مقالاتمقالات مختارة

الاستبداد عدو الوجود

الاستبداد عدو الوجود

بقلم خالد سعد النجار

«الاستبداد» كلمة لا تبعد كثيرا عن «الاستعباد»، إلا أنه استعباد أعم وأشمل من الاستعباد الجسدي التقليدي المتعارف عليه على مر الأزمنة الغابرة .. إنه استعباد جسدي وفكري وسلوكي وأخلاقي وتربوي وتنموي .. استعباد لا يقصد منه إلا تحطيم إرادة الشعوب لاكتناز خيراتها والاستحواذ على مقدراتها من قبل طغمة  لا يهمها إلا نفسها ومتعتها، ولو أمكن إفناء الشعوب وتنعمها بالسلطة بمفردها لما ترددوا في ذلك، لكن لما كانت الشعوب ضرورية للمستبدين حرصوا على أن تكون شعوبهم مسخا لا ملامح له كي يضمنوا تبعيتها وانقيادها وولائها، وممكن عرى الاستبداد وفصل ملامحه وخططه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الرائع «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» حيث كتب يقول:        ** الاستبداد أشد وطأة من الوباء، أكثر هولا من الحريق، أعظم تخريبا من السيل، أذل للنفوس من السؤال، داء إذا نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي: القضاء القضاء! والأرض تناجي ربها بكشف البلاء. الاستبداد عهد أشقى الناس فيه العقلاء والأغنياء، وأسعدهم بمحياه الجهلاء والفقراء، بل أسعدهم أولئك الذين يتعجلهم الموت فيحسدهم الأحياء!   ** أسير الاستبداد لا يملك شيئا ليحرص على حفظه، لأنه لا يملك مالا غير معرض للسلب، ولا شرفا غير معرض للإهانة، ولا يملك الجاهل منه آمالا مستقبلية ليتبعها ويشقى كما يشقى العاقل في سبيلها. وهذه الحال تجهل الأسير لا يذوق في الكون لذة نعيم غير بعض الملذات البهيمية. بناء عليه يكون شديد الحرص على حياته الحيوانية وإن كانت تعيسة، وكيف لا يحرص عليها وهو لا يعرف غيرها. أين هو من الحياة الأدبية؟ أين هو من الحياة الاجتماعية؟ أما الأحرار فتكون منزلة حياتهم الحيوانية عندهم بعد مراتب عديدة، ولا يعرف ذلك إلا من كان منهم، أو من كشف الله عن بصيرته. ** أقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس، أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان، وأنه يعين الأشرار على إجراء غي نفوسهم آمنين من كل تبعة ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح. ** الاستبداد ريح صرصر فيه إعصار يجعل الإنسان كل ساعة في شأن، وهو مفسد للدين في أهم قسميه أي الأخلاق، وأما العبادات منه لا يمسها لأنها تلائمه في الأكثر. ولهذا تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة صارت عادات فلا تفيد في تطهير النفوس شيئا. ** وقد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة أن يحول ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفل، بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور، وإذا ألزمت بالحرية تشقى وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أطلق سراحها. وعندئذ يصير الاستبداد كالعلق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة، فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها. ** لو ملك الفقراء حرية النظر لخرجوا من الاختلاف في تعريف المساكين الذين جعل الله نصيبا من الزكاة، فقالوا: هم عبيد الاستبداد، ولجعلوا كفارات فك الرقاب تشمل هذا الرق الأكبر! ** أسرار الاستبداد -حتى الأغنياء منهم- كلهم مساكين لا حراك فيهم، يعيشون منحطين في الإدراك، منحطين في الإحساس، منحطين في الأخلاق. وما أظلم توجيه اللوم عليهم بغير لسان الرأفة والإرشاد، وقد أبدع من شبه حالتهم بدود تحت صخرة، فما أليق باللائمين أن يكونوا مشفقين يسعون في رفع الصخرة ولو حتى بالأظافر ذرة بعد ذرة. ** إن الوسيلة الوحيدة الفعالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقي الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس. ثم إن اقتناع الفكر العام وإذعانه إلى غير مألوفه، لا يتأتى في زمن طويل، لأن العوام مهما ترقوا في الإدراك لا يسمحون باستبدال العافية بالقشعريرة إلا بعد التروي المديد، وربما كانوا معذورين في عدم الوثوق والمسارعة لأنهم ألفوا ألا يتوقعوا من الرؤساء والدعاة إلا الغش والخداع غالبا. ولهذا كثير ما يحب الأسراء المستبد الأعظم إذا كان يقهر معهم بالسوية الرؤساء والأشراف، وكثيرا ما ينتقم الأسراء من الأعوان فقط ولا يمسون المستبد بسوء، لأنهم يرون ظالمهم مباشرة هم الأعوان دون المستبد، وكم أحرقوا من عاصمة لأجل محض التشفي بإضرار أولئك الأعوان. ** الاستبداد لا ينبغي أن يقاوم بالعنف، كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصدا. نعم الاستبداد قد يبلغ من الشدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجارا طبيعيا، فإذا كان في الأمة عقلاء يتباعدون عنها ابتداء، حتى إذا سكنت ثورتها نوعا وقضت وظيفتها في حصد المنافقين، حينئذ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة، وخير ما تؤسس يكون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد ولا علاقة لهم بالفتنة. ** إن الله جلت حكمته قد جعل الأمم مسئولة عن أعمال من تحكّمه عليها، وهذا حق. فإذا لم تحسن أمة سياسة نفسها أذلها الله لأمة أخرى تحكمها، كما تفعل الشرائع بإقامة القيم على القاصر أو السفيه، وهذه حكمة. ومتى بلغت أمة رشدها، وعرفت للحرية قدرها، استرجعت عزها، وهذا عدل. وهكذا لا يظلم ربك أحدا، إنما هو الإنسان يظلم نفسه، ما لا يذل الله قط أمة عن قلة، إنما هو الجهل يسبب كل علة.

(المصدر: طريق الاسلام)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى