الاجتهاد المقاصدي وضرورة التقعيد: قواعد المقاصد للدكتور أحمد الريسوني أنموذجا
د. عبد الله الجباري – المغرب
اشتهر العلامة الدكتور أحمد الريسوني بدراسة المقاصد من بداياته الجامعية الأولى، وواصل جهوده العلمية في الحفر والتنقيب في هذا المبحث العلمي، فارتقى في سلمه، وبرع في إبراز مكنونه، وأبدع في لم شعثه، على ذكاء ونباهة، وتمسك بالشرع واستقامة.
وقد انتقل الدكتور الريسوني في مساره العلمي من درجة إلى أعلى منها وأسمى، فهو:
1* الباحث المقاصدي، الذي كان من أوائل من اقتحم عقبة البحث والدراسة في هذا التخصص بدراسة أكاديمية حول نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي.
2* المجتهد المقاصدي، الذي مارس الصناعة الاجتهادية في المقاصد وبالمقاصد، فأبدع وأمتع، وله اجتهادات في قضايا تعد من الطابوهات التي يتهيب الاقتراب منها كثير من أهل العلم.
3* المُنَظّر المقاصدي، لم يكتف بالاجتهاد في قضايا المقاصد، بل عمل على إرساء دعائم هذا التخصص بكتابات تنظيرية، خصوصا في كتابه الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، وهو كتاب انتبه من خلاله إلى ما لم ينتبه إليه غيره، وسدّ به ثغرة لم يلتفت إليها أحد، وأثرى به الخزانة المقاصدية بما عُرف عنه من رصانة وعمق.
وبعد هذه المسيرة العلمية، استقر به المقام في ساحة التقعيد المقاصدي، وذلك من خلال كتابه الأخير قواعد المقاصد، الذي صدر عن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن سنة 2020، وهو المشروع الذي بذر نواته الأولى آخرَ الفصل الأول من الباب الرابع من نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي[1].
لقد اقتحم عقبة البحث المقاصدي والاجتهاد المقاصدي من يحسن ومن لا يحسن، ومنهم من استغل المقاصد للتحلل من الدين، أو لتسويغ التحلل من عرى الدين، تارة باسم المصلحة، وتارة باسم الضرورة، وأخرى باسم التركيز على المقاصد بدل الوسائل، دون انضباط لقواعد تُذكر، أو التزام بحدود تُرسم، فكانت كتابات الدكتور الريسوني تستحضر هذا الواقع وتعالجه من خلال كتابات متعددة، بنى بها صاحبها بيتا من المقاصد فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة التقعيد، وكان أهل العلم ببيته معجبون، وعن اللبنة يتساءلون: هلا وُضعت هذه اللبنة؟ فكان كتاب قواعد المقاصد تلك اللبنة، عسى ألا تكون الخاتمة.
فما هي الإضافات العلمية لكتاب قواعد المقاصد؟ وما هي مقاصده؟ وهل جمع القواعد فأوعى؟
أسئلة محورية نود الإجابة عنها وعن غيرها، وقبل ذلك، نبسط أهم تفاصيل الكتاب شكلا ومضمونا.
كتاب “قواعد المقاصد”، البنية العامة:
انتبه العلماء إلى أهمية القواعد في شتى العلوم، منهم من ألّف في قواعد الفقه، ومنهم من اشتغل على قواعد الأصول، وغيرهم عمل على جمع قواعد التفسير، واهتم بعضهم بقواعد التصوف، ولم ينتبه أحد إلى قواعد المقاصد إلى أن التفت إليها الدكتور أحمد بن عبد السلام الريسوني فجمعها وأبرزها ورتبها وشرحها واستدل لها مع إيراد الأمثلة التطبيقة.
** القواعد من العز بن عبد السلام إلى أحمد بن عبد السلام:
يتوهم كثير من الناس أن الريسوني نسخة من الشاطبي، وأنه متأثر به غاية إلى حد التماهي، وهذا غير صحيح لاعتبارات متعددة.
- لأن شخصية الريسوني عصية عن الركون إلى تقليد شخص واحد كيفما كانت مكانته ومرتبته، لأنه ذو شخصية متحررة، وقد عبّر عن تحرره من خلال عنايته بموضوع الحرية أولا، ومن خلال تحرره في دراسة مجموعة من المواضيع ثانيا.
- قد يكون الريسوني على وفاق مع الشاطبي في قضايا نظرية متعددة، لكنه يختلف عنه في أثر ذلك الجانب النظري وثمرته، وهو الممارسة الاجتهادية، فالشاطبي مقلد، وفتاواه دالة في الغالب على ركونه إلى التقليد، وهو معترف بذلك مُقِرّ له. والريسوني ميال إلى الاجتهاد، يقتحم عقبته بما عنده من زاد نظري أصولي مقاصدي، واجتهاداته دالة على هذا التمايز بين الرجلين.
- يبالغ الشاطبي في سد الذرائع، حتى قال بمنع صيام نصف شعبان، وهذا ما لا يبالغ فيه الريسوني الذي يهتم بفتح الذرائع بقدر ما يعتني بسدها.
لهذا وغيره، لا أرى الريسوني شاطبيا، وإن كانت للشاطبي بصماته وبركاته القوية في فكره، أما الشخصية العلمية الأقرب إلى شخصيته، فهو عز الدين بن عبد السلام رضي الله عنه، ويمكن رصد مطالع الاتفاق بين الرجلين من خلال:
- العز بن عبد السلام أشهر من اهتم بقاعدة فتح الذرائع السابق ذكرها، وتوسع في الاستدلال والتمثيل لها، والريسوني مهتم بها عمليا، وانتصر لها في قواعد المقاصد[2] علميا.
- خالط العز واقعه وأبناء واقعه، وتفاعل مع قضاياهم، ولم يعتكف في أبراج عالية، والريسوني مثال للعالم المشارك برأيه في قضايا المجتمع وطنيا ودوليا، اتفقنا معه في تفاصيل آرائه أو لم نتفق.
- للعز مواقف من سلاطين وحكام عصره أشهر من أن تذكر، ولقبه “سلطان العلماء” كاف في الباب، وللريسوني مواقف مزعجة للحكام، رافضة للفقه الموروث من الأحكام السلطانية، وما نفَسه الاجتهادي في رفض الأقوال المشرعنة للحاكم المتغلب منا ببعيد.
- كان العز ميالا إلى الاجتهاد رغم انتسابه إلى المذهب الشافعي، والريسوني ميال إلى الاجتهاد رغم انتسابه إلى المذهب المالكي.
- وقبل هذا، فإن الرجلين ابنا عبد السلام، فوقع التوافق القدَري، قبل التوافق العلمي المنهجي.
- ومن عظيم الموافقات، أن اعتنيا بالقواعد تأليفا وتصنيفا، فللعز القواعد الصغرى الموسوم بـالفوائد في اختصار المقاصد، والقواعد الكبرى الموسوم بـقواعد الأحكام في مصالح الأنام. وللريسوني القواعد الصغرى الموسوم بـالفكر المقاصدي قواعده وفوائده، والقواعد الكبرى الموسوم بـقواعد المقاصد، وفي جميعها إبداع واجتهاد وإمتاع.
** منهجية الكتاب:
غني عن البيان أن القواعد العلمية منثرة في المصنفات المطولات، والرسائل المختصرات، لذا اجتهد العلماء في جمعها في مصنفات مفردة، حتى يسهل الرجوع إليها لاستثمارها في الفهم والتدريس والتأليف، فكانت قواعد الفقه عند المقري، وقواعد التصوف عند أحمد زروق، وغيرهما.
أما قواعد المقاصد، فباستثناء الجهد الذي قام به العز بن عبد السلام، بقيت متناثرة غير مجموعة، وهو ما لفت انتباه الدكتور الريسوني، فاجتهد في التفتيش عنها في بطون المجلدات، فعمل على لم شعثها، وجمع متفرقها، وإحكام صياغتها، وإتقان ترتيبها، وإخراجها في مجلد مفرد رثيد.
واتبع في ذلك منهجا صارما لم يشذ عنه طول صفحات الكتاب التي تبلغ 575 صفحة دون فهارس، وذلك وفق الآتي:
أولا: صياغة القاعدة.
ثانيا: سياق القاعدة. يذكر فيه توضيحات بسيطة عن القاعدة، مع التركيز على ذكر مصدرها أو مصادرها، ومن اعتنى بها من العلماء، إضافة إلى الإشارة إلى أنها من صياغة ذلك العالم، أو من نحت المؤلف، أو أنها من إبداعه.
ثالثا: معنى القاعدة. وهو مجال البيان والتبيين، والشرح التفصيلي لقضاياها.
رابعا: أدلة القاعدة. يورد لها ما وقف عليه من الأدلة من قرآن أو سنة أو إجماع أو استقراء.
خامسا: أمثلة تطبيقية للقاعدة. ولا يكتفي بمثال واحد.
وبلغ عدد القواعد ثمانين قاعدة، لذا كانت الأمثلة تقارب المائتين نقصا أو زيادة.
صدّر المؤلف كتابه بمقدمة مختصرة، بيّن فيها أهمية القواعد والتقعيد، وطريقته في الجمع والتصنيف، والترتيب والتهذيب.
لكن الكتاب بدون خاتمة، بخلاف الكتب الأكاديمية المعاصرة، لأنه ليس كتابا مؤلفا بالطريقة التقليدية الصارمة للكتب [مقدمة – باب أو أبواب – خاتمة]، بل هو مشروع مفتوح على الزمن، يمكن اعتباره مقدمة في قواعد المقاصد، كـمقدمة ابن الصلاح في علم الحديث، أو مقدمة ابن خلدون في علم العمران، ومن طبيعة المقدمات أنها مفتوحة لا تُختم، وهذا ما لم يفصح عنه المؤلف، وإن كان قد أفصح عنه في مشروعه الآخر الموسوم بـالكليات الأساسية، فإنه كتب في خاتمته: “هذه الكلمة ليست خاتمة للكتاب، مثلما أن هذا الكتاب ليست له مقدمة، لأنه هو نفسه عبارة عن مقدمة، هو مجرد مقدمة ومدخل إلى علم التفسير، وإلى علم أصول الفقه، وإلى علم الفقه، وإلى علم القواعد الفقهية، وهذا الكتاب/المقدمة هو نفسه بحاجة إلى مزيد من البيان والتكميل“[3]، وهكذا كتاب قواعد المقاصد، فهو مقدمة في حاجة إلى مزيد من البيان والتكميل كأخيه الأصغر حجما، والأقدم زماناً.
** مصادر الكتاب:
يمكن تمييز مصادر الكتاب ومراجعه إلى مصادر رئيسة ومصادر ثانوية.
من خلال قراءة الكتاب، يتبين أن الدكتور الريسوني لا يكاد يحيد في استخراج القواعد عن المشاريع العلمية لرموز المقاصد وكبار أعلامها، كالجويني والغزالي والعز بن عبد السلام والقرافي وابن تيمية وابن القيم والشاطبي والطاهر بن عاشور.
ويمكن اعتبار مادة القواعد مستخرجة من مصادر هؤلاء مع إضافات طفيفة من غيرها، كقواعد المقري مثلا.
أما المصادر الثانوية؛ فهي متنوعة تخصصا وزمانا؛ فهي مصادر من التفسير والحديث وفقهه والعقيدة والفقه والأصول واللغة. وهي مصادر المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، كعبد المجيد النجار ومحمد أبي زهرة ومحمد مصطفى شلبي. إضافة إلى مصادر متقدمة زمانا، لكنها حديثة الصدور جدا، كشرح شهاب القضاعي لابن الوحشي الأقليشي (ت:502هـ)، وهو لم يصدر إلا أواخر 2018، ومقدمة الريسوني لكتاب القواعد وقعها في يونيو 2019.
ومما يلاحَظ في ثبت مراجع الكتاب، إدراج كتابين من كتب التصوف، كـقواعد التصوف للإمام أحمد زروق، والبحر المديد لأبي العباس ابن عجيبة، وهذا ما لم نعهده في الكتابات المقاصدية المعاصرة، التي تعرض عن كتب التصوف باستثناء إحياء الغزالي، وذلك لمكانة المؤلف في الدرسين الأصولي والمقاصدي.
** صياغة القواعد:
اقتبس الدكتور الريسوني أغلب القواعد من كتب الرواد السابقين، وأحيانا تكون القاعدة من نحتهم وصياغتهم، وأحيانا يقتبس منهم المعنى ويصوغه بأسلوبه.
مثال النوع الأول: القاعدة الرابعة، ولفظها أحكام الشريعة لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة.
قال الدكتور الريسوني: “هذه القاعدة المعيارية التي ورد ذكرها بلفظها أو بمعناها عند العديد من العلماء، ومنهم ابن القيم صاحب العبارة الواردة في العنوان أعلاه”[4].
ومن النوع الثاني: القاعدة السابعة والستون، ولفظها المصلحة مقدَّمة على القياس، وهي بهذا اللفظ غير موجودة في التراث بحسب تتبع المؤلف، لكنها موجودة بمعناها “عند بعض الفطاحل من الأصوليين، كإمام الحرمين وابن عبد السلام وابن العربي وابن تيمية والشاطبي، ولهم في ذلك عبارات مختلفة، ولكنها تصبُّ في اتجاه واحد، كقول إمام الحرمين: القواعد الكلية لا تزحمها الأقيسة الجزئية وإن كانت جلية”[5].
ومن أمثلة النوع الثاني: ما يظهر فيه تكليف بما لا يطاق، فالمقصود سوابقه أو لواحقه أو قرائنه[6]، النصوص بمقاصدها[7]، لا نسخ في الكليات[8]، الأحكام تختلف بحسب الكلية والجزئية[9]، أسباب النزول والورود كاشفة عن مقاصد النصوص الشرعية[10]…
** تأصيل القواعد:
لا تقعيد بدون تأصيل، ولا قاعدة بدون استدلال، لذلك أورد الريسوني أدلة كل قاعدة على حدة، ولا يستدل إلا بالقرآن الكريم أو بالسنة النبوية، وما ورد فيهما من نصوص خاصة ذات علاقة بالقاعدة المستدل لها ومضمونها، وأحيانا يستدل بعمومات النصوص، وهذا منهج يغفله كثير من المتشددين الذين لا يكادون يقبلون رأيا إلا إن كان منصوصا عليه بذاته، وهذا من العسر والتشديد في الدين.
واستدل لبعض القواعد بالإجماع، مثل قوله في دليل القاعدة الثامنة: “من أبرز أدلة القاعدة ما هو مجمع عليه من تقسيم العلماء لمأمورات الشرع إلى واجبات ومندوبات …”[11]، واستدل لعدد من القواعد بالاستقراء والتتبع، كعادة الشاطبي وغيره من المقاصديين، مثل قوله في أدلة القاعدة التاسعة: “كل العلماء الذين ذكروا هذه القاعدة استدلوا عليها بالاستقراء والنظر”[12]. وقال في دليل القاعدة الثالثة: “هذه القاعدة يدل عليها الاستقراء”[13].
والاستقراء دليل قوي، لكنه حين صار موضوعا للقاعدة الثانية والسبعين: الاستقراء أعظم الطرق لإثبات المقاصد، احتاج إلى الاستدلال له، ولما كان الأمر بدهيا ومسلَّما به، قال: “كل ما يُستدل به على صحة الاستقراء وأهميته، فهو دليل لهذه القاعدة، فلا تحتاج إلى دليل خاص بها”[14]، وأحيانا يعرض عن ذكر أدلة القاعدة، كالقاعدة السادسة والثلاثين: لا يجوز تعطيل المصالح الغالبة خشية المفاسد النادرة، لأنها قاعدة مجمع عليها من عقلاء الإنسانية أجمعين، وليست محل إجماع المسلمين فحسب، لذلك لم يستدل لها بنصوص الشرع، واكتفى بالإشارة إلى أنها “مستنبطة من ملاحظة أحكام الشرع وسياسته التشريعية … فالقاعدة سائرة على هدى الشرع ومنهجه”[15].
ومسألة التأصيل مهمة جدا، لأن القاعدة ترتقي إلى درجة الحجية أثناء الصناعة الاجتهادية، وتُستَثمَرُ لحسم الخلاف بين المجتهدين، وتعدّ حجة أثناء الترجيح، لهذا السبب آثر ذكر أدلة كل قاعدة، وأشار إلى أن “الشأن في هذه القواعد أن يكون عليها إجماع أو شبه إجماع”[16]، لهذا السبب، حذف كثيرا من القواعد التي تجمعت لديه، لأن استنادها إلى دليل ضعيف، أو كثرة الاختلاف حولها قبولا ورفضا، “يُضعف حجيتها”[17].
** إحكام بناء الكتاب:
تميز كتاب الدكتور أحمد الريسوني بالتهذيب وحسن الترتيب.
أما التهذيب فقد أشار إليه في المقدمة، وبيّن أنه تجمعت لديه في مرحلة الجمع قواعد كثيرة، وهذبها ثم هذبها حذفا وإلغاء، أو جمعا وضما مع نظيراتها وشبيهاتها، إلى أن استقر العدد في الثمانين.
وهذا التهذيب والتقويم، والإلغاء والتثبيت، له دور مهم في ضبط المحتوى وتجويده، مما ينعكس عليه رصانة ودقة، خصوصا أننا في العتبة الأولى من التقعيد، لذا كان التضييق أولى من التوسع، قال الفيلسوف المسلم أبو الحسن العامري: “العلم الأحكم، هو ما يكون الاعتقاد له بعد التهذيب”[18]. وبعد هذه اللبنة التي وضعها الدكتور الريسوني، قد تجود قرائح العلماء والباحثين بنوع من التفريع والتطويل، والإضافة والاستدراك.
وأما حسن الترتيب، فانعكس على مستويات عدة، منها مستوى خارجي، ومستوى داخلي.
بالنسبة للمستوى الخارجي، وقع التناسب في ترتيب الأبواب والفصول، فبدأ بـقواعد المصالح ومكانتها في مقاصد الشريعة، لأنه الأصل واللباب، وبعدها ثنّى بمجالات تنزيل هذه القواعد، وهي مجال الإنسان من خلال قواعد في التزكية والصلاح الإنساني، ومجال العمران، من خلال قواعد في السياسة الشرعية، وداخل هذين المجالين، نحتاج إلى الترجيح أولا، وضبط التعامل مع حالات المشاق ثانيا، والتمييز بين الوسائل والمقاصد ثالثا، فكانت الأبواب على التوالي تحت التراجم الآتية:
الباب الرابع: قواعد الموازنة والترجيح بين المصالح.
الباب الخامس: قواعد في المشقة والتيسير.
الباب السادس: قواعد الوسائل.
وبما أن هذه القواعد لا يلتزم بها إلا المكلفون تطبيقا وتنزيلا، كان لا بد من باب قواعد مقاصد المكلفين، ونظرا لما للقواعد من دور مهم في الاجتهاد، تطويرا له وضبطا، كان الباب الخاص بـقواعد الاجتهاد المقاصدي، ولكيلا يقع الباحث أو المكلف في حيرة من أمره، وُضع بين يديه دليل لطُرق الكشف عن تلك القواعد، وهو الباب الأخير: قواعد الكشف عن المقاصد.
أما حسن الترتيب الداخلي، فأقصد به حسن ترتيب القواعد داخل الباب الواحد، مثل الباب الثاني الخاص بـقواعد في التزكية والصلاح الإنساني، الذي كانت قواعده على هذا الترتيب:
قبل صلاح المجتمع أو العمران، لا بد من إصلاح الإنسان وتهذيبه وتزكيته، فكانت القاعدة الأولى مقصود الشريعة صلاح الإنسان، لأجل صلاح العمران.
لا يتحقق صلاح الإنسان إلا بتخليصه من عبادة إله الهوى، “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ” [الجاثية: 23]، فكانت القاعدة الثانية المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه.
ولترسيخ قاعدة التخلص من الهوى وأدرانه، لا بد من التمييز والمفاضلة بين المصالح المادية والمعنوية، فكانت القاعدة الثالثة عناية الشرع بالمصالح المعنوية أبلغ من عنايته بالمصالح المادية.
وتزكية النفس تحتاج إلى تربية عملية، وهذه التربية تتحقق بالمداومة على أعمال البر والخير، وبانبنائها على العلم، فكانت القاعدتان الرابعة من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها، والخامسة كل علم لا يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه.
وبما أن الإنسان يولد على الفطرة، كان لا بد في تزكية الإنسان ومسار إصلاحه من الحفاظ عليها وتثبيت مبادئها والحرص على عدم انحرافها، فكانت القاعدتان السادسة الرسل بُعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغيير الفطرة وتحويلها، والسابعة ابتناء مقاصد الشريعة على الفطرة.
ولسلامة تربية الإنسان وتزكيته، وجب الجمع بين ما جُبل عليه من طبائع فلا يضادها بالكلية، وبين الشرائع وأحكامها، لذا كانت القاعدة الأخيرة التوازن والتكامل بين الوازع الطبْعي والوازع الشرعي، وإذا وصلنا إلى تحقيق هذا التوازن، فإننا لا محالة قد أفلحنا في أجرأة ترجمة الباب، وهي قواعد في التزكية والصلاح الإنساني.
من فوائد الكتاب وقضاياه:
ضم الكتاب بين دفتيه فوائد متعددة، منها:
- – تحقيق قاعدة مشهورة:
اشتهرت عند العلماء قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، هكذا بكل إطلاق، ودون أي قيد أو شرط، لكن كثيرا من العلماء يعملون على تقييدها أثناء التنزيل والتطبيق، وقد انتبه الدكتور أحمد الريسوني لذلك القيد الذي أشار إليه عبد الوهاب السبكي وغيره، فصاغ القاعدة بألفاظ صارفة عن الإطلاق، فقال: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التساوي[19]، وهي بهذا التقييد لا توجد عند غيره، وقد توسع في نظرية التقريب والتغليب في تبيينها وإيراد النقول المناسبة لها[20]، قال ابن دقيق العيد في مسألة النهي عن الصلاة في بعض الأوقات: “لا شك أن في إقامة الصلاة مصالحَ؛ كالقراءة والذكر، وما يقتضيه فعل الأركان من التعظيم؛ وقد قدم الشرعُ مصلحةَ تركِ الصلاة[21] في هذه الأوقات على مصلحة فعلها، بسبب رُجحانِ المفسدة في فعلها، على تقديم الفعل على المصلحة في فعلها”[22]، وعبارة “بسبب رجحان المفسدة في فعلها” تبين أن ابن دقيق لا يأخذ بقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح على إطلاقها، وإنما يقدم الدرء في حالة رجحان المفسدة.
وإذا تقرر أن هذه القاعدة لا تُستعمل إلا إذا رجحت المفسدة على المصلحة أو كانتا متساويتين، لزم القول بقاعدة أخرى، وهي جلب المصلحة أولى من درء المفسدة، وهي التي تُستعمل في حالة رجحان المصلحة، ونجدها مستعملة في التراث الفقهي، كالقول بوجوب الصلاة على من اختلط عليها دم الحيض بغيره، احتياطا، قال أبو البقاء الدميري الشافعي (ت:808هـ): “وهذا الموضع مما رجح فيه جلب المصلحة على دفع المفسدة الحاصلة في الصلاة مع الحيض”[23]، وعبارته دالة على أن القاعدة ليست على إطلاق، وقدم الفقهاء جانب المصلحة على المفسدة في قولهم باستحباب إخراج الجنين من بطن أمه ولو بعد وضعها في القبر، “لأن مصلحة إخراجه أعظم من مفسدة انتهاك حرمته”[24].
وهذه القاعدة غير موجودة في كتاب الدكتور الريسوني بلفظها ونصها، لكنها موجودة بصياغة مغايرة، وهي لا يجوز تعطيل المصالح الغالبة خشية المفاسد النادرة، ولعله آثرها على غيرها، لما فيها من تدقيقات، ولأنها الأقرب إلى صيغ أصحاب الإمامة والتميز في هذا المجال، كابن عبد السلام والمقري وابن حجر[25]، واعتمدها قبلهم الإمام الخطابي (ت:388هـ) في قوله: “والأمر الخاص مغمور بالعام، واليسير من الضرر محتمل للكثير من النفع والصلاح”[26].
2 – القواعد تجسر الهوة بين العلوم الشرعية:
يتوهم كثير من الناس أن العلوم الشرعية مثل الجُزر، منفصلٌ بعضها عن بعض، وهذا من الأوهام التي لا تستند على أساس، فعلم أصول الفقه وما فيه من عام وخاص ومطلق ومقيد وأمر ونهي ومبهم ومجمل ومفصل … لا ينفصل عن اللغة العربية ومباحثها، وعلم الحديث وما فيه من ظني وقطعي، ومتواتر وآحاد، لا ينفصل عن مباحث أصول الفقه.
هذا التكامل أو التواصل بين العلوم الشرعية نكتشفه في قواعد المقاصد أيضا، وقد أشار إليها الدكتور الريسوني في أكثر من موضع، فعند الحديث عن قاعدة لا نسخ في الكليات، قال: “هذه القاعدة يمكن اعتبارها قاعدة أصولية، لتعلقها بالنسخ، ويمكن اعتبارها من قواعد التفسير، بالنظر إلى كثرة الآيات القرآنية الكلية، التي يتحدد معناها ومقتضاها بناء على هذه القاعدة، ويمكن اعتبارها قاعدة عقدية، لتعلقها بثوابت الرسالات والشرائع المنزلة، وهي إلى هذا كله، قاعدة مقاصدية”[27].
وأثناء دراسة قاعدة أسباب النزول والورود كاشفة عن مقاصد النصوص الشرعية، قال: “الشق الأول: … وهو عادة ما يتم التطرق إليه في علوم القرآن والتفسير، والشق الثاني: … وهو جزء من علوم السنة النبوية وفقهها”[28]، ثم يقول: “فالقاعدة قاعدة علمية عامة”[29].
وفي قاعدة الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات، قال: “هذه القاعدة يمكن وصفها بالقاعدة الفقهية، … ومن المعلوم أن عدة قواعد شرعية يجتمع فيها، أو يتداخل فيها، أكثر من وجه من الوجوه الفقهية والأصولية والمقاصدية”[30].
وعند الحديث عن سياق قاعدة التصرف على الرعية منوط بالمصلحة، قال: “هذه إحدى القواعد الفقهية المعروفة، فلا يكاد يخلو منها كتاب من كتب القواعد الفقهية، … ولكنها أيضا قاعدة مقاصدية باعتبار أنها امتداد لما مضى من قواعد تتعلق بالمصلحة”[31].
أما قاعدة سد الذرائع، فهي تنتسب المجالين الفقهي والأصولي، “ومن قديم يتناولها الأصوليون ويدرجونها ضمن مباحث الأدلة الشرعية، ويعتبرها الفقهاء قاعدة فقهية، وأهل المقاصد ينازعونهم فيها، ويعتبرون أنفسهم أحق بها وأهلها”[32].
وبهذا يكشف للباحث أن القاعدة المقاصدية ليست قاعدة معزولة لا امتداد لها، وليست منحصرة في مجال المقاصد دون غيره، بل قد تكون مقتبسة أو مقترَضة من تخصص علمي آخر، أما هي فدائمةُ الامتداد في التخصصات الأخرى، لأن القاعدة المقاصدية تُستثمَر في الصناعة الفقهية، وفي التنظير الأصولي، وفي تفسير القرآن وشرح السنة، بل نحتاجها أحيانا في الحكم على درجة الحديث[33].
3 – المقاصد بين الانضباط والتسيب.
صدّرت المقال بحديثي عن الدكتور الريسوني بعبارات، منها أنه “على ذكاء ونباهة، وتمسك بالشرع واستقامة“، وهي عبارة قد تفاجئ الكثيرين، لأن الحديث عن عالم كبير، يضع فيه كثير من علماء المسلمين ثقتهم، يستفتونه ويستشيرونه، وقلّدوه منصب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بعد الإمام المؤسس الدكتور يوسف القرضاوي، وإذا ارتقى إلى هذه المكانة، فكيف يسوغ لباحث مثلي أن يشهد له بأنه على “تمسك بالشرع واستقامة”؟
لهذه العبارة سببان مؤسفان:
الأول: ابتلينا في عصرنا بنابتة من المنتسبين إلى العلم الشرعي، تسفه كل من كان له اجتهاد مخالف لما هم عليه، ويصفون كثيرا من المجتهدين التنويريين بأوصاف دالة على تمييع الدين والتحلل من أحكامه، ولم يسلم منهم أحد من المخالفين، لذا تجدهم يكتبون عن الشيخ محمد الغزالي والدكتور حسن الترابي والدكتور طه جابر العلواني والدكتور محمد عمارة رحمهم الله، والدكتور يوسف القرضاوي بارك الله في أنفاسه، وغيرهم عبارات قدحية غاية في السفالة، والدكتور الريسوني -مثل هؤلاء- لم يَسلَم من لسانهم.
الثاني: يُتهم المقاصديون على لسان كثير من المنتسبين لأهل العلم بأنهم يستغلون مباحث المصلحة والضرورة والحاجة الملجئة وغيرها سُلّما لإفتاء الناس بارتكاب المحرمات وتيسيرها لهم، ومنهم من اتهم عموم المشتغلين بعلم أصول الفقه باعتباره المدخل الأول للمقاصد، قال الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي عن فقهاء عصر الماوردي وإمام الحرمين وغيرهما أنهم بذلوا “جهوداً جبارة، من أجل تبرير تصرفات الملوك وإضفاء الشرعية عليها، وما لم يجدوه من تشريع في هذا المجال في الكتاب والسنة صريحاً، استنبطوه منهما تأويلاً وقياساً واستحساناً واستصحاباً وسداً لذرائع، وتحقيقاً لـمقاصد ومصالح مرسلة، أو بمفاهيم الإشارة والموافقة والمخالفة، ودلالتي الأولى والاقتضاء، والعام المخصص بالقياس أو المصلحة، والمطلق المقيد بالعقل أو المقاصد، إلى غير ذلك من أساليب الاستنباط التي أوهنت النصوص، وحولت علم أصول الفقه لعبة شطرنج يتلهى بها الفقهاء، ويستفيد منها الحكام”[34].
لعل هذه الاتهامات هي التي جعلت الدكتور الريسوني يركز في مواضع متفرقة من الكتاب على مسألة ربط المقاصد بالانضباط، وأنها ليست وسيلة للتسيب أو فتح الباب أمام فوضى الاجتهاد، بله أن تكون لعبة يلعب بها العلماء الذين يستحضرون هاجس الواقع وإكراهاته، ولا يعيشون في صوامع الرهبان، في عزلة تامة عن المجتمع.
وقد استحضر الدكتور الريسوني هذه التوجسات، ولعلها هي التي حفزته لإصدار هذا الكتاب، لأن التقعيد في ذاته يعمل على مداواة فكرة التسيب وكبحها، وفي الوقت نفسه، يدعو المتهيبين إلى ترك تخوفاتهم، وإن اشترطوا أكثر من القواعد فهم في الجمود مسرفون، وفي التحجر مبالغون، وبالقواعد محاجّون، وقد عبّر عن هذا بقوله: “إن إعمال المقاصد والتعامل معها، فيه اليوم طرفان تنكبا نهج الاعتدال والسداد؛ فوقف أحدهما عند الإحجام والتهيب، وذهب الآخر مع الاندفاع والتسيب، وأحسب أن القواعد تُطمئن المتهيبين الممتنعين، وتبَصّر المتسيبين المندفعين”[35]، ولعل هذا المقصد هو الذي جعله يصدر كتابه على شكل دليل code، وليس على سَنن المؤلفات التقليدية التي قد تضيع القواعد بين ثناياها وتفاصيلها.
وغان عن البيان، أن “التسيب المقاصدي” ليس إلا اتباع الأهواء؛ أهواء النفوس، أو أهواء السلطان، أو غيرهما من الأهواء؛ وبتتبع قواعد الكتاب، نجد قواعد المقاصد أبعد ما تكون عن الميل إلى الهوى، بل إنها تركز على ذم الهوى، والابتعاد عنه، ويكفي أن أشير إلى القاعدة الرابعة عشرة: المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، أما القاعدة الرابعة والأربعون فلا تبقي مجالا للهوى، وتسد عليه كل الثغرات والمنافذ، ونصها: مشقة مخالفة الهوى لا رخصة فيها، ومعناها أن بعض المشاق تكون سببا لجلب الرخص، لكن المشقة المرتبطة بالشهوات فلا رخصة فيها ولا تيسير في شأنها، وضرب الدكتور الريسوني مثالا بإقلاع المدمن على التدخين أو الخمر، فإن التوقف عنه فيه مشقة ولا ريب، وبما أنه محرم، فلا مجال للترخيص في الاستمرار فيه ولو بتؤدة لتحقيق الإقلاع، وعدم اعتبار “مشقة مخالفة الهوى” هو ما أورده القرآن الكريم حكايةً عن الجد بن قيس الذي قال: “ائذن لي ولا تفتني”، وهو طلبٌ من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرخص له في التخلف عن الجهاد والتقاعس عنه بسبب “مشقة” افتتانه ببنات الأصفر وعدم الصبر عليهن، كما حكى القرآن عن الذين تذرعوا بمشقة الحر طلبا للترخيص في عدم الجهاد، “وقالوا لا تنفروا في الحر”[36]، وكانت السنة النبوية على وزان القرآن في رفض الربط بين “مشقة مخالفة الهوى” والرخص، ويكفي أن أورد مثال الفتى الذي سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يأذن له في الزنا، لأنه يشق عليه الإقلاع عنه، فلم يرخص له، وصرفه عن هذه الكبيرة بلطفه المعهود صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وبهاتين القاعدتين يتبين للباحث أن علماء المقاصد لا يتخذون المقاصد ومباحثها سلما لتحقيق أغراض النفوس وأهوائها، وإنما هم على سَنن القرآن والسنة ونهجهما، يرخصون حيث تسوغ الرخصة، ولا يلتفتون إلى المشقة حين تكون ذريعة لنقض عروة من عرى الدين، وكأني بهم يسمونها “المشقة الملغاة” قياسا على قولهم: “المصلحة الملغاة”.
وإضافة إلى القواعد المقاصدية التي تحصن المجتهد من الوقوع في شراك الهوى، هناك قواعد أخرى تنص على ضرورة اتباع الشرع وقواعده، وتحول دون التسيب المشار إليه، وتبين أن الاجتهاد المقاصدي ليس بدعا في الشرع أو مخالفا له، بل هو منه وإليه، ومن أمثلة هذه القواعد:
القاعدة الثالثة والخمسون: من ابتغى في تكاليف الشريعة غيرَ ما شُرعَت له، فعملُه باطل.
القاعدة الرابعة والخمسون: الحيل باطلة متى هدمت أصلا شرعيا.
القاعدة السادسة والستون: اتباع المصالح يُبنى على ضوابط الشرع ومراسمه.
القاعدة السبعون: مقاصد الشريعة لا مصدر لها إلا القرآن والسنة.
القاعدة الحادية والسبعون: لا تقصيد إلا بدليل.
وإذا تجاوزنا هذه القواعد، فإننا نجد نصوصا للدكتور الريسوني تركز على معنى الانضباط وعدم التسيب في المقاصد، مثل قوله: “إذا كان الاجتهاد لا يصح ولا يستقيم إلا بمراعاة المقاصد، واعتبار النصوص بمقاصدها وعللها، فإن لذلك حدودا وقيودا، لا بد من مراعاتها، منعاً للاسترسال في توليد العلل والمقاصد كيفما كانت، ثم تحكيمها بتعسف في معاني النصوص وأحكامها”[37]، إلى أن يقول: “لكن إذا دخل الإفراط، وأصبح تعليل النصوص أو تأويلها مؤديا -بقصد أو بغير قصد- إلى تعطيلها وإبطال مقتضياتها، فهذا ما لا يصح ولا يجوز، بل هذا النوع من التعليل والتأويل، هو الذي يكون باطلا”[38].
ولعل أهم مدخل للتسيب هو توسيع مسمى المصلحة، فتصير متضمنة للمصلحة الحقيقية والمصلحة المتوهمة، لذا وجب “إحاطتها بما يلزم من القواعد والضوابط وضمانات الفهم السديد والاستعمال الرشيد”[39]، وبالتالي، فإن “الأخذ بالمصالح وبناءَ الأحكام والتصرفات عليها، لا يكون بمحض الرأي والنظر، ولا بمجرد الرغبة والتشهي، وإنما يكون وفق ضوابط الشرع ومراسمه”[40].
وفي سياق آخر، يميز الريسوني بين علماء المقاصد، وبين “الخائضين” في المقاصد، فيقول: “إن بعض المثقفين الخائضين في مقاصد الشريعة، أصبحوا يعولون في تقريرها وتفسيرها على ذاتيتهم ومرجعياتهم الفكرية والفلسفية والسياسية، أكثر مما يعولون على الكتاب والسنة، لذلك تعيّن علينا اليوم أن نقول –ولو من باب التذكير-: إن المصدر الوحيد لاستمداد مقاصد الشريعة وتفسيرها هو الكتاب والسنة”[41]، ولعل استعماله لكلمة “الخائضين” كاف في الدلالة على التسيب المذموم، والتحذير منه، لِما فيها من إحالة على المعجم القرآني، كقوله تعالى: “وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ” [سورة المدثر، الآية: 45]. و”… فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ” [سورة الأنعام، الآية: 91].
وبعد مطارحات متعددة، وإشارات منثرة بين دفتي الكتاب، يبين الدكتور الريسوني “أن كافة مقاصد الشريعة، إنما هي بنات نصوص الشريعة”[42]، فلا انسلاخ من الشريعة، ولا تمييع لنصوص الشريعة، ولا حَكَم غير نصوص الشريعة.
لم يكتف الدكتور الريسوني بالكلام العام في حديثه عن التسيب وعدم الانضباط، بل بيّن بعض مداخله وعتباته الرئيسة للتحذير من الوقوع فيها، ومنها فهم نصوص الشرع بلغة عربية مولدة أو حادثة، ولتحصين الباحثين من هذه الآفة، أشار إلى قاعدة لا تقل أهمية عن القواعد السابقة، وهي: لسان العرب هو المترجم عن مقصود الشارع، والمقصود بـلسان العرب، هو اللغة العربية “التي نزل بها القرآن، … لغة الوحي، ولغة زمان الوحي، وليست عربية العصور اللاحقة إلى اليوم، بما طرأ عليها من تغيرات أيا كان قربها أو بعدها”، وبما أن القرآن لم ينزل بلسان عربي فقط، بل بلسان عربي مبين، فإن لغته “يجب تفسيرها وترتيب معانيها ومقاصدها على أفصح الاستعمالات العربية، دون ضعيفها وركيكها ولو كان عربيا”[43]. وللمعاصرين منزلقات متعددة في فهم النص القرآني بسبب عدم انضباطهم لهذه القاعدة، وهذا من أسباب وقوعهم في بدع التفاسير التي أفردها بالتأليف الإمام عبد الله بن الصديق الغماري، وهو من شيوخ الدكتور الريسوني[44].
4 – تيسير الاجتهاد
غني عن البيان أن علماء المسلمين الأوائل اقتحموا عقبة الاجتهاد بما لديهم من زاد معرفي قلّ أو كثر، لإيمانهم بأن ما لا يُدرك كله، لا يترك جله، ولإيمانهم بأن قول المجتهد ليس معصوما ولا مقدسا، ومن أخطأ فإن غيره ولو كان من تلاميذه سينتقده ويختلف معه، وقد اختلف ابن القاسم مع مالك، واختلف أبو يوسف ومحمد بن الحسن مع أبي حنيفة، ولا ضير في ذلك، بل يمكن أن نزعم أن الفقه لم يتطور إلا بأمرين اثنين:
الأول: الإقدام على الاجتهاد وعدم التراجع والتهيب.
الثاني: الحركة النقدية التي واكبت الصناعة الاجتهادية.
وبعد مرحلة من التطور والنضج، ارتد الفقهاء القهقرى، وشددوا في شروط الاجتهاد، وأعلنوا إغلاق أبوابه، وأحكموا الإغلاق جيدا، وتطور الأمر إلى معاداة من ادعى الاجتهاد ومحاربته، إضافة إلى حرمانه من المناصب الدينية التي لم يحظ بها إلا المتمذهبون، كالقضاء والإفتاء والحسبة والشورى وغيرها.
في هذا السياق، ظهر في عصرنا بعض العلماء الذين مارسوا الاجتهاد، ولم يخضعوا لما اعترض سبيلهم من إكراهات، ومنهم من اتخذ المقاصد مدخلا أساسا للاجتهاد، وبفعلهم ظهر ما اصطُلح عليه بـالاجتهاد المقاصدي، وهو مصطلح غير متداول في التراث الفقهي الإسلامي، ولعل المتقدمين كانوا يلمحون له بعبارة مشابهة، وهي عبارة الاجتهاد المصلحي[45].
ورغم هذا الإقدام، ما زال كثير من أهل العلم يروجون لمبدأ الإغلاق، ويؤكدون على أنه لا وجود في عصرنا لمن تتوافر فيه شروط الاجتهاد، وقد تنبه إلى هذا الدكتور الريسوني في سياقات متعددة، وبيّن أن شروط الاجتهاد يمكن تعديلها تيسيرا لا تعسيرا[46]، ودعا من اكتسب تلك الشروط ألا يتهيب من الاجتهاد، لأنه إن أخطأ فهو مأجور، وإن أصاب فله الأجران، وهو ما جعله ينتقل من تيسير الشروط، إلى تحفيز العلماء إلى الإقدام وعدم الإحجام، فقال: “ألا فلْيتقدم المجتهدون والباحثون، وليُقْدِموا مطمئنين مرتاحين، غير متهيبين ولا وجلين”[47]، وكأنه بهذه الدعوة وبهذا التشجيع يتبنى مقولة شيخه أبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري: “الاجتهاد في طلب الحكم عبادة”[48].
قد لا نبالغ إذا قلنا إن مشروع دليل قواعد المقاصد الذي أنجزه الدكتور الريسوني يندرج في إطار تيسير الصناعة الاجتهادية، وذلك بتقريب القواعد من الباحثين والعلماء، وهو ما أشار إليه في مقدمة الكتاب ردّا على الذين يتعاملون مع الاجتهاد المقاصدي بالتهيب أو الإنكار، وبيّن أن جزءا من تحفظاتهم المعرقلة لهذا الاجتهاد قد تعالَج بـ”دراسة قواعد المقاصد واستعمالها”[49].
ونظرا لقناعته الراسخة بضرورة الاجتهاد وأهميته، فإنه أورد رأي الشاطبي الذي جعل الاجتهاد على ضربين، أحدهما: لا يمكن أن ينقطع، وثانيهما: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا، وعلّق عليه تعليقا عابرا وطريفا بقوله: “وحتى هذا نرجو ونأمل أن يستمر حتى قيام الساعة”[50].
وإضافة إلى حضور قضية تيسير الاجتهاد في السياق العام للكتاب، نجدها حاضرة بقوة في قواعده، خصوصا الباب الثامن: قواعد الاجتهاد المقاصدي، الذي عمل من خلاله على أجرأة مطلبه السابق الداعي إلى تيسير شروط الاجتهاد، اعتمادا على قواعد مقررة عند العلماء، من ذلك قاعدة الاجتهاد المصلحي يلزم فيه العلمُ بمقاصد الشريعة دون اللغة العربية، وهي قاعدة تنبني أساسا على ضرورة التمييز بين الاجتهادين الاستنباطي والمصلحي.
في الاجتهاد الاستنباطي، يُشترط في المجتهد العلم بمقاصد الشريعة، والعلم باللغة العربية التي بدونها لا يمكن للمجتهد أن يستنبط الأحكام الشرعية من نصوص القرآن والسنة.
أما الاجتهاد المصلحي، “المبني على تقدير المصالح والمفاسد المجردة، دون توقف على النظر في نصوص معينة”، فيُشترط فيه العلم بمقاصد الشريعة، ولا يُشترط فيه إتقان اللغة العربية، بل يمكن لمن يسلك سبيل هذا الاجتهاد ألا يعرف العربية أصلا، لأن علمه بمقاصد الشريعة -التي تلقاها عن غيره وضبط تفاصيلها- “هي التي تكشف ما يقبله أو يطلبه الشرع من المصالح، وتكشف مراتب تلك المصالح وأجناسها، وما يُعظَّم منها ويُقَدَّم، وما هو دون ذلك، وتكشف ما يعتبره الشرع مفاسد، وأي تلك المفاسد أشد، وأيها أخف، وما يُغتفر منها وما لا يُغتفر”[51].
وأورد لذلك مثال السياسات العامة للدولة والمجتمع، فإنها تتطلب اجتهادا مسترسلا سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، والاجتهاد فيها تقديرا وتدبيرا من قبل ولاة الأمر ومستشاريهم لا يتطلب مكنة في اللغة العربية[52]، ولو اشترطنا هذا لألزمنا المسلمين غير العرب من ماليزيين وباكستانيين وأتراك بضرورة اشتراط التمكن في اللغة العربية لكل من يتولى ولاية رئاسة الدولة أو الوزارة أو غيرهما من الولايات.
وبعض هذه القضايا قد لا يحسن الفقهاء العارفون باللغة العربية حلها، بل قد يعَقدونها، أو قد يقعون في “تخبط” كما قال الجويني، مثل حالة الاقتتال الداخلي؛ من حرب أهلية أو غيرها؛ إذا انتهى إلى صلح أو استسلام، فإن أحد طرفيها قد يكون باغيا، ولو اتبعنا الفقهاء المتقنين للغة العربية، لقالوا بضرورة الحكم على البغاة بما أصابوه من أبدان وأرواح، وما أتلفوه من أموال، وسيستدلون لذلك بنصوص من الكتاب والسنة. أما رجل السياسة/ولي الأمر، فإنه قد يعتمد على المصلحة ولو لم يكن على دراية باللغة العربية، ويصدر عفوا عاما، وتتحمل الدولة تبعات ذلك “تشجيعا على إتمام الصلح وتثبيت السلم وتضميد الجراح”[53].
ونظير هذا اختلاف الفقهاء في مدة مهادنة الأعداء، وكلهم قاسوا اجتهادهم على صلح الحديبية، فحددها بعضهم في عشر سنوات، قياسا على المدة المنصوص عليها في وثيقة الحديبية، ومنهم من حصرها في ثلاث سنوات، لأن الصلح بين المسلمين والمشركين لم يتجاوز هذه المدة، وهذا كله من “تخبط” الفقهاء، لأن الاجتهاد هنا ليس اجتهادا فقهيا استنباطيا، بل هو راجع إلى المصلحة التي قد يقدرها أولياء الأمر وإن كانوا غير متقنين للغة العربية، قال الإمام الخطابي تعليقا على هذا الخلاف: “وقال بعضهم ليس لذلك حد معلوم، وهو إلى الإمام يفعل ذلك على حسب ما يرى من المصلحة فيه”[54].
ومن فوائد هذا التمييز بين الاجتهادين الاستنباطي والمصلحي، أن الثاني يسهم في حل مآزق الأول، ويساعد على تجاوز أزماته، وانحباس آفاقه، وعُسر مقاربته في بعض المجالات، وقد أشار إلى هذه الفائدة العلامة ابن دقيق بكلام مهم ونفيس، حين علّق على اختلاف الفقهاء في مسألة الفداء بالخمر، بعد أن ذكر أقوال ابن القاسم وأشهب وسحنون، فقال: “النظر في هذا كله إنما هو راجع إلى اعتبار المصالح والمفاسد، وترجيح بعضها على بعض، وفي النظر إلى العمومات والنصوص في مثل هذا عسر شديد“[55].
ولتوسيع مجال الاجتهاد وتيسير شروطه، نجد قاعدة أخرى تبيح الاجتهاد مع الافتقار إلى شرطي المكنة اللغوية، والعلم بمقاصد الشريعة، وهي القاعدة الحادية والستون من الكتاب: الاجتهاد في تحقيق المناط لا يفتقر إلى العلم بالمقاصد ولا اللغة العربية، وهي من القواعد التي تشجع الإنسان على الإقدام على الممارسة الاجتهادية، ولا تكبل قدراته، وهي قاعدة شاطبية من حيث الصياغة، تدعو الفقهاء إلى عدم حصر الاجتهاد في دائرتهم فحسب، بل تدعوهم إلى الانفتاح على تخصصات أخرى، وتحثهم على ضرورة تقليد مجتهدي تلك التخصصات، وهو ما يصطلح عليه: تحقيق المناط.
في تحقيق المناط، نكون أمام تقليد واجتهاد:
- تقليد الفقهاء لأهل المعارف الأخرى من أطباء وبياطرة وعسكريين وغيرهم، وهو التقليد في تحقيق المناط.
- اجتهاد أهل المعارف الأخرى في تخصصاتهم، ظاهرها وخفيها، وهو الاجتهاد في تحقيق المناط.
وهذا تطبيق أصولي لقوله تعالى: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” [سورة النحل، الآية: 43].
ولهذه القاعدة تطبيقات كثيرة، تفرض على “أهل الذكر” تلاقح الأفكار لإنتاج الحكم الشرعي الأنسب والأوفق، فإثبات الأهلة فيه مجالان، الأول فقهي شرعي استنباطي، وهو من مهام الفقهاء واختصاصهم، والثاني علمي تقني، هو تحقيق المناط، وهو من اختصاص الفلكيين لا غير، “وليس شرطا في هؤلاء وعلومهم أن يكونوا من علماء الشريعة ومقاصدها، ولا أن يكونوا عربا أو ذوي علم باللغة العربية”[56].
وقد اعتنى ابن قدامة في مواضع متعددة وكثيرة من المغني بمسألة رجوع الفقهاء إلى أهل الخبرة، والاحتكام إلى اجتهادهم في تحقيق المناط، مما ليس للفقهاء فيه مدخل، مثل تفاصيل وجزئيات باب “جزاء ما كان دابة من الصيد نظيره من النعم”، فإنه ميز بين ما قضى فيه الصحابة، و”ما لم تقض فيه الصحابة، فيرجع إلى قول عدلين من أهل الخبرة، لقول الله تعالى: “يحكم به ذوا عدل منكم” [سورة المائدة، الآية: 95]. فيحكمان فيه بأشبه الأشياء من النعم، من حيث الخلقة، لا من حيث القيمة، بدليل أن قضاء الصحابة لم يكن بالمثل في القيمة، وليس من شرط الحَكم أن يكون فقيها، لأن ذلك زيادة على أمر الله تعالى به، وقد أمر عمر أن يحكم في الضب، ولم يسأل أفقيه هو أم لا؟ لكن تعتبر العدالة، لأنها منصوص عليها، ولأنها شرط في قبول القول على الغير في سائر الأماكن، وتعتبر الخبرة، لأنه لا يتمكن من الحكم بالمثل إلا من له خبرة، ولأن الخبرة بما يحكم به شرط في سائر الحكام”[57].
وإذا تجاوز الفقيه مجاله، ولم يقع الفصل بين مجال اشتغاله ومجال اشتغال الخبير المتخصص، فإنه سيقع لا محالة في “تخبط” حسب عبارة الجويني[58]، ومن ذلك تخبط الفقهاء في أقصى مدة الحمل، حيث تعددت أقوالهم وتشعبت، وأوصلها بعضهم إلى ما لا حد له ولو تجاوزت العشر سنين، وقال أحد المالكية بأنها لا تتجاوز الشهور التسعة، فردّ عليه ابن العربي المعافري ردا قويا لا يخلو من تشنيع: “فمن نصيري من هذا الاعتقاد، وعذيري من المسكين الذي تصور عنده أن أكثر مدة الحمل تسعة أشهر، ويا لله ويا لضياع العلم بين العالم في هذه الأقطار الغاربة مطلعا، العازبة مقطعا”[59]، فردّ عليه العلامة علال الفاسي في طرة مختصرة من طرره، وأسس رده على نقطتين:
الأولى: ما قرره علماء الطب المعاصرون أن المرأة لا يمكن أن تبقى بحمل واحد سنين عديدة.
الثانية: “ليس في القرآن ولا في السنة دلالة صريحة على أكثر أمد الحمل، وهذا شيء مادي، مداره على التجربة والعلم، لا على الدين، فمن عذير العلم من ابن العربي الذي يغضب كثيرا ولأقل سبب”[60]، وهذا تنبيه وجيه، ينقل النقاش من الدائرة الشرعية الفقهية إلى دائرة أهل الاختصاص والخبرة، وهم المجتهدون المقلَّدون وإن كانوا غير عارفين باللغة العربية وبمقاصد الشريعة.
أحمد الريسوني، العالِم الحي:
كثيرة هي المؤلفات المعاصرة التي كتبها أصحابها بعقول وأقلام الموتى رحمهم الله، نقرأها وكأننا نقرأ لعلماء من القرن السابع أو الخامس، إذا تكلموا عن الربا، لن تجد في أمثلتهم إلا الحنطة والشعير والأرز، وإذا توسعوا أكثر قد يتحدثون عن بعض الخضروات التي كانت موجودة في قرطبة أو دمشق آنئذ. وإذا تحدثوا عن وسائل الإثبات لن تجد لهم إلا الاعتراف والشهود العدول والقسامة، وإذا قاربوا ابن الزنى وأحكامه، لن تجد لهم إلا قول أهل القرون الأولى، ممن لا زاد عندهم آنذاك إلا القيافة، مع القول بإمكانية نسبة الابن إلى أكثر من أب.
والدكتور الريسوني ليس مثل هؤلاء، لأنه رجل العلم، ورجل الميدان.
- رجل العلم، لأنه عاش في الجامعة طالبا ومدرسا ومؤطرا ومناقشا، ولعله وقف على أطاريح جامعية كتبها أصحابها بعبق التاريخ.
- رجل الميدان، لأنه انتسب منذ شبابه إلى الجمعيات العلمية والثقافية والسياسية، وشارك في العمل الحزبي، فكان ذلك حائلا دون أن يعيش في برج أو دير، فخالط الناس، وأنصت إلى همومهم، وفكّر قدر المستطاع في حلول لمشاكلهم، لذا لا تجده يطرح في كتاباته البدائل القديمة التي قدّمها أهل القرون الخوالي لأبناء جيلهم.
لهذا قد أعُدّ الرجلَ صوفيا بالمعنى العميق للكلمة، تأسيسا على ما تقرر عند الصوفية أن “الصوفي ابن وقته”[61]، وقد لاحظ الدكتور الريسوني على الباحثين والعلماء المعاصرين هذه الغربة التي فرضوها على أنفسهم، وسجل ذلك بتوسع ووضوح حين الحديث عن التجديد في العلم، فقال: “للأسف، أكثر علمائنا وطلابنا في العلوم الشرعية، يؤثرون الفرار من واقعم المحيط بهم، والهجرة إلى تاريخهم وتراثهم، فإذا طُلب من أحدهم أن يتحدث في موضوع المرأة وقضاياها وأوضاعها اليوم، عاد بك فورا إلى أمنا حواء، وآسية امرأة فرعون، وبلقيس ملكة سبأ، وحدثك عن الصحابيات الجليلات، من خديجة إلى سمية إلى عائشة، وربما عرج بنا على أوضاع المرأة عند اليهود واليونان والرومان، ثم ختم بأقوال الفقهاء والمفسرين، من الطبري إلى القرطبي، ثم يختم درسه أو فتواه بالدعاء الصالح”، وأشار إلى أن المَرْكَبَ السهلَ المحبَّب عند بعض الباحثين “هو الذهاب إلى الكتب القديمة، واستدعاء الأمثلة النمطية الجاهزة، حيث لا جهد ولا جديد ولا تجديد”، وهذا ما جعل بعض الباحثين يعتبرون العلوم الشرعية متحفا تراثيا لا غير، أما الريسوني، فيعتبرها علوما “عملية واقعية، تربط الدين وقيمه وأحكامه بالواقع، وتربط الواقع ومشاكله وحاجاته بالشرع”[62].
وقد يتوهم البعض من هذا الكلام أن الدكتور الريسوني يدعو إلى القطيعة مع التراث، وهذا ما يبدده بندائه الموجه إلى العلماء والباحثين: “استدعوا التاريخ والتراث إليكم، واستعملوهما في واقعكم، لا بأس، ولكن لا ترحلوا إليهما، ولا تغرقوا في بحارهما، نحن سنُسأل عن أحوالنا وأعمالنا وآثارنا في زماننا، وماذا قدّمنا من إجابات واجتهادات وحلول لزماننا ولأهل زماننا”[63].
لم يحد الدكتور الريسوني عن هذا المنهج منذ كتاباته الأولى، فتجده في نظرية التقريب والتغليب يتحدث عن ابن الزنى، وأقصى مدة الحمل، ويناقش ميكيافلي في كتابه الأمير، وغير ذلك من القضايا[64]، وتجاوز الفقه التقليدي في مواطن متعددة، منها قوله: “الأمة هي مصدر السلطات جميعا، وهي مانحة الشرعية وسالبتها عند الضرورة”[65]، و”أن إمامة المتغلب في الأصل ولاية باطلة”[66].
على هذا السَّنن الأبين، انتهج الدكتور الريسوني في قواعد المقاصد، فإنه وإن اعتمد على التراث في استخراج القواعد وصياغتها، إلا أنه في سياق الأمثلة كان يزاوج بأمثلة من التراث الفقهي العام، ومن الواقع المعيش الذي لم يرحل عنه، فنجد عشرات الأمثلة المعاصرة من قبيل:
- لا يجوز التصويت في الانتخابات للأدنى صلاحا وأمانة وكفاءة[67].
- إذا تساوى نظر الناخب في مرشحيْن، ولم يستطع الترجيح بينهما، يصوت لأي منهما بمحض الاختيار[68].
- أمثلة عن السيدا والتدخين والتطرف …[69].
- لا يجوز للدول الإسلامية أن تخضع للحملات المقدِّسة لـ”لحريات والحقوق الفردية” على حساب المصالح العامة ومقومات الأسرة والمجتمع والأمة[70].
- سياقة المرأة للسيارة[71].
- تفعيل قاعدة فتح الذرائع في مجال الإنتاج الفني[72].
- الصيام في المناطق التي تقارب ساعات الصيام فيها عشرين ساعة[73].
- الزواج الصوري الذي يُستعمل في مجموعة من الدول للحصول على الجنسية أو الإقامة[74].
- المصاريف الخاصة بالضرائب أو الأنظمة الاجتماعية لا تغني عن الزكاة[75].
- مناقشة المساواة بين الذكر والأنثى[76].
- وضع القوانين وعلامات التشوير الطرقي مندرج ضمن حفظ النفس[77].
وبدهي أن سَوق هذه الأمثلة الواقعية وغيرها مما نثره في الكتاب فيه إحياء للقواعد التي أماتتها الأمثلة الميتة، وهو عمل متعمد، وينم عن جهد كبير، وعمق في التفكير، إضافة إلى أن بعض تلك الأمثلة تتضمن اجتهادات فقهية، كما في المثال الآتي: “من ليس عنده مورد رزق له ولذويه، وضاقت به السبل والمخارج، فله أن يأخذ قرضا ربويا يقيم به عملا يعيش منه ويدفع به ضرورته. وكذلك يقال فيمن يريد الحصول على مسكن يخرجه هو وأهله من حالة التشرد أو الضيق الشديد في سكناه، أو من حالة الكراء المجحف بمعيشته واحتياجاته بشكل مستمر، لا مخرج منه إلا بالاقتراض الربوي”[78].
ملاحظات حول “قواعد المقاصد”:
كتاب قواعد المقاصد من الكتب الماتعة المفيدة، جمع فيه الدكتور الريسوني بين قدرات متعددة، القدرة على الكشف عن القواعد، والقدرة على شرحها وبيانها، والقدرة على الاستدلال لها، والقدرة على التمثيل لها من التراث أو من الواقع، وهو دليل مفيد جدا لكل باحث في الدراسات المقاصدية، إضافة إلى المتخصصين في الدراسات الفقهية والأصولية، وقد قيدت حوله بعض الملاحظات، منها:
1 – أول ملاحظة وأهمها، هي عدم ذكر دولة الكيان الصهيوني في هذا الكتاب، وكذا جريمة التطبيع، التي كان يقودها رجال السياسة والثقافة، وانتقلت عدواها مؤخرا إلى علماء الشريعة الإسلامية، ومنهم علماء المقاصد، مع العلم أن لذكر هاتين المسألتين مناسبة أو مناسبات في الكتاب، خصوصا عند الحديث عن المفاسد الخالصة، والمفاسد الغالبة، في القاعدة الرابعة، فهل وجود هذا الكيان الغاصب يعد مفسدة خالصة؟ أم أنه مفسدة مشوبة بمصالح ثانوية وقليلة؟ ومثل هذه الأسئلة حول التطبيع.
ولا تخفى أهمية هذه الأمثلة في الكتاب، خصوصا أنه يصير بعد عشرات أو مائات السنين وثيقة تاريخية تؤرشف لأحداث تاريخية ذات قيمة، وتسجل مواقف صاحبه، ولنا أن نرجع إلى تراث ابن تيمية، فإننا إلى اليوم نقرأ ما سجله في كتبه حول شرب التتار للخمر.
2 – بعد قراءة أولية لثبت المراجع المعتمدة، يتبين الغياب الواضح لابن حزم، حيث لا أثر لـلمحلى أو الإحكام أو غيرهما من تراثه، مع العلم أن لحضوره نكهة خاصة، ومصلحة خالصة غير مشوبة بمفسدة، لأننا سنكون أمام سديد آرائه ذات الصلة بقواعد المقاصد، أو سنكون أمام مناقشات ممتعة للمؤلف معه، وهذا ما افتقدناه في هذا السفر المبارك، خصوصا في بعض القواعد، كـ:
** القاعدة الحادية والأربعون: دين الله يسر.
قد نجد استدلالات هذه القاعدة عند ابن حزم أكثر مما نجدها عند غيره، أما الأمثلة فحدث عنها ولا حرج، لأنه فقيه اليسر والتيسير بامتياز، ومما عنده من هذا الباب، أن الصائم الذي جهده الجوع والعطش حتى غلبه الأمر، فرض عليه أن يفطر[79].
** القاعدة السابعة والثلاثون: الضرورات تبيح المحظورات.
لابن حزم في هذه القاعدة وتوابعها وتنزيلها تميز لا يخفى، وله فصل في المحلى تحت ترجمة: “ما حرم من المآكل والمشارب حلال عند الضرورة”[80]، وله فيه تدقيقات مهمة، مثل:
- إباحة أكل كل المحرمات في حالة الضرورة باستثناء لحم الآدمي.
- لا يباح في الضرورة أكل ما يؤدي إلى القتل، والعلة في ذلك أن المحرم أبيح لإنقاذ النفس من الموت أو الضرر، وأكل ما يميت استعجال للموت[81]، وهو مخالف للآية: “ولا تقتلوا أنفسكم”.
- حد الضرورة أن يبقى الإنسان يوما وليلة لا يجد ما يأكل أو يشرب، بدليل تحريم الوصال يوما وليلة.
- من وجد مال مسلم أو ذمي، فإنه غير مضطر، لأن له حقا فيه بمقتضى حديث “أطعموا الجائع”، ولا يكون مضطرا إلا إن مُنع منه.
- من لم يسرق في الضرورة ومات، فهو قاتل نفسه، وعاص لله تعالى[82].
- ميز بين ما يباح للضرورة والإكراه، مثل الأكل والشرب، وبين ما لا تبيحه الضرورة، كالقتل والجراح والضرب وإفساد المال[83].
- لابن حزم قاعدة ذات علاقة بالضرورة، ولعله أول من صاغها، وهي قاعدة: الضرورة لا تبيح الفروج[84]، ولعل ابن العربي المعافري اقتبسها منه، وذكرها بلفظها في الأحكام[85].
- الضرورة سبب لإسقاط بعض الحقوق، وأوردَ لهذا مثالا، وهو إذا قُتل معتدى عليه، وأراد أولياؤه المتعددون قتله قودا، فهذا من حقهم، لكن لا يجوز أن يباشروا القتل جميعا، فينوب عنهم أحدهم، وإن لم يتفاهموا، أجريت القرعة بينهم، والحكمُ بها “إسقاطٌ لحق أحدهما، وإبقاء لحق الآخر، ولا يجوز إسقاط حق ذي حق إلا لضرورة مانعة لا سبيل معها إلى توفية الحق”[86]، كما لا يجوز إسقاط حقوقهم جميعا.
ومما تبين لي من أمثلة هذه القاعدة، أن الزاني إذا زنى بامرأة متزوجة، وترتب عن ذلك إنجاب، فإنه لا يحق له المطالبة بالولد، وإن طالب به فإنه سيكون في نزاع مع صاحب الفراش، والقاعدة في حالة النزاع أن الولد للفراش، تغليبا لضرورة حفظ العرض، وحفظ الأسرة القائمة.
- عارض ابن حزم بشدة قاعدة “الضرورة تقدر بقدرها”، ونص على أن المضطر يأكل حتى يشبع[87]، والغريب أن هذه القاعدة لا وجود لها ضمن القواعد الثمانين، فهل صار الدكتور الريسوني حزميا في هذه الجزئية؟ أم أن لإغفالها نكتة؟.
3 – يلاحظُ الحضور القوي للإمام القرافي، ولم يحضر ابنُ دقيق العيد، وهو أخوه من أبيه، لأنهما معا خريجا مدرسة العز بن عبد السلام، ولهما نظرات سديدة جدا في المقاصد اجتهادا وتنزيلا.
4 – ذكر الدكتور الريسوني قاعدة النصوص بمقاصدها، وهي وإن كانت مستعملة في التراث الإسلامي، إلا أنها غير موجودة بلفظها ونصها، ويعد الدكتور الريسوني أول من نحتها على وزان القاعدة المشهورة: الأمور بمقاصدها، وما أثارني في مبحثها، أنه قال في معناها: “النصوص المعنية في القاعدة هي نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة”[88]، ويظهر لي أنها قد تُطبَّق في نصوص أخرى غير نصوص القرآن والسنة، وهناك نقاش فقهي عند المالكية له علاقة بقاعدتنا، وهو المتعلق بلفظ المحبس/الواقف، هل نتمسك باللفظ ولا نتجاوزه، أم يمكن التعامل معه وفق قاعدة: النصوص بمقاصدها، قال ابن رشد الجد: “لا اختلاف في أن الألفاظ المسموعة إنما هي عبارة عما في النفوس، فإذا عبّر المحبس عما في نفسه من إرادته بلفظ غير محتمل، نص فيه على إدخال ولد بناته في حبسه، أو إخراجهم منه، وقفنا عنده ولم يصح لنا مخالفة نصه.
وإذا عبّر عما في نفسه بعبارة محتملة للوجهين جميعا، وجب أن نحملها على ما يغلب على ظننا أن المحبس أراده من محتملات لفظه بما يعلم من قصده، لأن عموم ألفاظ الناس لا تحمل إلا على ما يعلم من قصدهم واعتقادهم، إذ لا طريق لنا إلى العلم بما أراده المحبس إلا من قبله”[89].
وقال في الفتاوى: “وجب أن يحمل لفظ المحبس على ما يعرف من مقاصد الناس بألفاظهم، وإن خالف ذلك موجب اللفظ في اللسان العربي، ألا ترى أن من حلف ألا يأكل لحما أو بيضا لا يحنث بأكل الحيتان وبيضها وإن كان ذلك لحما في اللسان؟”[90].
وسئل القابسي عمن حبس كتبا وشرط في تحبيسه أنه لا يعطى الطالب إلا كتابا بعد كتاب، وأن الطالب احتاج إلى كتابين أو كتبا من أنواع شتى، فهل يعطى ما أراد؟ فأجاب: “إذا كان الطالب مأمونا أمينا مكن من هذا، وإن كان غير معروف فلا يدفع إليه إلا كتابا واحدا وإن كان من أنواع”، وعلق عليه البرزلي بقوله: “يراعى قصد المحبس لا لفظه، ومنه ما جرى به العرف في بعض الكتب المحبسة على المدارس بشرط عدم خروجها من المدرسة، وجرت العادة في هذا الوقت بخروجها بحضرة المدرسين ورضاهم، وربما فعلوا ذلك في أنفسهم ولغيرهم، وهو والله أعلم مما أشار إليه هذا الشيخ، مراعاة قصد المحبس لا لفظه“[91]، وقال العلامة أبو حفص عمر الفاسي تعليقا على نص البرزلي: “العبرة إنما هي بالقصد، وليس اتباع الألفاظ لذاتها، بل لأجل أنها تدل على المقاصد”[92]. وهذا ما قرره صاحب منظومة العمل الفاسي:
وروعي المقصود في الأحباس // لا اللفظ في عمل أهل فاس
وهناك نازلة أخرى، وهي امرأة أوصت أو وهبت لبنت بنتها دنانير لتنفق منها في حج أو نفاس، فإن البنت ملزمة بالتمسك بلفظ الجدة، وقال اللخمي: “لو نزلت شدة حتى خيف عليها، لأنفق عليها منها حتى تؤمن عليها الحياة، لأنه قد جاء أمر يعلم أن الجدة أرغب فيه من الأول“[93]، وهو عمل بمقصد النص/اللفظ.
هذه النقول وغيرها، تدل على أن قاعدة النصوص بمقاصدها ليست مقتصرة على نصوص القرآن والسنة فحسب، بل متعدية إلى غيرهما من نصوص الحبس والهبة والوصية وغيرها.
ويمكن تطبيق هذه القاعدة في بعض النصوص القانونية المعاصرة، مثل الدساتير، فإنها تقيد بعض المواد بأفرادها وأمثلتها على سبيل الحصر، وأحيانا تبقى هناك فراغات دستورية، لا نحل بها المعضلات والإشكالات إلا باللجوء إلى ما يسمى “التأويل الديمقراطي” للدستور، وهذا التأويل ليس سوى مقاصد النص.
5 – القاعدة السادسة: الشرع لا يرِد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، ذكرها ابن قدامة في المغني، ولما يكون الإنسان في سياق التقعيد، يحاول حصر المعنى بأخصر عبارة وأدقها، وهو ما لم يتفطن له ابن قدامة، لأنه ذكر هذه العبارة عرضا، ولم يدر بخلده أنه يصوغ قاعدة مقاصدية، ويمكن صياغتها بلفظ: ما لا مفسدة فيه لا تحرمه الشريعة، وهي من نحت الدكتور الريسوني[94].
6 – القاعدة الثلاثون: الشرع يرجّح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ويدفع شر الشرين بالتزام أدناهما، وهذه القاعدة من صياغة ابن تيمية، أثبتها الدكتور الريسوني بلفظها دون تصرف فيها، وبقراءتنا لها نتساءل: لماذا نلتزم شرا أدنى وندفع به شرا أعلى؟ ألا يحق لنا أن ندفع الشرَّ وشرَّ الشرين معا وألا نلتزمهما معا؟
بالاطلاع على شرح الدكتور الريسوني، نجده يتساءل: “ما العمل إذا تزاحم على المكلف … شرّان، وليس في مقدوره دفعهما معا، بل لا بد له لاجتناب أحدهما من الوقوع في الآخر؟ والجواب في القاعدة هو: … المطلوب شرعا، إذا تعذر الفكاك منهما معا، اجتناب أكثرهما شرا وضررا، ولو بارتكاب أقلهما شرا وضررا”[95].
من خلال هذا السؤال والجواب، يتبين لنا أن الشرين تعيّنا على المكلف، ولا فكاك له منهما، وهذا ما لا تشير إليه القاعدة في صياغتها المعتمدة، وقد كان ابن دقيق العيد أكثر توفيقا في صياغتها حين قال: “من القواعد الكلية: أن ندرأ أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما إذا تعين وقوع إحداهما، وأن نحصل أعظم المصلحتين بترك أخفهما إذا تعين عدم أحديهما”[96]، ومثّل لذلك ببول الأعرابي في المسجد، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن زجره، و”حيث منع النبي صلى الله عليه وسلم زجره، وتركه إلى فراغ بوله، دلّ على رجحان المفاسد المدفوعة على المفسدة الواقعة”.
7 – القاعدة الثمانون، وهي آخر قواعد الدليل: مصالح الآخرة تُعرف بالكتاب والسنة، ومصالح الدنيا تعرف بالتجارب والعادات. وهي قاعدة من شقين، ولا أخال أن يقع خلاف حول شقها الأول، أما الشق الثاني، فلا أراه كذلك، لأن مصالح الدنيا تعرف بالشرع، وتعرف بالعادات والتجارب أيضا، ولنا في نصوص الشرع من الأمثلة والنماذج ما يسعفنا لما ذهبنا إليه، ومنها:
** النهي عن كنز الأموال.
** ترسيخ مبدأ تداول الأموال، “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” [سورة الحشر، الآية: 7].
** الأمر بالتعاون على الخير، والنهي عن التعاون على الشر، “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان”.
** قال الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستانسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يوذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا” [سورة النور، الآية: 27 – 28]، قال أبو العباس القرطبي عن الرجوع عند عدم الإذن: “وهذا لا بد منه، لأن دخول منزل الغير تصرفٌ في ملكه، ولا يجوز بغير إذنه، لأنه يطلع منه على ما لا يجوز الاطلاع عليه من عورات البيوت، فكانت هذه المصلحة في أعلى رتبة المصالح الحاجية”[97].
** قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له، فليرجع”[98].
** قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكبا ما انتعل”[99]. قال القرطبي: “هذا كلام بليغ، ولفظ فصيح، بحيث لا ينسج على منواله، ولا يؤتى بمثاله، وهو إرشاد إلى المصلحة، وتنبيه على ما يخفف المشقة، فإن الحافي المديم للمشي يلقى من الآلام والمشقات بالعثار والوجى، ما يقطعه عن المشي، ويمنعه من الوصول إلى مقصوده، بخلاف المنتعل، فإنه لا يحصل له ذلك فيدوم مشيه، فيصل إلى مقصوده كالراكب”[100].
** قال الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه … وأشهدوا إذا تبايعتم …”.
** قال الله تعالى: “… فليغيرن خلق الله” [سورة النساء، الآية: 119]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله”[101].
هذه النصوص من الكتاب والسنة كلها عن مصالح الدنيا، لذا يمكن إدخال تعديلات عليها، كأن نقول: مصالح الآخرة تُعرف بالكتاب والسنة، ومصالح الدنيا تعرف بالقرآن والسنة وبالتجارب والعادات.
قواعد المقاصد، آفاق البحث.
الكتب ثلاثة أنواع: الكتاب العقيم الذي لا يفيد، والكتاب الولود المفيد، والكتاب الودود الولود الذي يفيد ويمتع، ويفتح أمام الباحثين آفاقا رحبة للبحث والإضافة والتوسع.
وكتاب قواعد المقاصد لأستاذي وشيخي العلامة الشريف سيدي أحمد الريسوني من النوع الثالث، فهو غاية في الإفادة والإمتاع، جمع ما تناثر في بطون المصنفات، مع قدرة فائقة لربط التراث بالواقع المعاصر، وهو العتبة الأساس في التقعيد المقاصدي، ويكفي أنه طرق الباب، وما على الباحثين والعلماء إلا أن يكملوا المشوار، وذلك عن طريق:
- عقد ندوات وأيام دراسية حول الكتاب ومادته.
- انتهج الدكتور الريسوني منهج الاختصار في هذا الكتاب، ولولا ذلك لكان في ثلاثة مجلدات على أقل تقدير، لذا يمكن للأساتذة الجامعيين أن يوجهوا طلبتهم الباحثين إلى قواعد الكتاب من أجل:
- تعميق شرح وبيان معاني تلك القواعد.
- التوسع في الاستدلال لها.
- إيراد أكبر عدد من أمثلتها التطبيقية.
- الاستدراك عليها، لأن المؤلِّف لم يدّع الاستيعاب، بل فتح الباب أمام الباحثين للاستدراكات والإضافات، فقال: “ومما لا يحتاج إلى بيان أو تأكيد، كون هذا المؤلف الخاص بالقواعد المقاصدية، إنما هو فاتحة وبداية في طريق التقعيد المقاصدي، فكل أشكال الاستدراك عليه تبقى واردة ومطلوبة”[102].
وهو لا يتحدث عن الاستدراك في القواعد فقط، وإنما يدعو إلى “كل أشكال الاستدراك”، وكل الاستدراك تفيد علم المقاصد، وتفيد الدكتور الريسوني من باب “من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء”.
نماذج الاستدراك:
يمكن لمجموعة باحثين أن يوزعوا أبواب الكتاب، لكل باحث باب، وأن يحاولوا الاستدراك على المؤلف في الاستدلال لكل قاعدة.
مثال: قاعدة المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه. استدل لها الدكتور الريسوني بثلاثة نصوص من القرآن، ويمكن إضافة نصوص أخرى من القرآن والسنة، وهي كثيرة، مثل:
** “يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله”. [سورة ص، الآية: 26].
** “ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث”. [سورة الأعراف، الآية: 176].
** “فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله”. [سورة القصص، الآية: 50].
** “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به”، الحديث صححه الإمام النووي، وهو الحديث قبل الأخير من الأربعين النووية.
ويمكن إضافة أقوال العلماء إلى نصوص الشرع، كقول أبي طالب المكي: “لا عبادة إلا بمجانبة الهوى”[103]، وقد أورد الدكتور الريسوني أقوالا متعددة لعدد من العلماء.
ويمكن أن يقع الاستدراك في القاعدة الثامنة: الأوامر والنواهي ليست على رتبة واحدة في الطلب الفعلي والتركي، بالآتي:
- الزنا حرام، والزنا بالبعيدة أهون من الزنا بحليلة الجار، والزنا بالأجنبية أهون من الزنا بالأم أو البنت أو غيرهما من المحارم.
- الكفرُ كفرٌ، لكنه ليس درجة واحدة، فكفر أبي طالب ليس ككفر أخيه أبي لهب، فالأول ظالم لنفسه، والثاني ظلمه متعدي لغيره.
- خيانة أمانة فردٍ واحد أهون من خيانة أمانة الأمة، كإفشاء أسرار تهدد أمن الوطن.
- قدّم النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في بعض الحالات.
- تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصدقة، وعن: أيّ الإسلام خير؟.
- صلاة الليل أفضل من صلاة النهار، قال ابن رجب: “لأن صلاة الليل أشق على النفوس، فإن الليل محل النوم، والراحة من التعب بالنهار، فترك النوم مع ميل النفس إليه مجاهدة عظيمة”[104].
وفي الموازنة بين الفضائل، قال الإمام العراقي: “الحقوق والفضائل إذا تزاحمت، قُدِّم الآكد فالآكد”[105].
أما الاستدراك في القواعد ذاتها، فالباب فيها واسع أيضا، ومنها:
** ذكر الدكتور الريسوني قاعدة القُربة المتعدية أفضل من القاصرة، وهي القاعدة الأربعون، وهي قاعدة يمكن أن نفرع عنها قاعدة أخرى، وهي القربة المتعدية إلى القريب أفضل من المتعدية إلى الغريب، ومن أمثلتها: الصدقة على القريب أولى من الصدقة على البعيد، وإطعام الجار الفقير أولى من إطعام البعيد، والإحسان إلى المسلم أولى من الإحسان إلى غير المسلم، لذا شرع الإسلام عتق رقبة مؤمنة، لأنها أولى من عتق رقبة غير مؤمنة.
وقريب من القاعدة الأربعين أو قياسا عليها، نذكر قاعدة القربة السرية أفضل من الجهرية، لما في الإسرار من حضور القلب والإخلاص والبعد عن الرياء، وورد في شأنها فضل من أنفق بيمينه ما لم تعلمه شماله، ومنها “الصيام لي وأنا أجزي به”، وحاز الصيام هذا الفضل لعدة أسباب، منها أنه عبادة سرية قد لا يتفطن إليها الناس المحيطون بالصائم، قال العلامة ابن رجب: “فضلت صلاة الليل على صلاة النهار، لأنها أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص”[106].
** يُقدَّم ما فيه جلب مصلحة ودرء مفسدة على ما فيه جلب مصلحة فقط. ومثاله كما عند الشربيني في حاشيته على الغرر البهية في فقه الشافعية إذا تعارض النكاح والحج، قُدّم النكاح، لأن فيه مصلحة ودرء مفسدة، وفي الحج مصلحة فقط، فكان النكاح أولى من هذا الاعتبار.
** إباحة المحظورات لا يُتساهل فيها، لذا قال ابن العربي: إباحة المحظورات لا تناط بالدليل الضعيف[107]. وهذه قاعدة ذات علاقة بالمقاصد.
وهناك قواعد أخرى هي في حاجة إلى جهود الباحثين، وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه، وجزى الله أستاذنا الدكتور سيدي أحمد الريسوني على جهوده الطيبة المباركة، وبارك في أنفاسه، ومتعه بالصحة والعافية. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
[1] أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي: 319.
[2] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 175.
[3] أحمد الريسوني، الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية: 127.
[4] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 33.
[5] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 459.
[6] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 279.
[7] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 421.
[8] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 467.
[9] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 477.
[10] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 547.
[11] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 55.
[12] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 61.
[13] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 31.
[14] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 507.
[15] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 232.
[16] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 541.
[17] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 10.
[18] أبو الحسن العامري، الإعلام بمناقب الإسلام: 12.
[19] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 191.
[20] أحمد الريسوني، نظرية التقريب والتغليب: 393.
[21] يقصد: مفسدة إيقاع الصلاة.
[22] ابن دقيق العيد، شرح الإلمام: 4/498.
[23] أبو البقاء الدميري الشافعي، النجم الوهاج في شرح المنهاج: 1/506.
[24] البجيرمي، تحفة الحبيب على شرح الخطيب: 2/308.
[25] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 231.
[26] الخطابي، معالم السنن: 2/304.
[27] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 467.
[28] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 547.
[29] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 549.
[30] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 333.
[31] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 141.
[32] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 165.
[33] نبه إلى هذه المسألة العلامة الأصولي عبد الحي بن الصديق الغماري في موضعين، أولهما في رخص الطهارة والصلاة (ص: 69) أثناء حديثه عن حديث جابر، وفيه أن مريضا أصابته جنابة فاغتسل فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده”، وبعد الإشارة إلى ضعفه من جهة الرواية، قال: “نرى أن هذا الحديث موضوع لمخالفته لنص القرآن ومقاصد الشريعة من اليسر ورفع الحرج في تشريع الأحكام عامة، والرخص خاصة”. وأشار إليها في التيمم في الكتاب والسنة، (ص: 86) أثناء مناقشته لحديث تمسك به الشافعية الذين يقولون بضرورة التيمم من التراب دون غيره، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حث جدارا بعصا ليتحقق له التيمم بالتراب، وبعد مناقشات حديثية، قال: “وحديث حث الجدار بالعصا … موضوع باطل على فرض تسليم صحة سنده الذي فيه كذاب وضعيف، لأنه مخالف لأصل قطعي ثابت بالكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة، وهو تحريم الاعتداء على أموال الناس والتصرف فيها بأي نوع من التصرفات، فإن الشريعة مبنية على رعاية مصالح العباد الضرورية والحاجية والتحسينية، وحفظ المال من المصلحة الضرورية التي لا بد من رعايتها في قيام أمر الدنيا والدين. ولأجل حفظ أموال الناس شرع وجوب الضمان على المعتدي على مال غيره، والقطع بالسرقة، وتعزير الغاصب، وقد عد العلماء حفظ المال من الكليات الخمس التي جاءت جميع الشرائع برعايتها … إذا كان حفظ أموال الناس من مقاصد الشريعة الضرورية الثابتة بالأدلة القطعية، فمن المحال عقلا أن يقصد النبي صلى الله عليه وسلم جدارا في ملك الغير فيحتّه بالعصى ليتيمم عليه”.
[34] مقدمة عبد الكريم مطيع لكتاب تحفة الترك، فيما يجب أن يعمل في الملك: 19.
[35] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 7.
[36] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 296 – 297.
[37] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 427.
[38] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 429.
[39] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 451.
[40] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 452.
[41] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 487.
[42] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 494.
[43] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 514.
[44] قال الإمام أبو الفضل عبد الله بن الصديق الغماري: منها “أن يفسر الآيات بالمعاني التي كانت معروفة للعرب وقت نزوله، حقائق كانت أو مجازات، لقوله تعالى: “إنا أنزلناه قرآنا عربيا”، فيجب فهمه في حدود قواعد اللغة العربية وأساليبها المعهودة لهم، ولا يجوز تفسيره بمعان مستجدة حدثت بعد التنزيل، ومن فسّره بها فقد زعم أن القرآن خاطب العرب بما لم يفهموه، ولا عرفوه، وكان تفسيره من بدع التفاسير”، ومنها “أن يجتنب تفسير ألفاظه باللغات الغريبة، أو تخريج إعرابه على الوجوه الضعيفة أو الشاذة، بحسب القواعد النحوية، لأن ذلك ينافي فصاحة القرآن، التي هي خلوص كلماته من الغرابة والتنافر والتعقيد، ولا شك أن حمل الكلمة على لغة غريبة، أو تخريج الكلام على إعراب ضعيف أو شاذ، يورث تنافرا في الكلمات، وضعفا في التركيب، وكثيرا ما يحمل بعض المعتزلة ألفاظا من القرآن على لغات غريبة نادرة”. عبد الله بن الصديق، بدع التفاسير: 12 – 13.
[45] الطوفي، شرح مختصر الروضة: 3/216. الزركشي، تشنيف المسامع: 3/50.
[46] قال الدكتور الريسوني: “صحيح أن شروط المجتهد قد وقع تعسيرها وتعقيدها على مر العصور، حتى كادت أن تصبح شروطا تعجيزية، وأنها قد أضحت اليوم في أمس الحاجة إلى نوع من التحرير والتيسير”. الاجتهاد، النص، الواقع، المصلحة: 21. [تأليف مشترك].
[47] أحمد الريسوني، الاجتهاد، النص، الواقع، المصلحة: 13.
[48] قال الإمام عبد الله بن الصديق: “المجتهد المخطئ لا يُذم ولا يعنف، بل يثيبه الله على اجتهاده، لأن الاجتهاد في طلب الحكم عبادة”. قصة داود: 50.
[49] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 7.
[50] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 413.
[51] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 404.
[52] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 408.
[53] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 409.
[54] الخطابي، معالم السنن: 2/335.
[55] ابن دقيق، شرح الإلمام: 2/192.
[56] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 419.
[57] ابن قدامة، المغني: 3/443.
[58] قال الجويني: “وإنما قدمنا هذه الأخبار، لمسيس الحاجة إليها فيما نصدر به الكتاب، من طلب القضاء وتقليده وتقلده، وللأصحاب فيه خبط لا أنزله منزلة اختلافهم في تفاصيل الأحكام. ولكن الفقيه إذا لم يكن وافر الحظ من الكليات وأحكام الإيالات، إذا انتهى إلى هذه المواقف تخبط“. نهاية المطلب: 18/461.
[59] ابن العربي، أحكام القرآن: 3/81.
[60] علال الفاسي، أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن: 124.
[61] الكلاباذي، التعرف لمذهب أهل التصوف: 293.
[62] أحمد الريسوني، التجديد والتجويد: 36.
[63] أحمد الريسوني، التجديد والتجويد: 37.
[64] أحمد الريسوني، نظرية التقريب: 293 – 371 – 429. وفي مسألة مدة الحمل، اعتمد على أطروحة جامعية مسجلة في كلية الطب بالرباط.
[65] أحمد الريسوني، فقه الثورة: 30.
[66] أحمد الريسوني، فقه الثورة: 22.
[67] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 150.
[68] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 205.
[69] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 155 – 157.
[70] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 163.
[71] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 269.
[72] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 180.
[73] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 291.
[74] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 338.
[75] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 431.
[76] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 500.
[77] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 544.
[78] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 238.
[79] ابن حزم، المحلى: 4/365.
[80] ابن حزم، المحلى: 6/105 – 106.
[81] هذا من المواطن التي لجأ فيها ابن حزم إلى التعليل.
[82] ابن حزم، المحلى: 12/334.
[83] ابن حزم، المحلى: 7/203.
[84] ابن حزم، المحلى: 9/38.
[85] ابن العربي، أحكام القرآن: 3/147.
[86] ابن حزم، المحلى: 11/254.
[87] ابن حزم، المحلى: 6/105. وقال في 7/205: “قالوا معنى قوله تعالى: “غير باغ ولا عاد”، أي غير باغ في الأكل ولا عاد فيه؟ فقلنا: هذا الباطل، والقول على الله تعالى بزيادة في القرآن بلا برهان، وهذا لا يحل، أصلا لأنه تحريف للكلم عن مواضعه”.
[88] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 421.
[89] ابن رشد، المقدمات الممهدات: 2/428.
[90] ابن رشد، الفتاوى: 2/1124.
[91] البرزلي، جامع مسائل الأحكام: 5/419.
[92] أبو حفص الفاسي، نشر لواء النصر، في الرد على بعض أبناء العصر: 75.
[93] اللخمي، التبصرة: 13/6037.
[94] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 46.
[95] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 198.
[96] ابن دقيق، شرح الإلمام: 1/522.
[97] القرطبي، المفهم: 5/474.
[98] رواه مسلم.
[99] رواه مسلم.
[100] القرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: 5/414.
[101] متفق عليه، واللفظ لمسلم.
[102] أحمد الريسوني، قواعد المقاصد: 14.
[103] أبو طالب، قوت القلوب: 1/148.
[104] ابن رجب، لطائف المعارف: 36.
[105] العراقي، طرح التثريب في شرح التقريب: 6/219.
[106] ابن رجب، لطائف المعارف: 36.
[107] ابن العربي، المسالك: 7/152.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)