مقالاتمقالات مختارة

الاستبداد وسنن الابتلاء | د. جاسر عودة

الاستبداد وسنن الابتلاء | د. جاسر عودة

 

 

الفلسفة المادية التي تتجلى في المنهجية الوضعية في العلوم المعاصرة، لا منطق لها إلا الأسباب والنتائج المادية. لا يصح في التفكير (العلمي) المعاصر عندهم تفسير لأي ظاهرة إلا أن يكون عن طريق (أسباب) مادية محسوسة أدت إليها، مما يُشترط أن يقاس ويحسب ويلاحظ رياضياً أو معملياً. وإلا فالتفسيرات التي لا تخضع للحواس المادية أو التي تتعلق بغايات معنوية مستقبلية أو عقائد إيمانية غيبية لا تقع عندهم ضمن دائرة العلم ولا دائرة المنطق. هذا هو حال المنهجية (العلمية) المعاصرة التي يتبناها للأسف أغلب البشر مسلمين وغير مسلمين.

أما في المنهجية الإسلامية الأصيلة – وليس المنهجية التبريرية التي انهزمت أمام المادية – فالأسباب بعضها مادي مباشر وبعضها معنوي غيبي، والتفسير المنطقي للظواهر قد يتعلق بأسباب من الماضي كما يتعلق بغايات للمستقبل، أي بغايات معينة يسعى النظام الكوني برمته لها ضمن منظومة من القوانين العليا التي صممت أصلاً لتشد الحاضر تجاه المستقبل. هذه الغايات والقوانين العليا هي منظومة السنن الإلهية أو السنن الربانية، أي النواميس التي وضعها الله تعالى لنظام الكون باطراد وإحكام، وقال عنها سبحانه: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا – فاطر ٤٣).

من هذه السنن ما يتعلق بالابتلاء والبأساء والضراء والعذاب حسب المفاهيم القرآنية، كرد فعل كوني للطغيان البشري والاستبداد والفساد في الأرض. (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ –  الروم ٤١)، (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ – الأعراف ١٣٠)، إلى آخرها. إذن هناك فساد وبلاء ونقص عام يصيب الناس أحياناً، وغاياته حسب السنن الإلهية أن يتعظ الظالمون ويتذكروا الحق ويعودوا إليه.

وهناك سنن مقابلة تتعلق بأن تمتلئ الأرض بالبركات والرزق والمدد حسب المفاهيم القرآنية، كرد فعل كوني واعي للإيمان والتقوى والاستغفار من الأخطاء والعيوب. (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ – الأعراف ٩٦)، (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا – نوح ١٠-١٢)، إلى آخرها، والنصوص القرآنية والبيان النبوي على صاحبه الصلاة والسلام في هاتين السنّتين كثيرة ومتشابكة يضيق المقام عن تفصيلها.

وما نراه اليوم من بلاء عام يتعلق بوباء الكوفيد-١٩ أو الكورونا هو من سنن الابتلاء والعذاب لا ريب في ذلك، ولكن تلك البلاءات ليست حدثاً جديداً على هذا العقد الأخير من أعمارنا، وإن كانت العدوى بهذا الفيروس تحديداً خطيرة وخفية نظراً لعدم ظهور أعراض المرض قبل أيام من حمله مما يؤدي إلى انتشاره السريع، ونظراً لخطورته على ضعاف المناعة الطبيعية، ونظراً لتأثير الإجراءات الضرورية لاحتوائه على اقتصادات ونمط حياة بعض الدول ذات الهيمنة، مما أدى إلى اهتمام خاص بهذا المرض، وهو اهتمام في محله على أي حال، وإجراءات وقائية ضرورية إن شاء الله. إلا أن سنن الابتلاء وظهور الفساد في البر والبحر في تصاعد حاد وغير مسبوق منذ سنوات عديدة، ويلاحظ ذلك كل متابع للظواهر الأرضية الكلية ومنحنى الكوارث الطبيعية فيها وتوجهه المتصاعد، واستهتار البشر عموماً بالفساد وعواقبه واستمرارهم في عبادتهم للمال والطاغوت والشهوات – مسلمين وغير مسلمين.

وسنن الابتلاء رداً على الطغيان البشري والإفساد في الأرض لها دورة ذات مراحل واضحة بيّنتها آيات الكتاب العزيز، تبدأ بالوعظ والإنذار، ثم الإملاء والإمداد، ثم وقوع البلاء قريباً من ديار الظالمين، ثم وقوع العذاب لعلهم يرجعون، ثم إذا لم يعودوا إلى ربهم ونسوا ما ذكروا به فُتح عليهم أبواب كل شيء (حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ – الأنعام ٤٤)، ونحن قد دخلنا إذن في مرحلة العذاب والفتنة ولعلهم يرجعون، فهل تعي البشرية في عمومها الدرس وتفكر في عبادة الله حقاً وتكريم الإنسان حقاً وإقامة القسط والميزان حقاً؟ أو على أقل تقدير: هل يدرك المؤمنون طبيعة المرحلة فيصلحوا أنفسهم فتنقلب عليهم خيراً وتوفيقاً وفلاحاً إن شاء الله تعالى؟

وقد يستشكل بعض الناس فيقولون إن هذا الابتلاء عام، بل قد يعاني من تبعاته المؤمنون أكثر من غيرهم، والأخيار أكثر من الأشرار، والفقراء المساكين أكثر من الأغنياء المستكبرين، والدول والمدن الضعيفة أكثر من الدول والمدن القوية، والعقلاء المسالمين أكثر من السفهاء المعتدين، فكيف يكون هذا من سنن الله وأين الخير فيه؟ والجواب أن عموم الابتلاء بالعذاب هو أيضاً من السنن الإلهية، وليس فيه ظلم ولا جور حاشا لله، وإنما فيه فتنة وتمحيص لكل الناس مؤمنهم وكافرهم، ومصلحهم وطاغيتهم، كل على شاكلته.

فمن سنن الله أن البلاء يعم إذا عم الفساد، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألته أم المؤمنين زينب – وأم المؤمنين أم سلمة في رواية رضي الله عنهما: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (إذا كثر الخبث)، ولذلك دعا موسى صلى الله عليه وسلم حين أخذت الرجفة أي الزلازل الصالح مع الطالح في زمنه، فدعا: (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ. أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا – الأعراف ١٥٥).  فإذا أكثر السفهاء والطغاة والمستبدون على أنواعهم الفساد والشر كما نرى في واقعنا المعاصر، واختل التوازن الكوني العام، فإن سنن الله لا تحيد، وينجي الله في نهاية الأمر الذين قاموا بأمانة النهي عن السوء، كما يشاء سبحانه. (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ – الأعراف ١٦٥).

علينا أن ندرك إذن أن ما يحدث في عصرنا خاصة في السنوات الأخيرة من ظلم للإنسان – المسلم وغير المسلم والعربي وغير العربي، وسفك للدماء بمختلف الوسائل، وانتهاك الأعراض والحريات والحقوق، واختطاف الأبرياء والبريئات، وإخراج الناس من بيوتهم شرقاً وغرباً، وإهلاك لما خلق الله من حرث ونسل في الوديان والبحار والأنهار والغابات، والاستخفاف بالوحي والإيمان والعبادة والأخلاق والقيم، وتشويه الدين واللعب به على موائد السياسة والتجارة والإعلام، وشرعنة الشذوذ والفسوق والعصيان شرقاً وغرباً، وسجن وتعذيب واضطهاد الصالحين والمفكرين والعلماء والذين يأمرون بالقسط من الناس رجالاً ونساء وشباباً وشيوخاً، وصعود طوائف من أسافل الناس وسفهائهم في كل مجتمع – شرقاً وغرباً – على حقوق ودماء وأعراض غيرهم من الشرفاء والأبرياء، إلا من رحم الله – كل هذه الظواهر المعيشة لها تبعات في غضب الأرض والسماء، وردّ الفعل الذي نراه، وما يعلم جنود ربك إلا هو.

وبعد الإدراك الواعي للواقع حسب هذا المنظور الإسلامي السنني، علينا أن نسعى لتغيير ذلك الواقع، بدءاً من تغيير أنفسنا إلى الأقرب لمرضاة الله والأقسط من القول والعمل، وانتهاء بتغيير نظم الطغيان والفساد والاستبداد من أسفل لأعلى، كل على شاكلته وحسب وسعه. (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا). فإن فعلنا ذلك فإن هذه المحن ستنقلب إن شاء الله إلى منح، ويخرج المؤمنون من الامتحان أنضج إيماناً، وأوعى عقلاً، وأصلب عوداً، وأحزم تدبيراً، وأقدر على الإصلاح في هذه الأرض، ويصطفي الله تعالى من يشاء من الشهداء، وهو أعلم وأحكم.

وأما الفيروس فستدور دوائر الأيام، ويذهب إن شاء الله كما ذهبت كل طواعين التاريخ، ولكن الذي يبقى هو الدرس المستفاد والعمل الصالح وإجابة السؤال الكبير: هل نكون من الذين قال الله فيهم (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ – الأعراف ٩٥)؟ أم نكون من الذين قال الله فيهم: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ – البقرة ١٥٥-١٥٧)؟ نسأل الله أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأن ينجي المؤمنين الصادقين من كل مكروه وسوء، وأن يرفع البلاء ويعفو عن السيئات وينشر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. آمين.

 

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى