّ ينقل حواراً يدور بين سليمان بن عبد الملك و”أبو حازم” بعد أن ذهب سليمان إليه، والحوار فيه شدّة وقسوة ظاهرة من العالم “أبو حازم” على الخليفة سليمان بن عبد الملك.

ثمّ يسوق الدّكتور البوطي حواراً افتراضيّاً على لسان سلمة بن دينار “أبو حازم”، يضمّنه قناعاته في الفترة التي ألّف بها الكتاب في أسلوب التّعاطي مع الحاكم؛ فيقول:

“لعلّك يا هذا إنّما تحسبُ الحكمة في الدّعوة أن يسلك بها الدّاعي سبيلاً يضمن بها سلامة حياته ودنياه، ويتّقي بها ما قد يحذره من فتن الدّنيا ومصائبها.

وليست الحكمة أن تسلك بالدّعوة أقرب السّبل لضمان أمنك ودنياك، وإنّما الحكمة أن تسلك بها أقرب السّبل إلى أفئدة النّاس وعقولهم.

وليست الحكمة أن يقي الدّاعي نفسه مما قد يلحقه من البأساء والضرّاء، وإنّما هي سياسة يحافظ بها على كلمة الحقّ كي تصل إلى مداها من عقول النّاس ونفوسهم واضحةً سليمة مشرقة”.

ومن الواضح من العنوان الذي استخدمه الدّكتور البوطي لهذا المقال أنّه يرى فيه أنّ الحكمة هي ما انتهجه أبو حازم مع الخليفة سليمان بن عبد الملك، وأنّ الذين يفعلون خلاف ذلك من التودد والإقبال على الحكّام تحت ستار وشعار الحكمة إنّما يمارسون النّفاق باسم الحكمة.

فلسفة الدّكتور البوطي في تعامل العلماء مع الحكّام انتقلت بين طورين اثنين؛ طور ما قبل الثمانينيات وكان يرى فيها وجوب نصح العالم للحاكم سراً وعلانيّة دون الإقبال عليه وضرورة الترفّع ما أمكن عن مجالسته، مع عدم الإنكار على القسوة والشّدة المطلوبة في مظانها، وطور ما بعد الثّمانينيات

وهكذا نرى أنّ فلسفة الدّكتور البوطي في تعامل العلماء مع الحكّام انتقلت بين طورين اثنين؛ طور ما قبل الثمانينيات وكان يرى فيها وجوب نصح العالم للحاكم سراً وعلانيّة دون الإقبال عليه وضرورة الترفّع ما أمكن عن مجالسته، مع عدم الإنكار على القسوة والشّدة المطلوبة في مظانها، وطور ما بعد الثّمانينيات، والتي تقوم على القواعد التي وضعها وحددها، وهي تفيض ليونةً ورقّة في التعامل، مع رفض أي قسوة أو شدّة في التعاطي ولو كان ذلك في النّصح السريّ.

لكن ما هو موقف الدّكتور البوطي من الخروج على الحكّام، وكيف أثّرت قناعته في هذه المسألة على سلوكه مع الحكّام، هذا ما سنبحثه – بإذن الله تعالى – في المقال القادم.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى