مقالاتمقالات مختارة

البوطي.. والعلاقة الفكريّة بمدرسة الإخوان المسلمين

البوطي.. والعلاقة الفكريّة بمدرسة الإخوان المسلمين

بقلم محمد خير موسى

على الرّغم من دخول الدّكتور البوطي في صدامٍ فكريٍّ عنيفٍ ومعركةٍ حاميةٍ مع جماعة الإخوان المسلمين ابتداءً من عام 1979م، غير أنّ هذا لا ينفي على الإطلاق أنّ الدّكتور البوطي في الغالبيّة العظمى من أفكاره وتصوراته الشرعيّة وتوجّهاته الدّعويّة وتأصيلاته الفكريّة ينسجم تماماً مع فكر جماعة الإخوان المسلمين، ولا يكاد يخرج عن إطارهم التنظيريّ إلّا في قضايا يسيرةٍ معدودة.

ولا تكاد تقفُ مسألة من المسائل الفكريّة أو التأصيليّة المتعلّقة بعلاقة الإسلام بالدّولة أو المجتمع أو غير المسلمين أو قضيّة متعلّقة بأساليب ومنهجيّات التّغيير الدّعويّ والفكريّ؛ إلاّ وتجدها متطابقةً إلى حدٍّ كبيرٍ مع عموم أفكار جماعة الإخوان المسلمين. ويتجلّى ذلك في مسائل أسوقُها على سبيل التّمثيل لا الحصر، مع التّأكيد على أنّني هنا لا أحاكم هذه الأفكار ولا أقيّمها، وإنّما هي للدّلالة على خروج أفكار الدّكتور البوطي من المشكاة الفكريّة لجماعة الإخوان المسلمين.

 

لا تكاد تقفُ مسألة من المسائل الفكريّة أو التأصيليّة المتعلّقة بعلاقة الإسلام بالدّولة أو المجتمع أو غير المسلمين أو قضيّة متعلّقة بأساليب ومنهجيّات التّغيير الدّعويّ والفكريّ؛ إلّا وتجدها متطابقةً إلى حدٍّ كبيرٍ مع عموم أفكار جماعة الإخوان المسلمين

منهجيّة التّغيير والإصلاح من القاعدة إلى القمّة لا العكس

تقوم رؤية جماعة الإخوان المسلمين للتّغيير على التّغيير التّدريجيّ من القاعدة وصولاً إلى القمّة، وقد رسّخ هذا المفهوم الإمام حسن البنّا في رسائله في أكثر من موضعٍ، فيقول مثلاً وهو يتحدّث عن “ركن العمل” مبيّناً أنّ التغيير يتمّ بالتّدريج على سبع مراتب:

“ومراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق:

1. إصلاح نفسه؛ حتى يكون: قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادراً على الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهداً لنفسه، حريصاً على وقته، منظماً في شؤونه، نافعاً لغيره.

2. تكوين بيت مسلم، بأن يحمل أهله على احترام فكرته، والمحافظة على آداب الإسلام في مظاهر الحياة المنزلية، وحسن اختيار الزوجة، وتوقيفها على حقها وواجبها، وحسن تربية الأولاد، وتنشئتهم على مبادئ الإسلام.

3. إرشاد المجتمع، بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل، والأمر بالمعروف، والمبادرة إلى فعل الخير، وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائماً.

4. تحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي، غير إسلامي؛ سياسي، أو اقتصادي، أو روحي.

5. إصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، وبذلك تؤدي مهمتها كخادم للأمة، وأجير عندها، وعامل على مصلحتها، والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير مجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه.

6. إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، بتحرير أوطانها وإحياء مجدها وتقريب ثقافتها وجمع كلمتها، حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة.

7. ثم أستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه”.

ولطالما سمعتُ من الدّكتور البوطي ما كان يكرّره في دروسه في كليّة الشريعة وجامع الإيمان؛ من أنّ طريق التغيير هو الدّعوة إلى الله تعالى التي تبدأ بإصلاح الفرد ثمّ المجتمع، وعند إصلاح المجتمع سيتحوّل رأس الهرم بشكلٍ أوتوماتيكيّ إلى ما تكون عليه القاعدة العريضة من الجماهير من الصّلاح. فالوصول إلى الحكم ينبغي أن يبدأ من تحت إلى فوق، أمّا العمل على الوصول إلى الحكم دون بناءِ قاعدةٍ واسعةٍ تتقبّل الأحكام الإسلاميّة بعد جهدٍ دعويّ مضنٍ فسيكون مصيره الفشل.

 

لطالما سمعتُ من الدّكتور البوطي ما كان يكرّره في دروسه في كليّة الشريعة وجامع الإيمان؛ من أنّ طريق التغيير هو الدّعوة إلى الله تعالى التي تبدأ بإصلاح الفرد ثمّ المجتمع، وعند إصلاح المجتمع سيتحوّل رأس الهرم بشكلٍ أوتوماتيكيّ

وكان كثير الاستشهاد بموقف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في رفض المُلك عندما عرضته عليه قريش عقب الجهر بالدّعوة، فيقول في كتاب “فقه السيرة النبويّة”:

“هل الحكمة أن تضع أنت السّياسة التي تراها في سير الدعوة مهما كانت كيفيتها ومهما كان نوعها؟

وهل أعطاك الشّارع صلاحية أن تسلك أي سبيل أو وسيلة تراها ما دام هدفك من وراء ذلك هو الحق؟

لا؛ إنّ الشّريعة الإسلاميّة تعبّدتنا بالوسائل كما تعبّدتنا بالغايات، فليس لك أن تسلك إلى الغاية التي شرعها الله لك إلا الطريق المعيّنة التي جعلها الله وسيلة إليها، وللحكمة والسّياسة الشرعية معانٍ معتبرة، ولكن في حدود هذه الوسائل المشروعة فقط.

والدّليل ما رويناه آنفا، فقد كان من المتصوّر في باب الحكمة والسّياسة أن يرضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم معهم بالزّعامة أو الملك على أن يُجمع في نفسه اتخاذ الملك والزّعامة وسيلة إلى تحقيق دعوة الإسلام فيما بعد، خصوصاً وأن للسّلطان والملك وازعاً قوياً في النّفوس، وحسبك أنّ أرباب الدّعوات والمذاهب ينتهزون فرصة الاستيلاء على الحكم كي يستعينوا بسلطانه على فرض دعواتهم ومذاهبهم على الناس.

ولكنّ النبي صلّى الله عليه وسلم لم يرضَ سلوك هذه السّياسة والوسيلة إلى دعوته، لأن ذلك ينافي مبادئَ الدّعوة نفسها”.

الحاكميّة

ممّا استقرّ في أدبيّات السّياسة الإسلاميّة المعاصرة أنّ إعادة نفض الغبار عن مصطلح الحاكميّة كان على يد المفكّر الإسلامي الباكستاني “أبو الأعلى المودودي” المتوفّى عام 1979م، غير أنّ الذي طوّر المفهوم وعمل على نشره كان “الشّهيد سيّد قطب” الذي أعدمه جمال عبد النّاصر عام 1966م.

ومن عبارات سيّد قطب عن الحاكميّة في تفسيره “في ظلال القرآن” وذكرها أيضاً بنصّها في كتابه “معالم في الطّريق”:

“إنّ هذا الدّين إعلانٌ عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد، ومن العبودية لهواه أيضاً، وهي من العبودية للعباد، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده – سبحانه – وربوبيته للعالمين.

إن إعلان ربوبيّة الله وحده للعالمين معناها: الثّورة الشّاملة على حاكميّة البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرّد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور، أو بتعبير آخر مرادف الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور؛ ذلك أن الحكم الذي مردّ الأمر فيه إلى البشر ومصدر السلطات فيه هم البشر هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعضٍ أرباباً من دون الله. إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله وطرد المغتصبين له الذين يحكمون بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد، إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض”.

 

لو رجعنا إلى ما كتبه الدّكتور البوطي سنجد أنّه كان يؤكّد على فكرة الحاكميّة في عموم ما يكتب، ويكاد كلامه يطابق كلام سيّد قطب، فهو يراها خلاصة الإيمان بالله تعالى، وثمرة سلامة الاعتقاد

ولو رجعنا إلى ما كتبه الدّكتور البوطي سنجد أنّه كان يؤكّد على فكرة الحاكميّة في عموم ما يكتب، ويكاد كلامه يطابق كلام سيّد قطب، فهو يراها خلاصة الإيمان بالله تعالى، وثمرة سلامة الاعتقاد، فها هو يقول في كتابه “كبرى اليقينيات الكونيّة” تحت عنوان “لا حاكميّة إلّا لله، ووظيفة الإنسان تنفيذ حكم الله في الأرض”، مؤكّداً على أنّها النتيجة التي يجب أن يصل إليها الإنسان من رسوخ مبادئ الاعتقاد والإيمان التي قررها في كتابه:

“الآن وقد استيقنت كلّ هذا؛ هل يخالجك أدنى شكّ في أنّ الحاكم إنّما هو الله وحده، وأنّه صاحب السّلطة التّشريعيّة في الكون؟

وهل يمكنك أن تنكرَ ذلك فتزعم أنّ الحاكميّة في هذه الدّنيا إنّما هي للإنسان وأنّه هو المشرّع لنفسه، ثمّ تجمع بينَ هذا الإنكار وبين الإيمان بكلّ الحقائق التي سلفَ ذكرُها.

إذاً؛ فالحاكميّة إنّما هي لله وحده، هو المشرّع لعباده في شتى شؤونهم المتعلقة بدنياهم وآخرتهم، وهو المرجع في كلّ مشكلة من مشاكلهم وإقامة تنظيم ودستور لحياتهم، ومن جحد ذلك فهو كافر بالله ورسوله وإن ادّعى بلسانه الإيمان بالله ورسوله وصلَّى وحج وصام. قامت على ذلك أدلّة العقلِ والنّقل من الكتاب والسّنّة وتمّ على ذلك إجماع المسلمين كلّهم”.

ثمّ يقول: “إذاً ما هي وظيفةُ الإنسان في الدّنيا تجاه هذه الحقيقة الثّابتة؟

إنّ وظيفته التّنفيذُ فقط، إنّه مسؤول عن تنفيذ كلّ حرفٍ من القانون الذي أنزله إليه وألزَمه به، ولا يجتهدُ في ذلكَ إلّا حيثُ أمره بالاجتهاد، ولا يلجأ إلى شورى في الرّأي أو الحكم إلاّ حيثُ لا نصّ صريحاً في كتابٍ ولا سنّةٍ وحيثُ لا إجماع، وهذه الوظيفةُ هي المعنيّ بممارسة العبوديّة لله عزّ وجلّ، والخروج عنها أو التّمرّد عليها هو التّألّه والطّغيان بعينِه، إذ الإنسان عندما يُعرض عن وظيفته التنفيذيّة هذه ليعكفَ على وضع تشريعٍ آخر لنفسه إنّما يخرجُ بذلكَ عن سلطان ربّه ويحاول التّحرّر من عبوديّته له، ثمّ يشرك نفسه معه في التّشريع والحكم!”.

التّأصيل للعمل السّريّ

من القواعد التي يتبنّاها الإخوان المسلمون في عملهم الحركيّ الدّعويّ والتّنظيميّ “السريّة”، وقد أصّل لهذا المفهوم العديد من علماء الإخوان ومنهم الشّيخ منير الغضبان الذي ألّف كتابه “المنهج الحركي للسّيرة النبويّة” سنة 1990م، ويقسّم فيه مراحل الدّعوة الإسلاميّة في السّيرة النبويّة تقسيماً تنظيميّاً حركيّاً إلى ثلاث مراحل على النّحو الآتي:

المرحلة الأولى: سريّة الدّعوة وسرية التنظيم

المرحلة الثانية: جهريّة الدّعوة وسريّة التّنظيم، وقد بيّن أن هذه الجهرية نفسها قد مرّت بمرحلتين:

– جهريّة الرسول صلى الله عليه وسلم.

– جهريّة المسلمين.

المرحلة الثالثة: مرحلة قيام الدولة.

ونجدُ أنّ الدّكتور البوطي ينتهج نهجاً منسجماً مع هذا دون الدّخول في المصطلحات التّنظيميّة الحاصّة بالإخوان، فيؤصّل للعمل السّريّ ويجعله من قبيل السّياسة الشرعيّة وأحكام الإمامة التي يقدّرها المسؤول عن العمل، فيقول في كتابه “فقه السّيرة النّبويّة” الذي صدر عام 1991م:

 

نجدُ أنّ الدّكتور البوطي ينتهج نهجاً منسجماً مع هذا دون الدّخول في المصطلحات التّنظيميّة الحاصّة بالإخوان، فيؤصّل للعمل السّريّ ويجعله من قبيل السّياسة الشرعيّة وأحكام الإمامة التي يقدّرها المسؤول عن العمل

“وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:

لا ريب أن تكتّم النّبي صلّى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام، خلال هذه السنوات الأولى، لم يكن بسبب الخوف على نفسه، فهو حينما كلف بالدعوة ونزل عليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.. علم أنه رسول الله إلى الناس، وهو لذلك كان يوقن بأن الإله الذي ابتعثه وكلّفه بهذه الدعوة قادر على أن يحميه ويعصمه من الناس، على أنّ الله عزّ وجلّ لو أمره من أوّل يوم أن يصدع بالدّعوة بين الناس علناً، لما توانى عن ذلك ساعة، ولو كان يتراءى له في ذلك مصرعه.

ولكن الله عزّ وجلّ ألهمه – والإلهام للرسول نوع من الوحي إليه – أن يبدأ الدعوة، في فترتها الأولى، بسرّيّة وتكتّم، وألا يلقى بها إلا من يغلب على ظنه أنه سيصيخ لها ويؤمن بها، تعليماً للدّعاة من بعده، وإرشاداً لهم إلى مشروعيّة الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة، وما يقرره التّفكير والعقل السّليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل الوصول إلى غايات الدعوة وأهدافها. على ألا يتغلب كل ذلك على الاعتماد والاتّكال على الله وحده، وعلى ألا يذهب الإنسان في التمسك بهذه الأسباب مذهباً يعطيها معنى التأثير والفعالية في تصوّره وتفكيره. فهذا يخدش أصل الإيمان بالله تعالى، فضلاً عن أنه يتنافى مع طبيعة الدعوة إلى الإسلام.

ومن هنا تدرك، أن أسلوب دعوته عليه الصّلاة والسلام، في هذه الفترة، كان من قبيل السّياسة الشرعية بوصف كونه إماماً، وليس من أعماله التبليغية عن الله تعالى بوصف كونه نبيّا.

وبناء على ذلك فإنه يجوز لأصحاب الدّعوة الإسلامية، في كلّ عصر أن يستعملوا المرونة في كيفية الدعوة – من حيث التكتّم والجهر، أو اللّين والقوة – حسبما يقتضيه الظرف وحال العصر الذي يعيشون فيه، وهي مرونة حدّدتها الشريعة الإسلامية، اعتماداً على واقع سيرته صلّى الله عليه وسلم، على أن يكون النّظر في كل ذلك إلى مصلحة المسلمين ومصلحة الدعوة الإسلامية”.

هذه بعض المعالم التي تبيّن أنّ الدّكتور البوطي في الكثيرِ من أفكاره وتوجّهاته ينتمي إلى المدرسة الفكريّة لجماعة الإخوان المسلمين وينهل منها، غير أنّ دخولَه في معركةٍ حامية مع الجماعة جعله ينتقد العديد من أفكار وسلوكيّات الإخوان المسلمين في الجوانب المختلفة، فما هي أبرز انتقادات الدّكتور البوطي على العمل الدّعوي والتّربوي لجماعة الإخوان المسلمين؟ هذا ما سنجيب عنه في المقال القادم بإذن الله تعالى.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى