الباحثون عن عروشهم على أنقاض القضية الفلسطينية
بقلم عبد الحليم عباس
عام 2014.. رئيس الموساد الإسرائيلي يقوم بزيارة سرية إلى المملكة العربية السعودية. عام 2019.. رئيس مجلس الشورى السعودي يعترض على تضمين البيان الختامي لاتحاد البرلمانيين العرب بنداً يرفض فيه التطبيع مع إسرائيل.. “فصلان من مسرحية متعددة الفصول أبطالها ملوك غير متوجين.. أمير وولي.. ومن ورائهم ظهير عبري.. يمضون نحو عروشهم بخطى خائفة يثقلها ربيع عربي يقف على أعتاب بلدانهم ويختلج في صدور شعوبهم. يبغون بيع فلسطين التي لا يملكونها لكيان محتل لا يستحقها. ولأن القدس منيعة وأسوارها قلوب الملايين وضمائرهم، كان لا بد لحصان طروادة الفارسي أن يحضر فصل الاقتحام الأخير”.
لم يكن الربيع العربي تعبيراً عن رغبة الشعوب في التحرر والانعتاق من الظلم والاستبداد فحسب، لكنه كان كسراً لعرف سائد وفهم نمطي بأن الغرب يدعم أنظمة الحكم العربية المستبدة بلا حدود. فقد ظهر جلياً بأن المجتمع الدولي في مجمله كان أقرب إلى الشعوب منه إلى الحكام، وأن كثيراً من القوى الغربية لم تبد دعماً أو مساندة لحلفائها التقليدين من الزعماء العرب الذين شهدت بلدانهم ثورات شعبية. في رسالة مفادها أن أصوات الشعوب لا بد أن تسمع، وأن زمن الكبت والتضييق قد ولى إلى غير رجعة. وقد كان في تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن حلفائها التاريخين كمبارك وصالح وبن علي الرسالة الأقوى والأخطر لدول كالسعودية والإمارات كانت متوجسة من نشوب ثورات شعبية فيها أسوة بدول الربيع العربي.
لم تخف كل من الرياض وأبو ظبي قلقهما من الثورات الشعبية التي اندلعت حولهما، ولا من مواقف الغرب اتجاهها، وبدا أنهما تستحضران صور لزعماء عرب تركوا وحيدين في مواجهة شعوبهم ولسان حالهما يقول.. ماذا لو دارت دوائر الثورات علينا؟
بدا واضحاً أن السعودية والإمارات تنظران إلى الربيع العربي لا بوصفه خطراً على نظام قائم فحسب، بل بكونه تهديداً لحكم قادم أيضا. فتزامن صعود الأمير محمد بن سلمان وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد مع بلوغ ثورات الربيع ذروتها، كان ينبئ بأن طريق الرجلين صوب عرشيهما سيكون وعراً تكتنف جنباته الكثير من العوائق والمطبات، ليس أقلها مطالب شعبية بالحرية والعدالة ولا أكثرها رغبة في تغيير أنظمة الحكم القائمة. وعلى الرغم من قسوة التدابير التي اتخذتها الرياض وأبو ظبي بغية كبح جماح ثورات الربيع ابتداء بتشويهها إعلامياً وتأثيمها شرعياً وانتهاءاً بخوض حروب عابرة ضدها، وما بينهما من سجن لناشطين وتغييب لمخالفين، فإن تلك التدابير لم تجد نفعاً وبدا أن قمع إرادة الشعوب وتكميم أفواهها ضرب من المحال.
كان لا بد إذاً من استراتيجية جديدة تنأى من خلالها السعودية والإمارات بنفسيهما عن ثورات الربيع ومآلاتها من جهة، وتضمن وصولاً سلساً للأمير والولي إلى عرشيهما من جهة أخرى. استراتيجية تستند إلى تعميق حالة العداء مع إيران لتبرير التطبيع مع الدولة العبرية التي تشارك كلاً من الرياض وأبو ظبي قلقهما من الخطر النووي القادم من بلاد فارس. وبدا أن هدف التطبيع هو تحقيق اختراق في القضية الفلسطينية وكذلك في الموقف العربي حيالها، عن طريق تقديم تنازلات كبيرة لصالح الدولة العبرية، مقابل كسب تأييد ودعم دوليين لابن سلمان ولابن زايد كحكام مستقبليين بوصفهما الرجلين القادرين صنع السلام وحل قضية معقدة استعصت قرابة الستين عاما.
كانت أول الدلائل على تلك الاستراتيجية هي الزيارة الصادمة وغير المسبوقة لرئيس جهاز الموساد الإسرائيلي إلى الرياض عام ٢٠١٤، والتي بحث فيها الرجل مع السعوديين – على ما سرب لاحقاً- سبل مواجهة الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية التي دأبت كل من الرياض وأبو ظبي وتل أبيب على اتهامها بالتراخي حيال الخطر الإيراني المهدد للخليج والدولة العبرية على حد سواء.
لكن الأيام القليلة التالية أثبتت بأن ذلك اللقاء كان تمهيداً للقاء آخر أكثر أهمية وأن الخطر النووي الإيراني لم يكن سوى حصان طروادة الذي أرادت منه الرياض وأبو ظبي تبرير تقاربهما مع تل أبيب. فلقاء الأمير السعودي بندر بن سلطان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يتطرق إطلاقا إلى تهديدات إيران وخطورة ملفها النووي بل إن الرجلين ناقشا حسب ما كشف عنه وسائل إعلامية في حينها تفاصيل إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وحل القضية الفلسطينية في إطار ما عرف لاحقاً بصفقة القرن.
لم تقف حدود التطبيع عند اللقاءين المذكورين فحسب، بل تعدتهما إلى لقاءات واجتماعات أخرى وبمستويات تمثيل أعلى. كان من ضمنها زيارة ابن سلمان نفسه إلى تل أبيب بحسب وسائل إعلام إسرائيلية، ولقاء وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد ببنيامين نتنياهو في أحد العواصم الأوروبية. بدا جلياً أن الأمير والولي ممسكان بزمام القضية الفلسطينية على سبيل التنازلات لا المزايدات، وأن بيعها من أجل تثبيت نظام قائم وضمان حكم قادم يجري على قدم وساق. في وقت كانت فيه دماء أبناء الربيع الناشئين على حب فلسطين تجري في ساحات الحرية وميادينها.
بيع قضية شعب إذاً من أجل عرش، لشعب ثار ليسقط العرش. مشهد لم تزد مأساويته سوى انقلاب المفاهيم في زمن أصبح فيه الحق باطلاً والباطل حقاً، ولبس فيه الخائن ثوب المخلص وألبس المخلص ثوب الخائن. فانطلقت أصوات جوقة من السياسيين والإعلاميين الراقصين على أنغام الارتزاق تمجد الأمير والولي في كل ما يذهبان إليه من قمع وتنكيل لمعارضين وناشطين وتتذكر فجأة وبعد ستين عاماً من الصراع والظلم والاحتلال بأن اليهود أبناء عمومتهم، وأن لإسرائيل الحق في أن تحيا بسلام، وأن التحالف معها في وجه الخطر الإيراني لا غضاضة فيه. وأما الربيع ففتنة، والحرية بدعة، والفلسطينيون الصامدون في أرضهم والمتمسكون بحقهم فهم بين مقاوم إرهابي وبين مستهتر ومهدر لفرص السلام المتتابعة حسب ما صرح به ابن سلمان نفسه.
“قد لا يقف معك أحد في مواجه شعبك.. لكن العالم بأسره سيقف معك من أجل إسرائيل ضد شعبك”، ربما تلخص هذه المقولة سياسة الأمير والولي في مواجهة موجات الربيع وثوراته. فغاية الوصول إلى العرش تبرر وسيلة القمع والتنكيل وأما ضرورات الحكم فإنها لا تبيح محظورات بيع فلسطين فحسب، بل إنها تستبيح أحلام وآمال أمة نشأت على حبها وآمنت بقضيتها.
(المصدر: مدونات الجزيرة)