مقالاتمقالات مختارة

الاستبداد صنو الاستعمار

بقلم عدنان زرزور

مالك بن نبي وعالم الأفكار

-1-

مضى الآن أكثر من خمسين عامًا على صدور الطبعة الأولى من كتاب «شروط النهضة» للمفكر الجزائري المهندس مالك بن نبي- رحمه الله- والذي عرض فيه على نحو غير مسبوق شروط نهضة العالم الإسلامي، وعودة هذا العالم إلى رحاب التاريخ بعد أن ظل خارجه دهرًا طويلاً. ولا نعتقد ونحن نعيد النظر في الكتاب اليوم أن أحدًا وفِّق قبل الأستاذ مالك وأكاد أقول بعده إلى تحديد هذه الشروط بهذا التأصيل الحضاري وهذه النسب الهندسية الدقيقة- إن صحّ التعبير- وذلك منذ أن شقت كلمات جمال الدين طريقها في الجموع النائمة كما يصفها الأستاذ مالك، فأَحْيت مواتها، ثم ألقت وراءها بذورًا لفكرة بسيطة: فكرة النهوض. ثم جاء مالك رحمه الله ليضع شروط هذا النهوض.

ونبحث اليوم أن ننظر لنرى أثر هذا الكتاب في وجهة العالم الإسلامي.. فلا نكاد نعثر له على أثر! بل يكاد أثره أن ينعدم في الدعاة والمصلحين والرواد!!.. ولنجد العالم الإسلامي ما يزال يعاني من نفس الأمراض ونفس المشكلات.. مع تغيّر الأسماء والعناوين! بل ربما تفاقم بعضها وأضحى شرًا مما كان عليه. وبخاصة مع زيف «الكلمة» التي باتت تقارن زيف السياسية أو تمشي بجانبها أو في ركابها.. وهو الأمر الذي كان يخشاه الأستاذ مالك، ولطالما حذّر منه.. وهو يشيد بدور الكلام أيما إشادة ليس في ترشيد السياسة فحسب، بل في خلق الظاهرة الاجتماعية، بوصفها- أي الكلمة- ذات وقع شديد في ضمير الفرد، لأنها تدخل إلى سويداء قلبه فتستقر معانيه فيه.. وتحوله إلى إنسان ذي مبدأ أو رسالة، يقول مالك: فالكلمة يطلقها إنسان تستطيع أن تكون عاملاً من العوامل الاجتماعية حين تثير عواطف في النفوس تغير الأوضاع العالمية.

– 2 –

وأبرز ما نود الإشارة إليه من حديث مالك بن نبي فيما يتصل بهذه النقطة: حديثه عن العامل السلبي الذي يفرضه الاستعمار أو كان يفرضه على حياة الفرد المستعمَر- بفتح الميم- وهو العامل الذي أسماه الأستاذ مالك في المصطلح الرياضي بـ«المعامل» الاستعماري. وقال: إن هذا المعامل في معادلة الفرد المستعمر يؤثر فيه في جميع أطوار حياته بدءًا من حياته وهو طفل.. حيث لا يمده المجتمع بما يقوى جسده وينمي فكره، ولا يهيئ له مدرسة أو توجيهًا، وحيث يضع أمامه بعد ذلك جميع العراقيل إذا بلغ مبلغ الرجال.. حين يجد أن كل الأعمال التي تقوم عليها حياته الاجتماعية لا تنالها يداه إلا بشق الأنفس «ومن خلال شبكة دقيقة مسموعة من الأحقاد تسلبه كل وسيلة لإقامة حياته، وتنشر من حوله الأفكار المحطمة لقيمته والمعرقلة لمصالحه، فتحطيه بشبكة محكمة ينسجها من خبث المستعمر الداهية» على حد تعبيرات أستاذنا رحمه الله.

ونحن اليوم بعد نصف قرن من كلمات مالك رحمه الله نجد أن من حقنا أن ننشئ معادلة جديدة نساوي فيها بين المعامل الاستعماري والمعامل الاستبدادي من حيث التأثير السلبي على حياة الأفراد والأمم والمجتمعات بوجه عام، وفي نطاق العالم الإسلامي الذي كان يتحدث عنه مالك بن نبي بوجه خاص.

وهكذا فقد علمتنا تجارب نصف قرن أن الاستبداد صنو الاستعمار، بل هو وريثه في أداء رسالته التي تؤثر في شقاء الأفراد وضياع الأوطان! بل يمكننا القول: إن الاستبداد حين يهيئ للطفل مدرسة أو توجيهًا وتربية تحطم الأرواح وتغتال العقول والنفوس من خلال ربطه بالأشخاص لا بالمبادئ، وبالزعماء لا بالأفكار.. فإنه في الحقيقة يعدُّ أمة وثنية ويعيد عصر الجاهلية! لأنه حيث تغرب الفكرة يبزغ الصنم كما يقول الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله. وقد يكون في وسعنا عند هذه النقطة أن ننشئ معادلة أخرى نساوي فيها بين الاستبداد والوثنية! لأن الاستبداد لا يغرس أفكارًا بل ينصب أصنامًا!.. شأنه في ذلك شأن الجاهلية!

– 3 –

ولطالما نهى القرآن الكريم عن عبادة الأصنام وهو يخرج العرب من الجاهلية إلى الإسلام.. وكانت أولى كلماته نزولاً «اقرأ» بوصفها الكلمة التي تمثل الانفتاح على عالم الأفكار.. في مقابل عالم الأوثان والأصنام.. فأتاح بذلك لأمة المسلمين أن يقودها العقل والفكر.. حتى تهاوى يوم فتح مكة عالم الأوثان.. وبيد النبي الشريفة هذه المرة وهو يقول: جاء الحق وزهق الباطل.

ولهذا فإن هذه الأمة لم يبلغ منها الأعداء ما بلغوا إلا حين قادتها أوثان الاستبداد بعد أن أضحى في مقدورهم- في ظل العامل الاستبدادي الذي أشرنا إليه- أن ينحرفوا بها أو يقودوا مسيرتها التاريخية إلى حيث يريدون..

ولهذا أيضًا لم يعد غريبًا- على سبيل المثال- أن نجد الصحابة الكرام يتوجهون إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بالسؤال والاعتراض في السلم والحرب.. وأن نجد الشعوب الخاضعة للاستبداد لا تجادل ولا تعترض.. أو يمنعها القهر والاستبداد من السؤال والاعتراض!

لقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر عن المنزل الذي نزله قبل المعركة.. أهو منزل أنزلكه الله؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب!.. وتم التحول عن المكان إلى ماء بدر.

وحين نهى الصحابة عن صوم الوصال، قالوا: يا رسول الله ولكنك تواصل! وكأنهم يقولون أو يتساءلون: هل لك خصوصية نبوية في ذلك؟ أم جدّ في أمر هذا الصوم جديد؟ فقال: إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني!

وأخيرًا هل في وسعنا أن نتحدث من الجهة المقابلة عن القابلية للاستبداد كما تحدث مالك بن نبي عن القابلية للاستعمار؟ وأن نتساءل عن دور الاستبداد نفسه في خلق هذه القابلية أو في تكريسها؟ نقول في الإجابة نعم.. ولهذا حديث آخر.

 

 

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى