مقالاتمقالات مختارة

الانتصار لـ”الصحيحين”.. كيف يكون؟

بقلم وائل البتيري

لو أن الأمة تُجمع على الأخذ بما في صحيحي البخاري ومسلم وترك ما سواهما؛ لكان ذلك كافياً لإقامة دينها، وتقليل خلافاتها . لكن الخلاف في تصحيح الأحاديث وتضعيفها لن ينتهي بحال، فالمشتغلون بالحديث مصرّون على تصنيف الكتب تلو الأخرى في تناول مصنفات السنّة عموماً بالتصحيح والتضعيف، وتكثير الأحاديث المقبولة، ما أدى إلى زوال هيبة الصحيحين، وذلك بجعل المناكير والأباطيل في رتبة أحاديثهما؛ تزاحمها وتقضي عليها.. ولو أن غيرة المنتصرين للصحيحين اتجهت إلى دفع العدوان على الأحاديث الصحيحة من مزاحمة هذه المناكير والأباطيل لها حتى طمست نورها، ونسخت أحكامها، وأضاعت معالمها؛ لكان ذلك عملاً محموداً، وفهماً رشيداً.

لكنّ المتظاهرين بالغيرة على الصحيحين أخطأوا من جهتين:

الأولى: أنهم أضافوا هذه المناكير الآنفة الذكر إلى جملة الأحاديث الصحيحة.

الثانية: أنهم تشدّقوا بشعارات (هيبة الصحيحين) و(الطعن في الصحيحين طعن في السنّة) و(تلقي الأمة الصحيحين بالقبول) واكتفوا بها عن البحث الجاد والمحاولة العلمية لتفهّم أسرار الصحيحين واكتشاف منهج الشيخين، ودراسة الأحاديث التي وردت في كتابيهما دراسةً نقدية قائمة على أصول البحث العلمي المتجرد، فالجهد البشري يبقى جهداً بشرياً يعتريه الصواب والخطأ، والنقص دون الكمال.

نعم؛ صحيحا البخاري ومسلم هما أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى، وتطاول القرآنيين والحداثيين ومن لفّ لفّهم على هذين الكتابين من غير علم ولا هدى؛ يحتم على المحدثين والفقهاء التعاون من أجل دفع الشبهات المثارة حول أحاديثهما سنداً ومتناً.

صحيحا البخاري ومسلم هما أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى، وتطاول القرآنيين والحداثيين ومن لفّ لفّهم على هذين الكتابين من غير علم ولا هدى؛ يحتم على المحدثين والفقهاء التعاون من أجل دفع الشبهات المثارة حول أحاديثهما سنداً ومتناً

إلا أنه لا أحد يستطيع أن يقول إن جميع ما في صحيحي البخاري ومسلم أحاديث صحيحة، فصحّتها في نظر هذين الإمامين الكبيرين لا يعني بحال صحتها عند غيرهما، فالإمام الدارقطني رحمه الله مثلاً انتقد اثنين وتسعين حديثاً بحسب ما أحصاه ابن حجر في هدي الساري، وغيره أيضاً انتقد أحاديث أخرى، وتحديد المصيب في حكمه على هذه الأحاديث من المخطئ يحدّده البحث العلمي البعيد عن التعصب لهذا أو ذاك.

هناك من يرفع لافتة (تلقي الأمة الصحيحين بالقبول) لدفع تضعيف أيٍّ من أحاديث الصحيحين، ولكن ما معنى تلقي الأمة الصحيحين بالقبول؟ وما قيمة ذلك في ميزان العلم؟ وهل يساوي ذلك الإجماعَ مثلاً كما يدعي كثيرون؟ وهل يستطيع أحد أن يثبت هذا الإجماع؟ إذن دونه خرط القتاد!

نعم؛ للصحيحين هيبة، ولا ينبغي أن تغيب هذه الهيبة عن عقل الباحث أثناء بحثه، ولكن لا ينبغي أيضاً أن يغيب عن فكره أن النبي صلى الله عليه وسلم له هيبة أيضاً، وأن بيان خطأ نسبة قول إليه عليه الصلاة والسلام أولى ألف مرة من الجمود والتوقف عند جهد بشري، نجزم أن صاحبي هذا الجهد لا يقطعان بصحة كل ما نتج عنه، وإنما لسان حالهما يقول كما كان الشافعي رحمه الله يقول: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب” .

ويُطلق بعضهم عبارة “الطعن في الصحيحين طعن في السنّة”، ولكن معنى “الطعن” هنا بحاجة إلى تحرير، فهل كل من ينقد البخاري أو مسلماً أو يخطئهما – بعِلْم – في تصحيح حديث ما؛ طاعنٌ في الصحيحين، وبالتالي طاعنٌ في سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟

هل كل من ينقد البخاري أو مسلماً أو يخطئهما – بعِلْم – في تصحيح حديث ما؛ طاعنٌ في الصحيحين، وبالتالي طاعنٌ في سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟

الطعن في اللغة يعني الثلب والاعتراض، فلو عاب أحد المتخصصين -بعد دراسة علمية- على البخاري أو مسلم تصحيحَ حديث ما؛ طاعناً في صحة هذا التصحيح، هل يعني فعلُه أنه يطعن في كل ما في الصحيحين؟ أم أن المقصود من هذه العبارة الطعن في كل ما في الصحيحين، بمعنى ردّهما جملة وتفصيلاً؟ إن كان ذلك كذلك؛ فليوضح قائلها مقصوده منها، وكفى الله المؤمنين…

إن خطورة هذه العبارة إذا عُمِّمت ولم تُحرَّر؛ أنها تستلزم تكفير مخالفي قائلها الذي يعتقد أن الطعن في سنّة الحبيب عليه الصلاة والسلام كفرٌ ومروق من الملة.

في سياق الانتصار للصحيحين؛ نحن بحاجة إلى جمع كل الانتقادات الموجهة إلى أحاديثهما، من دون استثناء لأحد الأطراف المنتقدة.. فلننظر في انتقادات المستشرقين وأصحاب الديانات الأخرى، وأتباع الفرق الثلاثة والسبعين والسبعمئة والثلاثين، و”الحداثيين” و”التنويريين” والعلمانيين… وغيرهم ممن وجَّهوا سهام نقدهم إلى أحاديث البخاري ومسلم، ودراسة المعقول منها دراسة علمية رصينة، وقبول ما فيها من صواب، وبيان ما فيها من خطأ، وردّه بعلم وحلم وحزم.

إن الانتصار للصحيحين يحتاج منا إلى دراستهما حديثاً حديثاً، والتوسع في معرفة أحوال رجالهما رجلاً رجلاً، وعدم الركون إلى التقليد، فكم ترك الأول للآخر، وعلم الحديث لا يقبل الجمود كما كان يقول المحدث الألباني رحمه الله تعالى ، والذي بدوره كان يجزم أن في البخاري ومسلم أحاديث ضعيفة، بل وضعّف بعض أحاديثهما أو بعض الألفاظ فيها.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى